يومًا يلو الآخر تصعد القضية الكردية، تكتسب المزيد من الزخم، فتتوالى الأنباء، تارة من العراق، وأخرى من تركيا، وثالثة من سوريا، ورغم هذا الزخم، فإن الأكراد ليسوا العرقية الوحيدة التي عانت التهميش أو التشتت، فهناك الأمازيغ الذين وازى كفاحهم رواية الأكراد في سوريا والعراق وتركيا وإيران.

فبينما تعرض الأكراد المقيمون بين حدود تلك البلاد للاضطهاد، فالأمازيغ أيضًا عانوا نفس الاضطهاد المنظم في ليبيا والجزائر والمغرب وتونس،حيث خضعوا لسياسات محو الهوية والخصوصية الثقافية مثلهم مثل الأكراد، تعرضوا لسياسات التعريب مثلما تعرض الأكراد للتتريك والتفريس، وحُرموا كذلك من التحدث بلغتهم كما حُرم الأكراد. وبرغم هذا الاضطهاد، فإنهما لم يرضخا للأمر الواقع، بل خاضا مسارًا طويلاً لنيل حقوقهما القومية وفي مقدمتها الاعتراف بلغتيهما وهويتيهما.


من هم الأمازيغ؟

هم من أوائل الشعوب التي توطنت في شمال أفريقيا،يرجع تاريخهم إلى عصر الإمبراطورية الرومانية، حيث انتشروا من المغرب غربًا إلى مصر شرقًا، ومن البحر الأبيض المتوسط شمالًا حتى نهر النيجر جنوبًا. تواجدت أغلبيتهم بدول المغرب والجزائر وتونس، فضلًا عن مصر (واحة سيوة)، وكذلك ليبيا وموريتانيا والنيجر وبوركينا فاسو. وباتوا يشكلون ما يقرب من 40% إلى 45% من السكان في المغرب، ومن 20% إلى 25% في الجزائر، ومن 8% إلى 9% في ليبيا، ومن 1% إلى 5% في تونس، فيما يتراوح مجموع عددهم في العالم العربي بين 15 و20 مليون نسمة، من أصل 55 مليون أمازيغي حول العالم.

عادة ما يُطلق عليهم اسم البربر، وهو مشتق من كلمة (باربادوس) أي الأغراب، وهو اسم أطلقه الرومان على كل من هو غير روماني، وتطور فيما بعد ليشمل الأجانب بصورة عامة. لكنهم يرفضون هذه التسمية، ويرون فيها انتقاصًا منهم وتعاليًا عليهم.

مثلهم مثل العرب وقعوا ضحية للاستعمار الأوروبي خلال حقبة الاستعمار والتكالب على أفريقيا في القرنين الـ 19 والـ 20، حيث تم تقسيم شمال أفريقيا أو «تامازغا» كما أطلقوا عليها في الدول الأوروبية، وفي مقدمتها فرنسا وإسبانيا وإيطاليا وبريطانيا. لعب الأمازيغ دورًا بارزًا في مقاومة هذا الاستعمار، وكانوا جزءًا من حركات التحرر الوطني، لكن بعد الاستقلال ووصول الأنظمة القومية العربية إلى السلطة، جرى تهميشهم من قبل هذه الأنظمة، سواء في دول المغرب العربي أو الدول الأخرى.

كما عمدت تلك الأنظمة أيضًا إلى محو خصوصيتهم الثقافية، ففرضت سياسة التعريب بهدف إدماجهم والقضاء على أي محاولات للانفصال أو إثارة التوترات العرقية، ولم تُعط الأمازيغية كلغة الفرصة للتطور والانتشار، بل قاموا بمحاربتها وحظرها.

وبهذا الحظر لم يتم تجاهل التراث الثقافي الأمازيغي فحسب، بل تم أيضًا الحد من فرصهم التعليمية والوظيفية،واستمرت معاناتهم من التمييز داخل الدولة، فأصبح ممنوعًا عليهم أن يتخذوا أسماء أمازيغية لأبنائهم، أو يتلقوا تعليمًا بلغتهم، أو يتعاملوا بها داخل مؤسسات الدولة.

حالت هذه السياسات دون تحسين وضع الأمازيغ، وكانت سببًا في تهميش قوميتهم، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ امتد إلى عمليات عنف وقمع في مواجهة أي محاولة للاحتجاج أو الثورة على هذه الأوضاع.

