بين حلب وتدمر: قصة هزيمة قوات الأسد أمام داعش
من تدمر إلى حلب، تحركت أرتال الجيش السوري وميليشياته، وفي نفس اليوم الذي دخل فيه حلب فَر جنوده أمام تنظيم الدولة الإسلامية في تدمر. فما الذي حدث في تلك المدينة؟، وكيف خسرها النظام السوري في عدة أيام بينما هو يسجل أعتى انتصاراته على جبهات أخرى؟!
داعش يسيطر على تدمر ، الأسد يستعيدها سريعًا
في مايو من العام الماضي، أطلق تنظيم الدولة حملة عسكرية للسيطرة على مدينة تدمر الأثرية، تلك المدينة الواقعة على خط البادية السوري الواصل بين سوريا والعراق، والمدرجة على لائحة اليونسكو للتراث العالمي. انسحب الجيش السوري النظامي من المدينة ونجحت داعش في بسط سيطرتها بسرعة كبيرة، ورافق ذلك حملة إعلامية تضمنت إعدامات للأسرى وتدميرًا للكثير من الآثار الموجودة بالمدينة، واستغل التنظيم الزخم الإعلامي المصاحب لذلك في الدعاية لنفسه وخاصة من ناحية إمكانياته العسكرية والتنظيمية التي كانت مثارًا للشكوك بعد الضربات المكثفة للتحالف الدولي.مثلت المدينة حينها أهمية إستراتيجية كبيرة لداعش؛ فبجانب أهميتها الإعلامية، فإن تدمر أول مدينة يسيطر علىها تنظيم الدولة من الجيش السوري النظامي بشكل مباشر. تقع تدمر أيضًا على الطريق السريع الواصل إلى مدينة الرقة عاصمة التنظيم المفترضة وإلى الحدود السورية العراقية عبر القائم، كما تتصل المدينة مباشرة أيضًا بدمشق وحمص.
بقيت المدينة تحت سيطرة تنظيم الدولة حتى شهر مارس هذا العام، حين نجحت قوات بشار الأسدبمساعدة روسية عسكرية وبعض الميليشيات المتعاونة معها في هزيمة تنظيم الدولة وإخراجه من المدينة، حيث شاركت قوات من حزب الله ولواء الفاطميين إلى جانب الجيش السوري وبمساعدة الطلعات الجوية الروسية في بسط السيطرة على المدينة وطرد التنظيم منها. أتاح موقع المدينة الإستراتيجي للجيش السوري التقدم شمالاً باتجاه مدينة الرقة، أهم معاقل «داعش» في سوريا، وكذا دير الزور شمالاً، وإلى الغوطة الشرقية لريف دمشق، وريفي السويداء ودرعا جنوبًا.
أيضًا حرص النظام السوري على نشر التطمينات محليًا ودوليًا حول قدرته على إحكام السيطرة على المدن السورية وريفها، كما أعاد توطين جزء من السكان مرة أخرى في تدمر، وبعد اكتمال تحريرها أرسل بوتين فرقة «أوركسترا» روسية أقامت احتفالات تحت ظلال المدينة الأثرية.
داعش يستغل انشغال الأسد بحلب ويدخل تدمر مجددًا
كانت السيطرة على المدينة الأثرية بريق حياة للنظام السوري، إلى أن قام النظام في الأسبوع الماضي بأشرس حملاته على الإطلاق للسيطرة على المدينة السورية الأهم حلب. هاجم النظام السوري حلب الشهباء بقواته وميليشياته المتحالفة معه مثل حزب الله وبعض الميليشيات العراقية والأفغانية بدعم روسي بري وجوي.لم تكن السيطرة على حلب أمرًا سهلاً، حيث اضطر النظام وميليشياته إلى سحب العديد من الجنود والمعدات من جبهات أخرى لأجل السيطرة على حلب؛ الأمر الذي ترك تدمر صحراء خاوية وعندها استغلت داعش الفرصة مرة أخرى. سحب النظام السوري العديد من قواته ذات الكفاءة القتالية العالية ومنها ميليشيات حزب الله ولواء الفاطميين لأجل معركة حلب، وترك مجموعات الدفاع الشعبي التي لم تظهر إمكانيات قتالية جيدة. استغل تنظيم الدولة الفراغ العسكري في المدينة لتنظيم هجوم واسع استخدم فيه المففخات وغيرها من أساليبه المعتادة لينجح في بسط سيطرته على المدينة مرة أخرى.تُعد السيطرة على تدمر أكبر نصر إستراتيجي لداعش منذ سيطرته على المدينة في المرة الأولى في شهر مايو/أيار عام 2015، كما سيطر تنظيم الدولة على عدة حقول للنفط والغاز في محيط المدينة.
