«بيرتراند راسل» يشجعك على الكسل!
أصل فضيلة العمل
أعتقد أن العمل الذي ينجز في العالم يزيد عما ينبغي إنجازه بكثير، وأن ثمة ضررًا جسيمًا من الإيمان بفضيلة العمل، ولكن من أين نشأت فضيلة العمل؟
إن رغبة ملاك الأراضي في عهد ما قبل الثورة الصناعية في الكسل هي من الناحية التاريخية منبع الإيمان بفضيلة العمل؛ إذن ففضيلة العمل هي من ترسبات عهد ما قبل الثورة الصناعية.
الرجل (الفلاح) كان يمكن أن يُنتج بالعمل الشاق ما يقيم أوده ويزيد قليلًا، ولم يكن الفائض القليل يُترك لأصحابه الذين ينتجونه، بل كان من نصيب المقاتلين والكهنة. استمرار هذا النظام كان له أثر عميق في أفكار الناس وآرائهم وكثير من المعتقدات الخاصة بفضيلة العمل.
من الجلي أن الفلاحين لو تُرِكوا لشأنهم لما فرّطوا في الفائض الضئيل للكهنة والمقاتلين، ولكانوا يؤثرون على ذلك أمام خفض إنتاجهم أو زيادة استهلاكهم. لكنه وُجد بالتدريج أنه من الممكن إغراء كثرتهم بقبول أخلاق من شأنها أن تجعل الواجب عليهم أن يكدوا ويكدحوا رغم أن بطون الآخرين تتخم في استرخاء وكسل مقابل كدحهم؛ وبهذا الأسلوب قلت كمية الإرغام المطلوبة لإجبارهم على العمل، وانخفضت تكاليف الحكم.
الحرب والعمل
قد جعلت وسائل العلم الحديث في الإمكان تخفيض قدر الجهد المطلوب لكي يحصل كل إنسان على ضرورات الحياة تخفيضًا هائلًا. أصبح هذا واضحًا أثناء الحرب، ففي ذلك الوقت تم سحب كل رجال القوات المسلحة وكل الرجال والنساء الذين عملوا في إنتاج الذخيرة والتجسس والدعاية للحرب من وظائفهم الإنتاجية، ورغم ذلك كان مستوى الرفاهية المادية بين العاملين غير الفنيين في صفوف الحلفاء مرتفعًا عن ذي قبل.
لقد أثبتت الحرب بشكل قاطع أنه من الممكن تنظيم الإنتاج ليحتفظ أهل العصر الحديث برغد نسبي؛ وذلك بفضل جانب ضئيل من القوة العاملة في عالمنا الحديث.
لو أن تنظيم العمل الذي أوجده الحرب ليتفرغ الرجال للقتال وصنع الذخيرة قد تم الاحتفاظ به بعد الحرب، ولو أن ساعات العمل خفضت إلى أربع ساعات؛ لسار كل شيء على ما يرام، ولكن بدلًا من ذلك عاد العالم إلى فوضاه القديمة وأصبح المطلوبون للعمل يعملون ساعات طوالًا متصلة، وتُرك الباقون عاطلون يتضورون جوعًا، لماذا؟
لأن العمل فضيلة وواجب، ولأن الإنسان لا ينبغي له أن يحصل على أجر يتناسب مع ما ينتجه، بل يتناسب مع فضيلته -فضيلة العمل- وهذه أخلاق دولة العبيد مُطبقة في ظروف تختلف تمامًا مع ظروف نشأتها، فهل من الممكن أن نتصور جنونًا أكثر من ذلك!؟
الفراغ والحضارة
هل العمل الجاد هو ما يصنع الحضارة أم الفراغ؟
من الغريب أن تجد الأغنياء على مدى آلاف السنين يبشرون بوقار وفضيلة العمل، بينما هم يظلون بلا وقار في هذا الشأن، وأن تجد الفقراء راضين تمامًا عن ذلك، فترى أحدهم يقول: السعادة لا تغمرني قط مثلما تغمرني عندما يجيء الصباح وأعود إلى عملي الشاق الذي ينبع منه رضاي.
دائمًا ما كانت هناك طبقة صغيرة مترفة وطبقة كبيرة كادحة، وكانت الطبقة المترفة تتمتع بامتيازات لا أساس لها من ناحية العدل الاجتماعي؛ وقد أدى ذلك لتحويل هذه الطبقة لطبقة ظالمة محدودة في إشفاقها وعطفها، كما أدى لاختراع نظريات تبرر امتيازات هذه الطبقة التي تتمتع بها.
