الحزام والطريق: الصين ولعبة السيطرة على مفاصل العالم
مع التوسع المذهل لمصالحها الاقتصادية حول العالم، تتبع الصين خطة محكمة للتواجد القوي في كل المضايق الاستراتيجية والقنوات الملاحية العالمية، من أجل حماية مصالحها التجارية المتنامية، وقد أطلق الرئيس الصيني شي جين بينج، مبادرة «الحزام والطريق» في 2013، والتي بموجبها تعزز الصين مصالحها الاقتصادية مع الدول التي تمر بها الخطوط الملاحية، من الصين وحتى أوروبا.
ونجحت الخطة الصينية بدرجة جعلت ما كان يردده الخبراء الاستراتيجيون في السابق عن قدرة خصوم الصين على غلق الممرات الملاحية في وجهها، شيئًا من الماضي، بل قد ينعكس الأمر تمامًا إذا استمر النفوذ البحري الصيني بالصعود بنفس الوتيرة الحالية، والتي تصيب المراقبين الغربيين بالذهول.
الصين: الصديق عند الضيق
فالصين هي «الصديق الذي يأتي عند الضيق»، إذ لا يوجد مضيق استراتيجي في العالم إلا وتربط الصين معاهدات الصداقة والشراكة بإحدى الدول المطلة عليه، وكانت البداية من مضيق ملقا، الذي يصل بين المحيط الهادئ، والمحيط الهندي، حيث عززت الصين علاقاتها الاقتصادية والعسكرية مع ماليزيا، التي تشرف على المضيق، إلى جانب إقامة مدينة صينية كاملة به؛ فقد بدأت شركة «كونتريغاردن» الصينية في ردم أجزاء من البحر لتشييد مدينة جديدة في ولاية جوهور الماليزية، على المدخل الجنوبي لمضيق ملقا، على حدود سنغافورة مباشرةً، تسمى «مدينة الغابة» على أربع جزر اصطناعية، تُقدر تكلفتها بنحو 100 مليار دولار، ومن المقرر أن تضم المدينة، 700 ألف شخص، وقد بدأت الشركة البناء في فبراير/شباط من العام الماضي، ويشبّه الصينيون موقع المدينة المجاور لسنغافورة بمدينة شنجن بالصين، التي حققت طفرة اقتصادية بسبب مجاورتها لهونج كونج، إلا أن لمدينة الغابة أفضلية بسبب وقوعها في قلب المضيق.
وفي شمال مضيق ملقا وعلى حافته الشرقية أيضًا تقع جزيرة بينانج الماليزية، ذات الأغلبية من أصول صينية، والذين توسعوا في شراء الأراضي من السكان المحليين، حتى أصبحت الجزيرة صينية الطابع، ما سبب قلقًا لدى عدد من المراقبـين، حتى قال أحد الدبلوماسيين الماليزيين: «بينانج ذهبت إلى الصين».
وليس ببعيد عن مضيق ملقا، يمر عدد كبير من السفن الصينية عبر المضايق الإندونيسية رغم بعدها النسبي؛ إذ إن المسار البحري الذي يمر بمضيقي لومبوك وماكاسار داخل المياه الإقليمية الإندونيسية، أعمق وأوسع وأكثر أمنا من مضيق ملقا، و تتبنى الحكومة الإندونيسية مشروعات لتطوير البنية التحتية بهذا الطريق وتوفير الخدمات اللوجيستية لمنافسة مضيق ملقا، بالتعاون مع الشركات الصينية، وتتداول الأوساط السياسية الإندونيسية أحاديث عن وجود خطط صينية لإنشاء سبع مدن ساحلية، في عدة مواقع مهمة في أنحاء البلاد.
مضيق باب المندب
تحرص الصين على التواجد في مضيق باب المندب انطلاقًا من جيبوتي، حيث تمول المصارف الصينية 14 مشروعًا في البنى التحتية في البلاد، بتكلفة 14.4 مليار دولار، وتشمل المشروعات إنشاء ستة موانئ مصممة خصيصا لاستقبال الحاويات القادمة من الصين، و يُعرب مسئولون أمريكيون ورموز معارضة في جيبوتي عن خشيتهم من عدم قدرة حكومة هذا البلد الصغير على تسديد تلك الديون، وما يترتب على ذلك من امتلاك المصارف الصينية لتلك المشروعات، وهو السيناريو المتوقع.
