برلينالي 2023: عن سينما تسائل العالم وتستكشفه
ما هي المهرجانات، ما الذي يخلق أهميتها للجمهور وصناع الأفلام والنجوم، كيف تتكون وكيف تتشكل في الوعي الجمعي لمحبي السينما؟ في كل مرة أذهب فيها لحضور مهرجان جديد تأتيني تلك الأسئلة من جديد، وكيف يمكن لكل مهرجان أن يحمل صورة ذهنية متكونة من جهد أشخاص وأفكار اختمرت في عقولهم على مدار السنين.
هذه المرة هي الثانية لي بشكل فعلي في برلين والرابعة في المجمل بحساب دورتين إحداهما افتراضية والأخرى مزيج بين الافتراضي والفعلي. المرة الفعلية الفائتة كانت الأولى لي في المهرجان، وكان المهرجان هو واحد من المهرجانات الكبرى القليلة التي عملت بشكل فعلي عام 2020، إذ كانت الجائحة لم تُظهر مدى خطورتها.
هوية البرلينالي: مهرجان يتأثر بالعالم ويؤثر به
ورغم أن الجائحة لم تختف، فإن ظهور أولويات اقتصادية جديدة تسببت فيها الحرب الروسية الأوكرانية، جعل خطورة المرض تبدو أقل بكثير، ما يثبت أن كل شيء متعلق بالسياق، وهكذا صورة مهرجان برلين أيضًا التي يعمل كارلو شاتريان مديرها الفني على استمراريتها في كل دورة، برلين هو من المهرجانات القليلة، إن لم يكن الوحيد، الذي لا ينظر للسينما باعتبارها فنًا فقط، ولكن كجزء من الثقافة المؤثرة في العالم والمتفاعلة معه.
يظهر ذلك في الحوارات الصحفية لشاتريان وزملائه، بداية من ردودهم على أسئلة اختيار أفلام روسية، ودعم المهرجان الواضح للنساء في الثورة الإيرانية، وحفل الافتتاح الذي حمل كلمة للرئيس الأوكراني، واختيار فيلم شون بين المصور في أوكرانيا ويظهر فيه زيلينيسكي أيضًا، وغيرها من الأفلام المتعرضة لقضايا سياسية واجتماعية. إضافة إلى ذلك فملصق المهرجان الرسمي يركز على تنوع جماهير المهرجان بعيدًا عن استخدام تيمة الدب الأساسية للمهرجان.
تلك الاختيارات التي تضع اعتبارات غير فنية موجودة في المهرجانات الكبرى الأخرى، لكنها هنا في برلين ربما تكون هي ما يخلق هوية المهرجان بشكل أساسي، إضافة إلى الحديث المتكرر عن الأوضاع العالمية السياسية والاجتماعية في المؤتمرات الصحفية، يمكننا تلخيص الوضع في أن برلين ليس مجرد قوقعة لمحبي الأفلام فقط، وإنما حدث ثقافي وسياسي واجتماعي ينجح في جذب انتباه السينمائيين وغيرهم من جماهير عادية.
الجماهير الكبيرة هي أيضًا من أكثر ما يميز المهرجان، إذ باع المهرجان هذا العام 320 ألف تذكرة، وهو رقم قريب جدًا لأعوام ما قبل الجائحة (331 ألف تذكرة في عام 2019)، ما يؤكد عودة الجماهير إلى قاعات المهرجان الضخم. وجود جمهور لكل الأفلام أيضًا هو عامل مهم في اختيار الأفلام، تقول لي زميلة مبرمجة ذات خبرة واسعة :«في برلين، يمكنك أن تعرض ما تشاء»، وهي بشكل كبير محقة إذ إن جماهير المهرجان تأتي لمشاهدة أفلام المهرجان بغض النظر عن ماهية تلك الأفلام.
ثقة عمياء يمنحها الجمهور لمهرجان بنى سمعته على مدار أكثر من سبعة عقود، ولكن تلك الثقة أيضًا، تعطي المبرمجين حرية كبيرة في اختيار الأفلام، وبخاصة في الأقسام الموازية، وبعضها قد تشاهده وتتساءل هل هذا فيلم بالأساس؟! ورغم أن بعض الأشخاص لا يحبون تلك الأفلام، المتركزة في أقسام الفورم والفورم الممتد وتتضمن الأقسام الأكبر جزءًا منها، إلا أن اختيار تلك الأفلام أيضًا هو جزء من هوية المهرجان كونه يمنح منصات تعرض أعمالًا فنية وفيلمية لا يمكن أن تراها في أي مكان آخر في العالم. إذن يمكن فهم برلين كمهرجان سياسي بالمعنى الأوسع للسياسة، أفلام تحتوي مواضيع سياسية معاصرة، وأخرى شديدة الفنية أو التجريبية تحاول استكشاف ما هو الجديد فيما يخص الوسيط.