لكننا على الرغم من ذلك مدينون لهذه الطبقة بكل ما اصطلحنا على تسميته «الحضارة»؛ فقد احتضنت هذه الطبقة الفنون واكتشاف العلوم واختراع الفلسفات وكتابة الكتب، بل حتى تحرير المظلومين من ربعة الظلم. فلولا هذه الطبقة المنعمة بالفراغ لما خرجت البشرية من غياهب البربرية.
ولكن من ناحية أخرى ظل وجود هذه الطبقة التي تنعم بالفراغ دون إنتاج، أمر عبثي بشكل واضح، فقد تتمخض هذه الطبقة عن «داروين» واحد، ولكنها في المقابل تشمل عشرات الألوف من سادة الريف الذين لا يفكرون في شيء على الإطلاق سوى صيد الذئاب ومعاقبة سارقي حيوانات الصيد.
فالفراغ ضرورة الحضارة، وفي الأزمنة السالفة كان الفراغ الذي تنعم به الأقلية ممكن بفضل كد الأكثرية وكدحها، وكان لكدحها قيمة، لا لأن العمل فضيلة، بل لأن الفراغ شيء حسن. ويمكننا الآن عن طريق وسائل العلم الحديث توزيع الفراغ توزيعًا عادلًا دون إضرار بالحضارة.
المتع السلبية
الوقت الذي تستمتع في تبديده، ليس وقتًا مبددًا.
عندما أقترح تخفيض ساعات العمل إلى أربع ساعات فأنا لا أقصد إلى أن ينصرم الوقت الباقي بالضرورة في مجرد تفاهات! بل أعني أن العمل أربع ساعات يؤهل الإنسان للحصول على ضرورات الحياة ووسائل الراحة، وأن يستخدم بقية وقته بالطريقة التي يراها مناسبة، وأهم تلك الطرق هي التعليم وطريقة الحصول على المتع. إن الفراغ يرمي جزئيًا إلى خلق أمزجة تمكن الإنسان من الانتفاع بوقت فراغه.
لقد أصبحت متع المجتمعات المدنية متعًا سلبية، مثل التردد على دور السنيما ومشاهدة مباريات كرة القدم، ولو كان لديهم فراغ أكبر لاستمتعوا بلذات يشتركون فيها إيجابيًا، مثل تعلم الموسيقى ولعب الرياضة بدلًا من مشاهدتها.
إنه لأمر مهم في أي نظام اجتماعي أن يعنى باتساع رقعة التعليم، إن الجامعات في الوقت الراهن تمدنا بالمعرفة وتصنع الحضارة أكثر مما كانت تصنعه الطبقة المترفة فيما سبق. لكن الحياة الجامعية تشوبها بعض المثالب، فمشكلات الناس ومشاغلهم تغيب عن أذهان الرجال الذين يعيشون في وسط أكاديمي، كذلك فإن الطرق التي يعبر بها الأكاديميون عن أنفسهم لا تسمح في العادة بأن تؤثر في الرأي العام.
أما في عالم لا يضطر فيه أحد للعمل أكثر من أربع ساعات سيجد كل إنسان يملك حب الاستطلاع العلمي وسيلة لإشباع رغبته، سيتمكن الرسام من الرسم دون أن يتضور جوعًا، ولن يضطر الكتاب الناشئون إلى لفت الأنظار بالكتابات المثيرة، سيتمكن الجميع من تطوير أفكارهم دون تلك العزلة الأكاديمية التي تجعل من عملهم ينقصه القرب من الحقيقة في كثير من الأحيان.
فوق كل هذا ستعم السعادة ويقل التوتر والإرهاق الذي يدفع الناس إلى النوع السلبي من التسلية التي لا طعم لها؛ سيصبح الرجال والنساء العاديون عندما تتوفر لهم فرصة الحياة السعيدة أكثر رفقًا وأقل ظلمًا واضطهادًا وأقل ميلًا إلى النظر للآخرين بشك وريبة، وسيندثر تذوق الحرب لهذا السبب، لأن الحرب ستكلف الجميع العمل المضني الطويل.
الطبيعة الطيبة هي نتاج اليسر والطمأنينة لا نتاج حياة الكفاح الشاق، ولقد مهدت وسائل الإنتاج الحديثة لنا ذلك، غير أننا اخترنا لأنفسنا إرهاق البعض والتضور جوعًا للبعض الآخر. لقد كنا أغبياء في ذلك، وليس هناك داعٍ للإصرار على غباوتنا إلى الأبد.