الأمثلة على ذلك كثيرة، لعل أبرزها ما حدث بالمغرب عام 1959، حينما قاد الملك الحسن الثاني الجيش المغربي إلى الريف لإخضاع الأمازيغ الريفيين الذين نهضوا ضد تهميشهم، حيث تم قتل الآلاف من الأمازيغ، وعُرفت هذه الفترة بـ «سنوات الرصاص». تكرر الأمر ذاته في منطقة الأمازيغ بالجزائر (القبائل) أوائل الألفية الثالثة، حيث قُتل 126 شخصًا أثناء الاحتجاجات الأمازيغية فيما عُرف بـ «الربيع الأسود». ولم تكن الأوضاع أفضل في ليبيا وتونس، وإن لم تشهد القدر ذاته من إراقة الدماء.


تاريخ من النضال

لم تُثني سياسات التهميش هذه الحركة الأمازيغية عن مطالبها، إذ حافظت على لغتها ونظامها الاجتماعي العشائري من جهة، وناضلت منذ الاستقلال من أجل الحفاظ على هويتها.

انطلق هذا النضال في طريقين، الأول: الحصول على حقوقهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، والثاني: السعي لإنشاء دول مستقلة في المغرب العربي تضم جميع الأمازيغ المشتتين. ولكنهم عجزوا عن ذلك، فكان الحل الأمثل لهم تبني طروحات أكثر واقعية من أجل الحصول على مكاسب مقبولة في الدول التي يقيمون بها، وهو ما ظهر جليًا في المغرب والجزائر.

فانطلاقًا من مقولة الحقوق تُنتزع ولا تُعطى، اندلعت الاحتجاجات والانتفاضات الأمازيغية في وجه السلطات الحاكمة، كان أبرزها في الجزائر الربيع الأمازيغي في 1980 (حيث أدى منع محاضرة عن الشعر الأمازيغي القديم لمولود معمري إلى حدوث مظاهرات واجهتها سلطة الجزائر بالعنف والقمع) والربيع الأسود في 2001 والذي مثَّل ذروة المواجهة بين الأمازيغ (القبائل) والدولة.

للسيطرة على هذه الحركة استخدمت الدولة إلى جانب العنف استراتيجيات عديدة ومتنوعة؛ فلجأت إلى اللعب على الانقسامات الداخلية داخل الحركة الأمازيغية من جهة، والاستجابة لجزء من مطالبها من جهة أخرى، حيث أقر الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عام 2002 تعديلًا دستوريًّا يقضي بالاعتراف باللغة الأمازيغية كلغة وطنية.

أما المغرب فكانت الحركة الأمازيغية بها سلمية إلى حد كبير، حيث أعلنت منذ الاستقلال عام 1956 رفضها لسياسات التعريب، وقررت أن تواجه الدولة وأن تعيد النظر في مفهومها للهوية والثقافة الأمازيغية.وبدأت في السبعينيات الضغط تدريجيًّا على الدولة من أجل الاعتراف باللغة الأمازيغية كلغة دستورية إلى جانب العربية، وذهب البعض إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث طالبوا باستبدال لغتهم الخاصة باللغة العربية في جميع الشئون الرسمية، بما في ذلك استخدام لغتهم في المدارس وفي وسائل الإعلام.

وبحكم ترابط الحركات الأمازيغية مع بعضها البعض، سرعان ما انتقلت شرارة «ربيع الأمازيغ» من الجزائر إليها، لتؤجج مطالب الأمازيغ بإنصافهم، ويستمر نضال الأمازيغ عشرات السنوات إلى أن تمكنوا في 2001 من انتزاع اعتراف الملك محمد السادس بأن اللغة الأمازيغية مسئولية الدولة وينبغي الاعتراف بها.

وتلا هذا الاعتراف عدد من التطورات، أبرزها إدماج الأمازيغية في المنظومة التعليمية، وتخصيص نشرة إخبارية بالأمازيغية، وإلغاء مصطلح اللهجات وحل محلها مصطلح اللغة الأمازيغية، وبدأ الحديث عن إمكان دسترة الأمازيغية.