بين Discoboy وSamsara: التناسخ كمفهوم فلسفي وأسلوب لمقاومة الاستعمار
من ضمن المواضيع التي تبرهن على ذلك، موضوع التناسخ، الذي يظهر في فيلمين متميزين في دورة برلين 73، الأول Samsara، للإسباني لويس باتينيو، الذي يتعرض للمفهوم بشكل أقرب لمفهومه الصوفي الروحاني، إذ يصور الفيلم رحلة سيدة عجوز تبدأ باحتضارها في بيتها الكائن في لاوس، وسط منطقة تحتضن العديد من طلاب البوذية ورهبانها، يذهب أحد الشباب إلى تلك السيدة ويقرأ لها نصوصًا تساعدها على انتقالها إلى العالم الآخر. لكن رغم أن الحبكة لا تأتي بجديد عن المفهوم فإن في منتصف الفيلم، يطلب المخرج من المشاهدين إغلاق أعينهم حتى يختفي الصوت، لتبدأ رحلة بصرية مميزة للغاية في منتصف الفيلم، شيء أشبه بالجزء الأخير في أوديسا الفضاء لكوبريك.
أسلوب فني يحاول اللعب على الحواس، باستخدام أضواء تلمس الأعين المغلقة، وأصوات تحاول محاكاة رحلة هذه السيدة، كما يترك ذلك الأسلوب مساحة لكل متفرج أن يخلق تجربته الخاصة من خلال الفيلم، من خلال عناصر لا تعتمد على المشاهدة بشكلها الصريح كما عادة السينما. تجربة فنية للغاية تخلط السينما بالماورائيات بصريًا وسمعيًا، وتخرج مشاهدها من السينما في حالة من الوجد الخالص.
الفيلم الثاني الذي يستخدم ذات المفهوم الروحاني هو Disco Boy، وهو الفيلم الروائي الطويل الأول للإيطالي جياكومو أبروسيزي، الذي شارك في المسابقة الرسمية للمهرجان، وفازت مديرة تصويره الفرنسية الشهيرة إيلين لوفار بجائزة الدب الفضي – أفضل إسهام فني، ومن بطولة الممثل الألماني المميز فرانز رجورفسكي، أحد نجوم السينما الألمانية الصاعدين.
تبدأ الحكاية بحكايتين منفصلتين، الأولى عن أليكسي، شاب بيلاروسي يحاول العبور مع صديقه إلى فرنسا، لينضم إلى الجيش الفرنسي ويحصل على الإقامة، والثانية عن جومو، شاب إفريقي قائد لميليشيا مسلحة في دلتا النيجر تحاول طرد المستثمرين الفرنسيين من أراضي البلاد. حكايتان بعيدتان عن بعضهما تمام البُعد الجغرافي، لكن يجمعهما استغلال فرنسي لجسد البيلاروسي وقوته ولأرض الإفريقي وثرواتها.
في بداية الفيلم، يدخلنا جياكومو إلى كلتا القصتين، لأحلام البطلين الرئيسيين ومآسيهما الناتجة عن سياسات استعمارية وضعتهم في مكانهم الحالي في العالم. شيئًا فشيئًا ندخل إلى عالم البطلين ويبدأ الخطين في التشابك تدريجيًا حتى نقطة يواجه فيها كل منهما الآخر، ويلتحمان في مشهد يستخدم فيه أبروسيزي ولوفار بصريات الرؤية الليلية لجعل ذلك الالتحام العنيف مشهدًا صوفيًا يحكي عن التضامن بين مضطهدي سياسات الجمهورية الفرنسية الاستعمارية. منذ تلك النقطة، يظهر الفيلم أسلوبه الواقعي السحري، ليصير البطلان واحدًا، ويتشابك خطا الحدوتة الرئيسان ليكونا خطًا واحدًا. ديسكو بوي هو واحد من أكثر أفلام برلينالي والعام تميزًا بلا شك، ورغم أن الفيلم قد يبدو غرائبيًا بعض الشيء عند مشاهدته، فإنه يبقى في الذهن طويلًا.
