عن تساؤل بيتي فريدان: النسوية والمشكلة التي لا اسم لها
ظهر مفهوم «موجات النسوية» لأول مرة في أواخر الستينيات كطريقة للتمييز بين الحركة النسوية الناشئة في ذلك الوقت والحركة التي سبقتها بحوالي قرن من الزمان. يرى منتقدو مفهوم «الموجة» بأنه يبالغ في تبسيط تاريخ حركة متشعبة، في حين أن كل موجة تتضمن أكثر من مدرسة نسوية ومجموعات فرعية أصغر وأكثر تداخلًا. إلا أن مفهوم الموجة يظل أداة مفيدة لفهم التاريخ الصاخب للنسوية.
كافحت النسويات في الموجة الأولى من أجل الحق في التعليم المماثل لتعليم الذكور والحق في التصويت، وبعد اكتساب هذه الحقوق في دول الشمال العالمي، انكسرت الموجة تدريجيًّا، لتبدأ الموجة الثانية في ستينيات القرن العشرين. بدأت الموجة الثانية بتساؤل الباحثات عن أسباب وضع النساء في الدرجة الثانية داخل الهرم المجتمعي. وهل كانت المطالبة بالحق في التعليم والانتخاب هدفًا في حد ذاته ونهاية للنضال؟ أم أنها وسيلة لهدف أهم وأكبر؟ هل انتهى التمييز ضد النساء وحصرهن في المجال الخاص باكتساب هذه الحقوق؟
بعد استدعاء الدولة الأمريكية للنساء في المجال العام أثناء سنوات الحرب العالمية الثانية في كافة المجالات حتى الصناعات الثقيلة والترسانات الحربية، عادت وطالبتهن بالعودة للمجال الخاص بعد انتهاء الحرب، ليبدأ ما يعرف بعقد ربات البيوت الأمريكي في خمسينيات القرن العشرين. اتسم هذا العقد بتلميع صورة ربة المنزل الجميلة مقدمة الرعاية والاحتفاء بالأسرة التقليدية السعيدة، وتشتهر هذه الفترة بصور الزوج المحترم الأنيق ذي البدلة، والأطفال النظيفين، والأم التي تنتظرهم بمريلة المطبخ كل يوم والابتسامة تعلو وجهها. بدأ هذا العقد مع اتساع الطبقة المتوسطة في الضواحي السكنية الأمريكية والازدهار الاقتصادي الذي شهدته هذه الفترة.
المشكلة التي لا اسم لها
كانت بيتي فريدان (Betty Friedan, 1921-2006) إحدى هؤلاء النسوة، حاصلة على شهادة في علم النفس، لكنها بعد الزواج بقيت في المنزل كربة له، كقريناتها من نساء الطبقة الوسطى الأمريكية البيضاوات. تساءلت فريدان عن جدوى الحياة التي تعيشها هي والأخريات. هل هن سعيدات حقًّا؟ هل يشعرن بالرضا عن هذه الحياة التي تبدو مثالية؟
ولهذا أجرت استطلاعًا لرأي زميلاتها السابقات في الكلية مطلع الستينيات عن إذا ما كن سعيدات في حياتهن كربات بيوت. أجابت النساء أن حياتهن خالية من المشاكل، كل شيء يبدو على ما يرام، ومع ذلك يشعرن بمشكلة لا يعرفن ما هي، هناك شيء ناقص لديهن ويشعرن بالإحباط وعدم التحقق. إنها «المشكلة التي لا اسم لها» The problem that has no name.
إلا أن فريدان وجدت اسمًا للمشكلة وحللتها وسمت بها كتابها، الكتاب الذي سيبيع ثلاثة ملايين نسخة وسيعتبر فيما بعد شرارة انطلاق الموجة النسوية الثانية، ومن أهم – إن لم يكن أهم – أدبياتها، لغز/أكذوبة الأنوثة The Feminine Mystique.