تم كذلك السماح لعدد من الجرائد الأمازيغية بالظهور، وعملت القنوات التلفزيونية والإذاعية منذ 2010 على تقديم برامج وثائقية وأفلام تستهدف التعريف بالثقافة الأمازيغية. كما عمد العاهل المغربي إلى إنشاء معهد ملكي للثقافة الأمازيغية، يُعنى برد الاعتبار للأمازيغية في الجامعات والمدارس والإعلام، وجعل ميزانيته جزءًا من الميزانية العامة للقصر الملكي.


مكاسب عديدة ولكن

لم تكتفِ الحركات الأمازيغية بتلك المكتسبات، بل عمدت إلى تطويرها، فاستغلت الحراك الشعبي في 2011 وانضمت إليه وطالبت بمزيد من الحقوق والحريات، وبالفعل تحقق لها ما أرادت. ففي المغرب أقرَّ الملك محمد السادس إصلاحات أساسية هدفت إلى إخماد هذا الحراك، فتحولت الأمازيغية إلى لغة رسمية إلى جانب العربية، ما يعني عمليًّا اعترافًا أوليًّا بوجود الأمازيغ في المغرب، وتاليًا بحقوقهم.

كذلك صدرت مجموعة من القرارات التي تعيد الاعتبار للأمازيغية، من بينها إضافتها للافتات الرسمية في الشوارع العمومية، وإشارات الطرق، إلى جانب تسميات الوزارات والمرافق العمومية. وعلى الجانب الإعلامي، أنشأت وكالة الأنباء الرسمية قسمًا خاصًّا بالأمازيغية لا يبثُّ مواده إلا بها.

وبعد أن اعترفت الجزائر بالأمازيغية لغة وطنية في 2002، تم الاعتراف بها بصفتها اللغة الرسمية الثانية بعد العربية في تعديل دستوري اعُتمد عام 2016. كما أقُرَّت رأس السنة الأمازيغية (الـ 12 من يناير/كانون الثاني) عيدًا وطنيًّا، ما مثل اعترافًا بالأمازيغ كمكون من مكونات الشعب الجزائري.

والملاحظ هنا أن الحراك الأمازيغي لم يكن وحده السبب في حدوث هذه التطورات الثقافية، إذ لعب التنافس بين السلطتين في المغرب والجزائر، دورًا رئيسيًّا في التعاطي مع هذا الملف، فما تُقدم عليه سلطة ما في البلدين، من انفراج أو استجابة لمطالب الحركة، ليس بالضرورة نابعًا عن اقتناع بقدر ما هو محاولة لاستباق الأسوأ، أو إحراج الآخر.

وإن كانت المكتسبات التي حصل عليها الأمازيغ بالمغرب أكبر من نظيرتها بالجزائر، فالأمر هنا يتعلق بموقف المغرب من الحركة الأمازيغية، حيث نُظر إليها باعتبارها حركة ثقافية جاءت رد فعل على إقصاء البعد الثقافي الأمازيغي من المشهد الثقافي والإعلامي المغربي، ومن ثَمَّ فمطالبها مشروعة واستيعابها أفضل بكثير من إقصائها، حتى لا تتحول عاملًا مهددًا للاستقرار كما حدث بالجزائر (أحداث القبائل).

أخيرًا، يمكن القول إنه بالرغم من تلك المكتسبات التي حققتها الحركة الأمازيغية في المغرب والجزائر بصفة خاصة، إلا أن الواقع ليس بهذه الصورة الوردية، فالأمازيغ ما زالوا عرضة للتمييز ضدهم في كثير من المجالات الاجتماعية والثقافية، والاقتصادية. فوفقًا لتقرير حقوق الإنسان المغربي (2017) فإن الفقر ومعدلات الأمية بين الأمازيغ هي الأعلى بالمغرب.

وبرغم من اعتماد اللغة الأمازيغية كلغة ثانية في الجزائر ولغة رسمية بالمغرب، فإن هناك بطئًا في تفعيل القوانين التنظيمية الخاصة باعتماد هذا الطابع الرسمي. كما أن استخدام هذه اللغة ما زال مقتصرًا على نطاق التواصل، فالعقليات بالمجتمع غير مستعدة لدمج الأمازيغية وإعطائها فرصة حقيقية، فالتغيير والتطور الذي حدث كان على مستوى الخطاب، لكنه لمَّا يُترجم بعد في الممارسة العملية.