Manodrome وInfinity Pool: في استكشاف الرجولة الهشة
الرجولة الهشة هي واحدة من المواضيع التي تظهر في عالم الأفلام منذ زمن قديم، لكنها أيضًا موضوع معاصر يستمر السينمائيون في استكشافه وعرضه على الشاشة. فيلمان يتعرضان للقضية أحدهما في المسابقة الرسمية وهو Manodrome لمخرجه المولود في جنوب أفريقيا جون ترينجوف، والثاني Infinity Pool للكندي براندون كرونينبيرج ابن أسطورة أفلام رعب الجسد ديفيد كرونينبيرج، الذي عُرض في قسم العروض الخاصة للمهرجان.
Manodrome هو فيلم كان يحتاج لتركيز أكثر على مستوى الحكاية، إذ إن الفيلم يتأرجح بين عدة حكايات، يمكن لأي واحدة منها أن تصنع فيلمًا كاملًا، بين السائق المثلي الرافض لهويته الجنسية (ما يُعرف بمثلي الخزانة) وما بين رابطة الرجال التي تكون مجتمعًا ذكوريًا طاردًا لوجود النساء، التي لا نعرف عنها ما يكفي طوال الفيلم، وأخيرًا العلاقة المبتذلة بين اختفاء شخصية الأب والمثلية. إضافة إلى ذلك، فالفيلم هجين غير متناسق بين إحالات بصرية وحكائية لسينما هيتشكوك و«سائق التاكسي» لمارتن سكورسيزي، وغيرها. كل ذلك التشتت، يهدر الأداء المميز لجيسي أيزنبيرج وأدريان برودي وجودة الإنتاج والتصوير الموجودة في الفيلم. فرصة مهدرة احتاجت لإحكام أكثر يركز على ماذا تحكي بعيدًا عن الإنجاز البصري.
أما عن فيلم كرونينبيرج، فهنا نحن أمام تجربة مميزة للغاية بصريًا وحكائيًا، يقوم الفيلم على تساؤل أساسي، ماذا إذا أمكنك أن تفر من جرائمك حتى وإن كانت عقوبتها الإعدام من خلال نسخ جسدك؟! الفيلم يبدأ في بلد غريب يشبه بلدان أمريكا الوسطى، في منتجع مسور، يقابل جيمس فوستر الروائي الذي يذهب هناك برفقة زوجته ليحاول فك حبسته الإبداعية وكتابة روايته الثانية، جابي المعجبة شديدة الحماسة لعمله وزوجها.
تدعو جابي فوستر وزوجته للانضمام لها هي وزوجها للعشاء، ثم تمتد العلاقة للخروج إلى مكان بعيد عن المنتجع، تغوي جابي فوستر في تلك المرة وبعد قضاء اليوم وتحت تأثير السكر، يرفض زوج جابي القيادة، ليتبرع فوستر بالقيادة، وتحدث الجريمة التي تقوده إلى مواجهة حكم بالإعدام.
هنا تبدأ الحبكة في إظهار ذلك النظام الغريب الذي اخترعه بعض الأثرياء للعيش بشكل بريء بلا قيود تمامًا، للهرب من أي عقوبة مقابل المال. رغم أن الفيلم قد يبدو متعلقًا بغرائبية حكايته، فإنه يطرح أسئلة فلسفية عن الرجولة الهشة في عالم يضع المخرج شروطه بالكامل. الأسلوب البصري هنا هو أيضًا خليط بين أعمال مخرجين وبينهم ديفيد كرونينبيرج ويورجوس لانتيموس وجاسبر نوى، ولكنه خليط ممتزج يخلق أسلوب جديد تمامًا، تجربة بصرية غرائبية لكنها لا تبتعد عن الحكاية وعناصرها الغريبة بالأساس.