أكذوبة الأنوثة
ترسخ في عقول ووجدان هؤلاء النسوة أن اكتمالهن لن يتحقق إلا عن طريق قيامهن بأدوار أنثوية تقليدية، وأن مجال وجودهن وحركتهن هو المجال الخاص فقط، ولكن مع مرور الوقت وجدن أنهن أصبحن ذواتًا غير مستقلة وغير كاملة، ملحقات دائمًا بزوج أو أولاد. فالثقافة والتربية كانتا حاسمتين في رسم واقعهن وحياتهن أكثر من حقوقهن المدنية والقانونية التي تمكنهن من العمل والانتخاب وتغيير القوانين. تقول فريدان إن هذا الرضا التام عن أدوار ربة المنزل والزوجة والأم هو خرافة. في الواقع، النساء هن ضحايا «الحقائق غير الكاملة والاختيارات غير الواقعية». وإن هناك تكاليف جسدية وعاطفية للخضوع لهذه الأكذوبة، ليس للنساء فحسب، بل لأزواجهن وأطفالهن أيضًا.
وتحمل فريدان جزءًا كبيرًا من مسئولية تسيد هذه الثقافة لمنتجات الإعلام والثقافة التي ارتدت عن تقدمية سنوات ما قبل الحرب. وفي عرضها لمحتوى المجلات النسائية تقول فريدان:
ومن مقابلة أجرتها مع ناشر في إحدى المجلات، نقلت عنه:
ركزت المجلات النسائية التي انتشرت في تلك الفترة على موضوعات الطبخ والتربية والملابس وطرق التعامل مع الزوج، ولم تقدم لجمهور النساء أي موضوعات أو مسائل تخص الفكر أو الروح، بدافع من اعتقاد لدى محرريها بأن هذا هو كل ما يهم النساء، فأصبح هذا الاعتقاد – بحسب فريدان – «نبوءة ذاتية التحقق»، فالفكر لا ينمو داخل الإنسان بشكل تلقائي، بل ينمو بالتعليم والكلمة المطبوعة.
[هناك نوع جديد من المحررين والناشرين ، أقل اهتمامًا بالأفكار للوصول إلى عقول النساء وقلوبهن مقارنة ببيعهن الأشياء التي تهم المعلنين، كالأجهزة المنزلية والمنظفات وأحمر الشفاه. اليوم، الصوت الحاسم في معظم هذه المجلات هو للرجال. غالبًا ما تنفذ النساء الصيغ الموجهة لهن، لكن صورة ربة المنزل الجديدة هي نتاج عقول الرجال.]
أما الإعلانات فكانت الذراع النشطة للإعلام الذي يحاصر النساء ويلعب على إحساسهن بالذنب تجاه الواجبات المنزلية ويعطيهن وعودًا بالمساعدة ليتمكن من تأديتها على أكمل وجه. ويضرب على وتر بقائها جميلة وأنيقة، لا من أجل رضاها عن نفسها، ولكن لتحصل على رجل.
انتقدت فريدان أيضًا نظرية «الوظيفية» في العلوم الاجتماعية، والتي تحصر المرأة في أدوارها التقليدية لأنها ببساطة الطريقة المثلى التي يعمل بها المجتمع بشكل فعَّال، بغض النظر عن ما قد يسببه ذلك من تقييد للنساء وكبت لقدراتهن العقلية والنفسية.
وكانت دعوة فريدان هي أن تقتحم النساء المجال العام – عن طريق العمل – لكي يتمكن من الانتقال من عدم الاكتمال الإنساني المسمى بالأنوثة إلى الهوية الإنسانية الكاملة.
نقد نظرية «الأكذوبة»
أبرز نقد تم توجيهه لكتاب فريدان ولبدايات الموجة الثانية بأسرها هو أنها تتمحور حول نساء الطبقة الوسطى الأمريكيات البيضاوات، دون النظر للنساء السوداوات أو المهاجرات، وبالطبع ليس الفقيرات. فحين كانت نساء الطبقة الوسطى يخترن البقاء في المنزل حتى لو تحت تأثير الثقافة السائدة، لم يكن هناك خيار للفقيرات بعدم العمل والبقاء في المنزل. وتجاهلت أو نسيت فريدان حقيقة أنه إذا عملت كل هؤلاء النساء فسيتم نقل عبء الرعاية إلى النساء الأفقر اللاتي سيعملن كخادمات أو جليسات للأطفال.
أما النقد الثاني فكان التركيز على حقوق المجال العام دون الالتفات لعلاقات القوى داخل المجال الخاص، وخصوصًا تلك المتعلقة بالعنف المنزلي وتقسيم العمل المنزلي ومبدأ العمل المنزلي غير مدفوع الأجر.