ومن المقرر أن يشهد هذا العام افتتاح القاعدة العسكرية الصينية في مضيق باب المندب، والتي تم الإعلان عنها بعد زيارة رئيس الأركان الصيني، الجنرال فانج فينج هوي، في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، وهذه أول قاعدة عسكرية صينية خارج الحدود، ويُنظر لهذا الحدث باعتباره إيذانًا ببدء مرحلة الانتشار العسكري للصين المصاحب للنفوذ الاقتصادي، و تنفي الصين ذلك تمامًا، وتصر على اعتبار القاعدة لوجيستية وليست عسكرية، برغم أن وسائل الإعلام الصينية نفسها تقول بأن القاعدة أُنشئت بهدف «مواجهة القراصنة وتأمين الملاحة في باب المندب»، وهما مهمتان ذاتا طابع عسكري وليس لوجيستيا فقط.
مضيق جبل طارق
تشكل المملكة المغربية نقطة ارتكاز محورية في مشروع الحزام والطريق، حيث توفر المملكة للصين إطلالة عميقة، وفرصة للانطلاق في ثلاثة فضاءات؛ هي فضاء البحر المتوسط، والأطلسي، وغرب أفريقيا، بما يحمله هذا الموقع من منافع اقتصادية جمة، لاسيما وقد اختارت الصين موقعًا استراتيجيًا قرب مدخل مضيق جبل طارق، حيث تم توقيع مذكرة تعاون لإنشاء مدينة صناعية صينية في مايو/آيار من العام الماضي، حيث تكفلت مجموعة هايت الصينية، ببناء المدينة بتكلفة 10 مليارات دولار على مساحة 2000 هكتار، ومن المقرر نقل آلاف الصينيين للعيش والعمل بالمدينة الجديدة.
وتتشارك 3 دول السيادة على مضيق جبل طارق، وهي: المغرب وإسبانيا وبريطانيا، وتتسلل الصين هنا عبر البوابة المغربية لحجز موقع متقدم على المضيق يتيح لها التواجد في مدخل البحر المتوسطـ بما يحمله الموقع من أهمية بالغة.
اقرأ أيضًا:جبل طارق: نزاع أوروبي على هامش البريكست
قناتا بنما ونيكاراجوا
قناة بلما
أولت الصين اهتمامًا بالغًا بموقع قناة بنما التي يمر بها جزء كبير من تجارتها للأمريكيين، و زادت أهمية القناة بعد التوسعات الأخيرة التي انتهت في 26 يونيو/حزيران من العام الماضي، في الشهر التالي لشراء مجموعة «لاندبريدج» الصينية ميناء جزيرة مارغريتا، على الجانب الأطلسي للقناة، وهو أكبر ميناء في بنما، حيث تشيد الصين عدة مشروعات من ضمنها إنشاء ميناء للحاويات الضخمة وعدة مشروعات اقتصادية بتكلفة 900 مليون دولار، ويدير الشركة مسئولون وعسكريون صينيون، وعلى المدخل الآخر للقناة كانت شركة هوتشيسون وامبوا الصينية أيضا تقوم بأعمال توسيع لميناء بالبوا البنمي منذ عام 2015، بتكلفة قدرها نحو 110 ملايين دولار.
وفي نيكاراجوا إلى الشمال من قناة بنما وعلى بعد أقل من 200 ميل، تتبنى الصين مشروعًا لحفر قناة ملاحية جديدة؛ ففي ديسمبر/كانون الأول 2014 بدأت مجموعة هونغ كونغ في تطوير قناة نيكاراجوا (HKND)، بحفر القناة التي سوف تكون أكثر عمقًا واتساعًا وطولًا من جارتها –278 كيلومترا– وذلك بتكلفة تبلغ نحو 50 مليار دولار، ويـُتوقع أن يتم افتتاحها بحلول عام 2020.
وقد منح الرئيس النيكاراغوي دانيال أورتيغا، المجموعة الصينية، امتيازًا مدته خمسين عامًا يمكن تجديده لخمسين سنة أخرى، ومن المقرر إقامة مناطق اقتصادية حرة صينية على جوانب القناة، وتمضي الصين قدمًا في المشروع رغم تكاليفه الباهظة وأضراره الكارثية على البيئة والاحتجاجات المحلية، إذ ستتم إزالة 400 ألف هكتار من الغابات، وتهجير قرابة 30 ألف مواطن.
والصين بهذه المشروعات الأخيرة تقضي تمامًا علـى مبدأ مونرو الأمريكي، الذي ينص على اعتبار أمريكا اللاتينية منطقة نفوذ أمريكية لا يحق لأي دولة أجنبية أن تتدخل فيها، لذلك يحلو للبعض أن يصف المشروع بأنه حصان طروادة الصيني، باعتبار أن منطقة بحر الكاريبي كانت تعد منذ القرن التاسع عشر مجرد فناء خلفي للولايات المتحدة الأمريكية.