يمكن ملاحظة أيضًا أن كرونينبيرج الابن، يعتمد في بطولة الفيلم على الممثل ألكساندر سكارسجارد، السويدي الشهير، الذي يبدو مشابهًا بشكل كبير للممثل المفضل لدى أبيه فيجو مورتينسن، بعظام الوجه البارزة لكل منهما وجسديهما القريبين للكمال، وهو شيء قد يخدم دائمًا حكايات العائلة التي تحاول الوصول إلى رغبات الإنسان ومخاوفه الغريزية، إضافة إلى ذلك، فإنه يعتمد على ميا جوث كبطلة رئيسية، وهي التي أصبحت مشهورة الآن بإتقانها لأدوار الرعب. تفصيلة بصرية أخرى هي الأقنعة التي يلبسها الأبطال في الفيلم، التي تظهر في ملصقات الفيلم الدعائية، تشبه أسلوب فرانسيس باكون في رسم الوجوه في فترة الستينيات، في الحالتين القناع أو الرسم، هناك اختفاء للمظهر الخارجي وظهور للروح بعذاباتها وشرورها.
Afire: الحبسات الإبداعية كمجاز عن فقدان الرؤية
يشترك فيلم كريستيان بيتزولد الأحدث مع فيلم كرونينبيرج، في أن بطله أيضًا يعاني حبسة إبداعية، لكن في سياق يبدو أقل سحرية من بقية أفلام بيتزولد السابقة Transit، وUndine. البطل هنا هو ليون، الروائي، الذي يذهب مع صديقه المصور فيليكس إلى منزل صيفي مملوك لعائلة الأخير، من أجل أن يحظى كلاهما ببعض من العزلة لإنجاز أعمالهما الإبداعية.
لكن تلك العزلة لا تكتمل، إذ يكتشف الصديقان وجود، نادية، قريبة عائلة فيليكس التي تقيم في المنزل، وينضم لهذا الجمع ديفيد منقذ الشاطئ القريب من المنزل. يركز بيتزولد هنا على ليون وتفاعله مع ذلك العالم المعزول، الذي يُحاط بأخطار حرائق الغابات في شمال ألمانيا، كما الطبيعة الخلابة من شاطئ وبحر.
ليون، يفرض على نفسه شكلًا معينًا لحياة الروائي، يرفض دعوات أصدقائه للذهاب إلى البحر، وإن ذهب يبقى بملابسه السوداء، التي تتناقض بصريًا بشكل كبير مع صورة الشاطئ. يخبر الجميع أنه «يحتاج أن يعمل»، كما يكون فظًا في معظم الأوقات مع أصدقائه، ولا يهتم عندما يرى حريقًا يحدث على بعد 30 كيلومترًا من موقعهم. يصب تركيزه، أو يدعي أنه يفعل، على إنجاز روايته الثانية قبل مقابلة المحرر الذي سيأتي لزيارته.
ينظر للجميع وكأنهم مستهترون لا يفهمون ما يمر به، وأنهم بلا أعمال مهمة كعمله، تتطور أحداث الفيلم بأحداث خارجية تنتهي بفاجعة بيئية وشخصية، وهنا يدرك ليون أن خوفه الشديد أدى إلى انعزاله عن رؤية الحب الحقيقي، أو كما يظهر في قصيدة الشاعر الرومانسي الألماني هاينرش هاينه، المُرتلة في مشهد أساسي للفيلم على لسان نادية: «ثم جاءت الأميرة ذات مساء. تحدثت إليه في عجلة وبلين: اسمك الحقيقي، أود لو أعرفه، وطنك الحقيقي، أود أن أعرفه».
رغم أن فيلم بيتزولد يضع قضية بيئية كحدث محفز في قلب دراما فيلمه الأحدث، لتكون هنا هي العنصر السحري، مثل الماء في أوندينه، لكن الفيلم يفحص معاني إنسانية خالصة للحب والصداقة والرومانسية بمعناها الأوسع، هو قصيدة حب جديدة، تبدو كمحاولة للتغني بالحب في وسط عالم يحترق.
برلينالي 73، كان كما دوراته السابقة الفعلية، مليء بأكبر قدر من الأفلام والمناقشات ومقابلات الأصدقاء، هو المهرجان الذي تشعر فيه بأنه يكترث للسينما والعالم، أكثر ما يهتم بالسجادات الحمراء والأضواء، إنه ليس مكان للأضواء، ويمكن ألا يكون المهرجان الأهم أو الذي يعرض أهم أفلام العام، لكنه يظل حدثًا مؤثرًا في عقل وكيان كل من يحضره، وبعد كل دورة يستطيع الإنسان أن يشعر بأنه قد تعرض لسينما جديدة وتجارب تغير من تلقيه لكل من السينما والعالم على حد سواء.