الجدير بالذكر أن فريدان نفسها قدمت مراجعة لفكرتها بعد عشرين عامًا، وذلك في كتاب The second stage، باستخدام آلية المقابلات الشخصية مع سيدات عاملات career women، وسألتهن ثانية إن كن سعيدات لتجد أنهن لم يصبحن سعيدات، ففي سبيل تحقيق ذواتهن عمليًّا خسرن فرصة الحب وإنشاء أسرة، لأن تحقيق التوازن بين الأمرين شيء في غاية الصعوبة بالنسبة للنساء ولا يتيحه نظام العمل أو النظام الاجتماعي. على عكس الرجال الذين يسمح لهم النظام الاجتماعي بالفرصتين، فرصة تكوين أسرة وتحقيق الذات في المجال العام دون الحاجة للتضحية بأي منهما، وهو ما يحتاج لتغيير منظومة العمل المصممة لكي تناسب الرجال فقط. تعتبر هذه المراجعة تطورًا ملحوظًا في طرح فريدان الحقوقي الذي كان لا يرى سوى الحقوق العامة، ليبدأ في استيعاب فكرة توازن القوى في المجال الخاص ومنظومة العمل الرأسمالية، وهي الزوايا التي أضاءتها أجيال النسويات الاشتراكيات والراديكاليات التالية لجيل فريدان.
تأملات من الجنوب العالمي في القرن الحادي والعشرين
قد يبدو الكتاب للوهلة الأولى ذا أفكار عفى عليها الزمن، خصوصًا أننا نشهد الموجة الرابعة للنسوية في العالم، لكن بنظرة متأنية سنرى أننا – وخصوصًا في منطقتنا – ما زلنا عند هذه النقطة. فثقافة ربة المنزل المكرسة تمامًا للمجال الخاص حاضرة بقوة ومدعومة بالعرف والعادات والقراءات المحافظة للدين.
وعلى الرغم من اختلافي مع طرح الكتاب في اعتبار مفهوم الأنوثة عائقًا أمام النساء، فأرى أن مفهوم الجندر والأدوار الاجتماعية المرتبطة بالنوع مدخل مهم لحل هذا الإشكال. كما أرى طرح فريدان الداعي لدخول النساء بقوة لسوق العمل طرحًا ناقصًا، إذا كان بدون نقد للمنظومة الرأسمالية ومنظومة العمل ودون حل جذري لتقاسم أدوار الرعاية في المجال الخاص.
ثانيًا، يجب أن نسأل، هل يمكن اعتبار الموجة النسوية العربية الحالية جزءًا من الموجة الرابعة أم أن الزمن يتحرك ببطء في منطقتنا؟ هل ما زلنا نطالب بمبادئ الموجة الثانية والعالم الآن يمر بما بعد الموجة الرابعة “me too”؟ أم أن ما نمر به الآن خليط من الموجات الأربعة، حيث ما زلنا نطالب بالحق في التعليم الأساسي للفتيات مع الحق في العمل والأجر العادل وتوازن علاقات القوى في المجال الخاص؟ لمَ لا نعيد رسم الخط الزمني الخاص بالنسوية المصرية والعربية، ونحدد موجاتها ومطالباتها وكفاحها وأدبياتها؟ هل يجب أن تركز النسويات العربيات على الحقوق الأساسية على خطى النسوية الإصلاحية المتأنية ؟ أم يجب الاشتباك مع الأدبيات والأطروحات الراديكالية العالمية؟ هل سيكون ذلك في صالح الحركة النسوية العربية؟ هل النسوية الدينية هي الأنسب للسياق الحالي؟ أم على العكس من ذلك هي أكثرها عرضة للخطر والهجوم الحاد لأنها تطالب بإعادة قراءة النص المقدس؟ ماذا عن النسوية الاشتراكية وأطروحاتها المتعلقة بالعمل المنزلي غير مدفوع الأجر والتشاركية المجتمعية في التربية وتقديم الرعاية، هل التجارب السياسية العربية الاشتراكية أو الليبرالية ناضجة أصلًا لتستوعب نسخها النسوية؟
كلها أسئلة تثيرها قراءة الأدبيات النسوية المؤسِسة، لكن المؤكد أننا نحتاج لنظرية نسوية نابعة من مفكرات عربيات ومسلمات وشرقيات تشتبك مع ظروفنا ومشاكلنا الحالية، والتي لا نجد لها إجابات في الأدبيات الغربية أو الأطروحات العربية المحافظة.