بين «بنت المصاروة» و«الصعيد في بوح نسائه»: الفن يقاوم
وظيفة الفن الأولى هي الإمتاع، أن يسلخك عن واقعك ويغمسك في واقع مواز أكثر جاذبية وعذوبة، هناك وظيفة أخرى للفن وهي التوثيق واتباع الواقع، أن يستدرجك الفن لتشاهد حياتك وحياة من حولك في قالب فني جميل يلمسك ويتماهى مع واقعك، أن يوثق فترات أو عادات وتقاليد أو حيوات أشخاص، يفعل ذلك في قالب يجبرك على التفاعل معه من فرط جماله بعيداً عن الكلام الأكاديمي الجاف.
هنا في مصر نمتلك تحت كل حجر حكاية، ووراء كل وجه حكاية أخرى، هناك تراث هائل من الحكايا والشخوص والحواديت تنتظر أن يسمعها أحد قبل أن تندثر تحت وطأة الزمن، خاصة في الجنوب الذي تتمازج حكايات الأرض مع حكايات البشر فيه، وعلى مدار السنوات كان الجنوب جزءاً خصيباً من خيال المؤلفين الذين صنعوا فناً يتخذ من الصعيد محوراً رئيسياً، أغاني وأفلاما وروايات وكتبا كلها دارت هناك.
مؤخراً ومع تطور المجتمع وانفتاحه أصبح هناك اهتمام بالمرأة بشكل خاص، بتحريرها وتوثيق تاريخها ومساعدتها على النهوض، والفن هو إحدى أهم الأدوات التي من الممكن أن تنفذ ذلك ببراعة، فنشطت حركات فنية تسهم في مساعدة المرأة في أن يكون صوتها مسموعاً خاصة المرأة المهمشة في الطبقات الدنيا من المجتمع، وإذا بحثنا عن أكثر فئة تحتاج المساعدة من النساء لوجدناهن في الصعيد، في هذا التقرير نتتبع حركتين فنيتين أسهمتا في مساعدة المرأة في الصعيد.
بنت المصاروة تحاول أن تغني
مركز «نظرة» للدراسات النسوية هو منظمة مصرية غير حكومية تعمل في المجال الحقوقي ومهتمة بقضايا المرأة ومناصرتها، تقدم الدعم الطبي والنفسي والقانوني للنساء المصريات إلى جانب إقامتهم لورش عمل نسوية كان من ضمنها ورشة كتابة للفتيات أقيمت في 2014 وانبثق منها فكرة مشروع «بنت المصاروة» الذي نحن بصدد الحديث عنه اليوم.
تقول «مارينا» المدير التنفيذي لفرقة بنت المصاروة التي تحدثت إلينا في «إضاءات» عن فريقها: بنت المصاروة هو فريق مكون من ثلاث فتيات هن «مارينا وإسراء ومريم» وكان نتاجاً لمشروع الكتابة الذي أقيم في مركز نظرة للدراسات النسوية والذي كان معنياً بتوثيق حكايات الفتيات المصريات بشكل عام، وتهتم فرقة «بنت المصاروة» بتوثيق حكايات فتيات وسيدات الصعيد بشكل خاص، ثم إعادة إنتاج تلك الحكايات في شكل أغنيات تمتزج كلماتها المعبرة عن واقع الفتيات، مع ألحان تراثية وألحان معاصرة.
وبعد أن أطلقن أول ألبوم بعنوان «بنت المصاروة» بعد إتمام ورشة الكتابة مع مركز نظرة، قررن أن يكوِّنَ فرقة موسيقية نسائية مستقلة تحمل نفس الاسم ويستكملن طريق حكي الواقع النسائي المصري عن طريق الأغنيات حتى تكون أكثر تأثيراً.
تستكمل «مارينا» حديثها عن مستقبل الفريق فتقول: فريق «بنت المصاروة» استكمل طريق توثيق وإعادة إنتاج حكايات الفتيات في الصعيد، ومشروعهن الغنائي المقبل هو ألبوم غنائي يحمل اسم «مزغونة» تم استلهام أغنياته من ورشة «حكي» جديدة شاركت فيها 34 سيدة من صعيد مصر، وقد كانت الورشة بمنحة «حقي» من المركز الثقافي البريطاني.