مستغلة انشغال النظام والفراغ الذي تركه سحب القوات، هاجمت قوات داعش في الثامن من ديسمبر الماضي مدينة تدمر الأثرية، حيث انطلق أكثر من 4000 آلاف جندي معززين بالدبابات والآليات المدرعة صوب المدينة بهدف السيطرة عليها. استولوا أولاً على التلال المحيطة بالمدينة والمشرفة عليها، ثم أطلقوا هجومًا كاسحًا من عدة جهات؛ ما أدى إلى انسحاب القوات القليلة المتبقية من جيش النظام و المتحالفين معه.استجابت روسيا سريعًا لهذا الحجوم، إذ خرجت الطلعات الجوية لتقصف مناطق سيطرة و تواجد مقاتلي داعش، حيث أعلن وزير الدفاع الروسي عن القيام بـ 64 طلعة جوية أدت إلى مقتل ما يزيد عن 300 عنصر من تنظيم الدولة. لكن يوم الأحد الماضي الموافق 12 من ديسمبر/كانون الأول أعلنت وكالة أعماق التابعة لتنظيم الدولة سيطرة التنظيم على المدينة وفرار مقاتلي جيش النظام والمتحالفين معه منها.تُعد السيطرة على تدمر أكبر نصر إستراتيجي لداعش منذ سيطرته على المدينة في المرة الأولى في شهر مايو/أيار عام 2015، كما سيطر تنظيم الدولة على عدة حقول للنفط والغاز في محيط المدينة، وأطلق هجومًا على قاعدة تياس الجوية التي تقع بين ريف حمص وتدمر يوم الإثنين الموافق 13 من ديسمبر/كانون الأول؛ أي بعد يوم واحد من سيطرتها على المدينة.
دلالات سقوط تدمر بيد داعش في هذا التوقيت
يحمل سقوط تدمر الكثير من الدلالات العسكرية والإستراتيجية عن تنظيم الدولة الإسلامية والنظام السوري.
أولاً: بالنسبة لداعش
تُظهر السيطرة على تدمر في هذا الوقت الحساس، والذي يتعرض فيه التنظيم لهجوم واسع على عدة محاور في سوريا والعراق، إمكانيات تنظيمية وقيادية جيدة، كما تظهر تحكمًا بالموارد البشرية واللوجستية وحسن توجيهها في ظل هجوم عنيف على الموصل وهجوم محتمل على الرقة عاصمة التنظيم.تسمح مدينة تدمر لتنظيم الدولة بتحقيق تهديد حقيقي للنظام في مناطق مثل حمص ودمشق، كما سيتمكن من خلالها من تحقيق ربط إستراتيجي بين مناطقه في سوريا والعراق مرة أخرى، ليعود التنظيم مرة أخرى إلى الواجهة الإعلامية بعد أن ظن البعض بانتفاء قدراته العسكرية والتنظيمية في إطار الحملة المستمرة التي يتعرض لها.أيضًا من المتوقع أن يستمر التنظيم في حملته على مناطق جنوب وغرب تدمر لاستغلال حالة الفراغ العسكري والسياسي بها في ظل معركة الباب وحلب، كما من المتوقع أن تشكل مدينة تدمر حاضنة لعمليات تدريب وتجنيد في حال جذب المزيد من المقاتلين بعد سقوط مدينة حلب بأيدي النظام السوري.وفي فيديو نشرته وكالة أعماق التابعة لتنظيم الدولة يظهر فيه جنود من التنظيم يتجولون في معسكر روسي ويتفحصون مجموعة كبيرة من الأسلحة التي تركها الجنود الروس وراءهم، وادعي التنظيم أنه بهجومه على مدينة تدمر حصل على أنواع مختلفة من الأسلحة الخفيفة والثقيلة ظهر بعضها في الفيديو المنشور.
ثانيًا: بالنسبة للنظام السوري
تُظهر سيطرة تنظيم الدولة على تدمر ضعفًا شديدًا في جسد النظام السوري وبنيته وقدرته على بسط السيطرة على المدن التي يحصل عليها؛ حيث يحارب النظام السوري بميليشيات حزب الله ولواء الفاطميين وقوات النخبة الروسية، وهذه القوات استطاعت تحقيق الكثير من النجاحات على الأرض، لكن السيطرة على تدمر تثير تشككًا في إمكانية الحفاظ على هذا التقدم من قبل النظام، ففي اللحظة التي سُحبت فيها هذه القوات من تَدمر لم تستطع قوات الدفاع الشعبي السوري الدفاع عن المدينة رغم الدعم الجوي الروسي المكثف.يبدو النظام إذن عاجزًا عن فرض السيطرة وتحقيق الأمن في المناطق التي يبسط سيطرته عليها، فلكي تستمر الحرب عليه أن يحرك قواته من مكان لآخر بدون تأمين كافٍ للمناطق التي يسيطر عليها.من المستبعد أن يخوض النظام السوري أو حلفاؤه في القريب حربًا من أجل استعادة تدمر مرة أخرى، بل الأغلب أنه سيستخدم سقوط تدمر من أجل الضغط على الولايات المتحدة الأمريكية لتوسيع حربها ضد تنظيم الدولة، وليصنع شراكة إستراتيجية مع الرئيس الأمريكي القادم تحت دعوى الحرب على الإرهاب.