«بنديكت أندرسون» في حضرة «مويك»
انطلقت فكرة «نماذج المحاكاة» من خارج الجامعة الأمريكية إلى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، لتولد زخمًا كبيرًا لنمط جديد من الحراك الطلابي الأبرز والأكثر جذبًا للطلاب خلال الألفية. حيث انتقل «نموذج محاكاة الأمم المتحدة» في قسم العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية كتقليد للجامعات الغربية في أن يقوم الطلاب بالممارسة لنموذج مؤسسة دولية قائمة ومحاكاتها لتطبيق دراستهم الأكاديمية بشكل علمي والتدريب خلال محاضرات طيلة فترة الدراسة على أهم القضايا التي تطرح على أجندة نموذج المحاكاة للأمم المتحدة من خلال مؤتمر ختامي. ثم ما لبثت أن انتشرت هذه النماذج في حيز الكليات الأخرى مثل هندسة عين شمس والقاهرة لتقليل الفجوة بين الطالب وسوق العمل، مثل نموذج STP بهندسة القاهرة 2005، وأصبحت نماذج المحاكاة الصورة الأكثر رواجًا للنشاط الطلابي حتى الآن وانتشرت من القاهرة والجيزة إلى محافظات أخرى.
نمط «التعليم بالدورة» وتراجع فعالية المؤسسات التعليمية
تمنح نماذج المحاكاة شهادات لأفرادها بأنهم قد حصلوا على دورات معينة، وليس بإمكاننا أن نقرأ هذا النمط بعيدًا عن سياسات الدولة التي روّجت في ظل ارتفاع معدلات البطالة لعمل دورات تدريبية تحت مظلة الصندوق الاجتماعي للتنمية، تستهدف خريجي الجامعات العاطلين لإعطائهم تدريبات مختلفة، ويتلقى الخريج مكافأة زهيدة مقابل التدريب.عبر هذا النمط، حاولت حكومة مبارك في ذلك الحين خلق انطباع أن الحكومة تعالج المعدلات المرتفعة للبطالة، وتم تأسيس جمعية «جيل المستقبل» لجمال مبارك في 2003 لإعطاء دورات تأهيلية لسوق العمل، كل هذه السياسات صدى لسياسات صندوق النقد لدولي والبنك الدولي للاندماج في السوق العالمي.لا يمكن إذن فهم فكرة الأنشطة الطلابية التي تستهدف بالأساس تأهيل الطلاب لسوق العمل وتقليل الفجوة بينهما بمعزل عن هذه التطورات من قِبل الدولة، فكما تشظى التعليم بين أكثر من مؤسسة، نلاحظ كيف كان يتفكك سوق العمل لأكثر من خيارات متفاوتة بين العمل الحكومي والسوق العالمي والشركات الخاصة، وكيف تشظت قسمة شهادة المؤهل الذي تمنحه الدولة ومؤسساتها لأكثر من جهة تمنح شهادات عدة لاجتياز دورات متناثرة لأجل شغل وظيفة في سوق العمل المتأزم.هذا التخويل بمنح الشهادات وإن كان جزءًا من سياسات النيوليبرالية العالمية وبمركزية السوق، إلا أنه لم يكن ليتم إلا عبر قوانين أقرتها الدولة لتعيد المشهد الاجتماعي في مصر كافة، وهذا ما سيجعل فكرة التعلم خلال الدورات ظاهرة مكثفة في السياق المصري سواء في الجامعة الامريكية والتعليم المفتوح أو غيرهما.هذه الصورة العامة التي تحتاج لمزيد من الدراسة والتحليل لوضع الجامعة منذ أواخر التسعينيات والألفية حتى الآن مؤشر على كثير من التغييرات للطبقة الوسطى وشبابها في مصر وعلاقتهم بسوق العمل، ولكن ما يجعلنا نعرج عليه هو أن هذا النمط من الحراك قد جاوز آثاره أحيانًا ليلقي بظلاله على النخبة السياسية والمجتمعية في البلاد، واشتبك أحيانًا مع قضايا فكرية وأيديولوجية ذات طابع عمومي.سنأخذ لذلك مثالاً هو نموذج محاكاة منظمة المؤتمر الإسلامي، المعروف اختصارًا باسم «مويك MOIC» والذي مثل لبعض الوقت النبع المتدفق لإمداد مبادرات شباب الإسلاميين بالمتطوعين والإداريين سواء في التكوينات الاجتماعية والتعليمية أو في التكوينات السياسية مثل حملة أبو الفتوح الانتخابية.
نموذج محاكاة منظمة المؤتمر الإسلامي MOIC
في الفيديو التعريفي بمويك،يتصدر مشهد استشهاد الطفل «محمد الدرة» في الانتفاضة الفلسطينية عام 2000. محور قضية مويك الرئيسي وهو القضية الفلسطينية، وهو ما جذب إليها شباب الإسلامين إلى نموذج مويك لأن رسالته تمحورت حول القضية التي تربوا عليها منذ الصغر «تحرير الأقصى». خرجت مويك كمبادرة من أحد طلبة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية قام بتأسيس مويك في ذكرى حريق الأقصى 2005.