الجديد في الأمر أن فريق «بنت المصاروة» لا يمتلك المال اللازم لإنتاج الألبوم، ولذلك أطلقن حملة تمويل جماعية يستقبلن فيها المساهمات المالية، بدأت حملة التمويل في 9 أغسطس/آب وتنتهي في 17 سبتمبر/أيلول المقبل، ويأملن أن يسهم المجتمع في إنتاج ألبومهن الغنائي لأنهن يؤمن أن ما يقدمنه هو مساهمة في حمل المسئولية المجتمعية التي تسهم في التوعية بمشاكل النساء في مصر، ومن البديهي أن يحاول المجتمع كله مساعدتهن في ذلك.
الصعيد في بوح نسائه
مقالات مسلسلة يتابعها الكثيرون بشغف كبير على موقع مصريات، تحكي المقالات عن حياة النساء في الصعيد، نساء من كل الأعمار جدات وأمهات وفتيات صغيرات، كلهن يتشاركن إرث الجنوب القاسي على نسائه كما هو قاس على الرجال أيضاً، تضفر المقالات كلمات النساء وشروحهن داخل سياق الحكاية كما رووها بلغتهن الجنوبية الصعبة، ثم تتحول سلسلة المقالات إلى كتاب يحمل في طياته الكثير من السحر والألم.
«سلمى أنور» هي كلمة السر، الصحفية المصرية التي قامت بتوثيق هذه الحكايات وجمعها في سلسلة مقالاتها التي تحولت إلى كتاب، وبالحديث إليها قالت إن المشروع كان في البداية مجرد توثيق لواقع الفتيات والنساء في القاهرة والإسكندرية، ثم حدث أن ذهبت «سلمى» في إجازة لجنوب مصر، ورأت أن تستكمل مشروعها التوثيقي بالاتفاق مع «نفيسة الصباغ» رئيس تحرير موقع «مصريات» بالحديث إلى فتيات الصعيد وتوثيق حكاياتهن.
تقول «سلمى» إن حكاياتها لواقع الفتيات في الصعيد كان مجرداً من الآراء النسوية فهي نقلت واقعاً يعيشه هذا النطاق الجغرافي بشكل عام، وترى أن المجتمع الصعيدي ضاغط بشكل كبير على الرجال كما هو ضاغط على النساء، اقتربت سلمى من واقع النساء في الصعيد فرأت الوجه المعنف من المرأة الصعيدية، كما رأت وجه الجبروت الذي بإمكان المرأة فيه أن تقود «رجالة بشنبات» ما أن تصبح كبيرة العائلة، وأصرت «سلمى أنور» أن تنقل هذا الواقع بحذافيره واستخدمت موهبتها في السرد والحكي لتضفي الجو المناسب للأحداث وكأنك تعيش مع هؤلاء النساء اللاتي نقلت واقعهن.
ترى «سلمى أنور» أن النقل الأمين للواقع دون تدخل أيديولوجي يسهم في التوعية الحقيقية بالواقع الذي تعيشه هؤلاء النسوة، حيث إنه لا مجال للتأويل والآراء الشخصية والتحيزات، كما أن الحكايات التي سمعتها لا تحتاج لدعم من أي نوع يثبت أن هؤلاء النسوة يفتقدن أشياء مهمة كالتعليم والصحة، فالواقع بذاته كفيل بتفتيح عيون المجتمع على ما يعانيه الصعيد من تهميش.
الفن يقاوم
عن طريق الأغنيات أو عن طريق تدوين الحكايات، الفن يحاول دائماً أن ينهض بالمجتمع سواء بطريقة مباشرة كما يحاول فريق «بنت المصاروة» أن يفعل أو بطريقة غير مباشرة كما يحاول كتاب «الصعيد في بوح نسائه» أن يفعل، في النهاية الهدف الحقيقي هو أن يساهم الفن المسموع أو المقروء في لفت نظر المجتمع إلى فئة مهمشة في الوطن.
الصعيد ليس المنطقة الوحيدة التي يحتاج إليها الفن، والمرأة ليست العامل الوحيد الذي يجب على الفن أن يهتم به، فكل التفاصيل الصغيرة التي تصنع حيواتنا يشارك فيها الفن بشكل أو بآخر، فبدونه لن يشعر أحد بأي شيء وإذا لم يشعر لن يتحرك إذا لم يتحرك لن يتغير ولن يتطور أي مجتمع، الفن مهم ويؤكد أهميته في كل يوم، يبقى فقط أن نلتفت نحن لتلك الأهمية ونقدرها حق قدرها.