مويك هو مجرد نموذج محاكاة، نشاط داخل الجامعة له نفس منطق الأنشطة الطلابية وهياكلها التنظيمية، ولكنه يتفرد بالاهتمام بالقضية الفلسطينية وتبني النموذج المعرفي الإسلامي. وكما يصفه الكاتب «أحمد أبو خليل» في كتابه «يومًا كنت إسلاميًا» فهو أول نشاط طلابي يرفع لافتة إسلامية دون أن يكون إسلاميًا بالمعنى السياسي التقليدي ولا بأشخاصه بخلفياتهم وسلوكياتهم الاجتماعية.يقيم «مويك» حفلات الختام والافتتاح في فنادق وقاعات مؤتمرات كبقية نماذج المحاكاة، لا يبدأ أعضاؤه لقاءاتهم بالتعريف بأخيكم في الله، لا يعرفون «الأناشيد» الإسلامية النمطية، يشترون الديلفري من «ماك» و«مؤمن» وهم يتحدثون عن الأقصى، ويحرصون على كسر كل الحواجز حرصهم على الإنجاز والإبداع والتفكير.مويك مجتمع ملائم لكل من يريد الصحبة الملتزمة دينيًا ويضيق بالقيود والتعليقات السلوكية للإسلاميين التقليديين، ثمة حالة طقسية تحدث حيث يتم «استحضار النية»، وإن يكن طقسًا حداثيًا لا يتعدى التعبير بالقول، شعارات مويك محملة باللغة الهوياتية التي تميز مجتمع الإسلاميين؛ كـ«ـبناء الفرد الأمة ،الثغر »، ولهذا فهي غير مألوفة لبعض الأفراد الذين يستشعرون «الغربة» فيه.
افتتح مويك عدة فروع بعد الثورة في جامعات مختلفة، مويك حلوان ومويك الأزهر ومويك عين شمس ومويك الجامعة الألمانية، ليصبح فضاء لتمايزات الطبقية والتشظي اللغوي، فحيث تسيطر الشرائح العليا من الطبقة الوسطى على مويك من بعد الثورة في «سياسة واقتصاد-القاهرة» ومويك «الجامعة الألمانية»، غدت اللغة الإنجليزية هي اللغة الأكثر تداولًا بين أفراد النموذج هناك. أما «مويك حلوان» و«مويك الأزهر» فما زالت اللغة الهوياتية والحديث عن القضية الفلسطينية يغلب عليهما، ربما لأن أغلب المنتمين إليه من الشريحة الدنيا للطبقة الوسطى وطلاب الأقاليم المغتربين.
يفيد طرح «بندكيت أندرسون» في الجماعات المتخيلة في فهم حالة نماذج المحاكاة عامة حتى في مسماها القائم على التخيل أو «المحاكاة» ومويك خاصة؛ حيث يشير أندرسون إلى دور الوسائط الإعلامية مثل الصحف في صياغة المجتمعات الوطنية التي خلقت من القراء مجتمعًا متخيلًا، ويخص أندرسون نشوء رأسمالية النشر وتنامي جمهور قارئ للصحف باعتباره الآلية الأولية لمخيال الجماعة الوطنية من القرنين الـ18 والـ19.فيجعل من قراءة الصحيفة طقسًا جماعيًا رغم أنه يتم في عزلة صامتة، ويؤدي إلى الانعزالية أيضًا، ولكن رغم ذلك فداخل هذا تواصُل مدرك تمامًا لحقيقة أن الطقس الذي يؤديه يتكرر على نحو متزامن مع آلاف أو ملايين آخرين، وهو واثق من وجودهم وإن لم تكن لديه أدنى فكرة عن هوياتهم، فثبات التلقي في طبيعة الجريدة التي يقرأها كل جيرانه في كل مكان حوله يتلقى عبره تأكيدًا متواصلاً بأن الدنيا المتخلية تضرب بجذورها على نحو واضح في الحياة اليومية، وتتسرب الأسطورة بهدوء وتواصل إلى الواقع لتخلق تلك الثقة الرائعة بوجود رابط اجتماعي في الخلفية التي هي دمغة الأمم الحديثة.فمجرد قراءة صحيفة أو معرفة أن الآخرين يفعلون الشيء ذاته في نفس الوقت يوحي بالتزامن وبالمجتمعية وكلاهما بالغ الأهمية لمخيال المجتمعات الوطنية. وبينما يذكر أندرسون أن المجتمعات المتخيلة تخلق عبر اختلاط الخرافة بالحقيقة، ففي «مويك» لا يستند على الخرافة وإنما على «الحكاية» أو «السردية» التي تتمحور حول القدس واستردادها من الاحتلال الإسرائيلي. ثم يساهم حضور نفس المحاضرات في نفس الوقت لأشخاص متعددين وتداول نفس المفردات والمشاركة في الحديث عن نفس القضية بدون وعي كامل ولا معرفة حقيقية بالوضع الحالي في فلسطين الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، بقدر ما يستقدم من الماضي ما يخدم سرديته، يعيش على ظلال الماضي لضمان نقاء السردية، فتتحول السردية عبر المشاركة في الحملات والكتابة في مجلة النموذج وعمل الفيديوهات وغيرها من تفاعلات بين الأفراد إلى واقع «قريب التحقق»، ويعيد تعريف الأفراد لذواتهم بنسب نفسه لكيان الأمة المتخيل.أدى التشظي في المشهد الاجتماعي في مصر وتفكيك الروابط العائلية إلى لجوء الأفراد للبحث عن روابط بديلة يعيد فيها صياغة أشكال الولاء والتآلف. ولأن الأنشطة الطلابية أوجدت محمية جديدة صغيرة للاجتماعات المختلطة ومكانًا آمنًا للانفتاح بين الفتيات والشباب الملتزمين دينيًا، بدأ الشعور يتكثف بالرغبة في امتداد هذه العلاقات من ضيق النشاط الطلابي إلى روابط أكثر أصالة في الزواج والعمل، ليجد الفرد من يشاركه نفس السردية ونفس اللغة ويجد المساحة المشابهة التي تشعره بأن المتخيل قائم لن ينقطع بمجرد تخرجه من الجامعة.