المحيط الشمالي المتجمد (سابقًا)
وبالإضافة إلى ما سبق، فإن الصين بدأت في تجربة استخدام الطريق البحري الذي يمر بالمحيط الشمالي المتجمد، بالاستعانة بكاسحات الجليد، لنقل بضائعها لغرب أوروبا في وقت قصير، بعد أن أدت ظاهرة الاحتباس الحراري لذوبان الجليد في المنطقة، ما جعلها مؤهلة للملاحة أكثر من ذي قبل،إذ كانت تلك المنطقة ليس لها أي قيمة ملاحية في السابق بسبب كثافة الجليد.
وكانت إدارة سلامة الملاحة الصينية قد أصدرت في أبريل/نيسان عام 2016، دليلًا باللغة الصينية يحتوي على تعليمات مفصلة للإبحار بالمحيط الشمالي المتجمد، ونقل موقع (بي بي سي)، عن ليو بينغفي، الناطق باسم وزارة الملاحة البحرية الصينية، قوله: «عندما تعتاد السفن استخدام هذا الطريق سيغير ذلك وجه الملاحة التجارية العالمية».
ووفقًا لتقرير لموقع شبكة (سي إن إن) الأمريكية، فإنه لايزال هذا الطريق المختصر المتجمد في بداية أيامه، فعام 2010 كانت 4 سفن فقط تستعمل طريق بحر الشمال، وارتفع العدد إلى 71 سفينة عام 2013، ليعود ويتراجع قليلاً عام 2014 إلى 53، إلا أن الاهتمام الصيني بالمنطقة يتزايد منذ انضمت الصين للمجلس القطبي الشمالي بصفة عضو مراقب عام 2013.
ولا تنوي الصين الاعتماد على الطريق القطبي في الملاحة بسبب نقص الخدمات اللوجيستية به، وارتفاع تكلفته، وانخفاض معدلات الأمان به، إذ من الأفضل لها الانتظار حتى يذوب الجليد بشكل أكبر، لكنها تستخدم هذه الورقة للضغط على إدارتي قناة السويس وقناة بنما لتخفيض رسوم العبور بهما، فطالبت قناة بنما بتقليل الرسوم بما يقارب 30%، وطالبت قناة السويس بتخفيضها للنصف من أبريل/نيسان 2016، وهو ما استجابت له قناة السويس بالفعل، وأعلنت عن التخفيضات المطلوبة بعد ذلك بشهرين.
قناة السويس
وبسبب التطورات الأخيرة التي شهدتها المسارات الملاحية العالمية، تحدثت بعض التقارير عن مدى إمكانية تخفيض رسوم عبور قناة السويس إلى الصفر في مقابل الاعتماد على الخدمات اللوجيستية المعتمدة على موقع القناة، وحتى هذه أيضًا فإن للصين منها النصيب الأوفر، فالصين هي أكبر مستثمر على الإطلاق يساهم في تنمية محور قناة السويس، فشركة تيدا الصينية، هي أحد أكبر المطورين الصناعيين في المنطقة الاقتصادية للقناة، وقد خصصت الحكومة المصرية 7.23 كيلومتر للشركة الصينية، بالإضافة إلى المفاوضات الجارية لإنشاء المزيد من المشروعات.
مضيق هرمز
وفيما يتعلق بمضيق هرمز فقد قرر الصينيون إنشاء منطقة صناعية كبرى قريبًا منه، وتحديدًا على الساحل العماني، على مساحة 900 هكتار – ما يعادل 90 كم – في منطقة الدقم، فقد وقعت سلطنة عمان اتفاقًا لإنشاء المدينة في 23 مايو/أيار من العام الماضي، مع شركة «وان فانج عمان» الصينية التي ستضطلع بدور المالك ومدير المشروع، الذي تصل تكلفته لأكثر من 10 مليارات دولار، ويتضمن الاتفاق إنشاء مصفاة نفط ومجمع للبتروكيماويات وعدد من المشروعات الصناعية الكبرى.
وعلى الضفة الأخرى من بحر العرب يقع ميناء غوادر، الذي سلمته الحكومة الباكستانية للصين منذ أربعة أعوام، وترجع أهمية الميناء لقربه من مضيق هرمز الذي يعتبر ممرًا رئيسيًا لنقل النفط من الخليج، وقد بُني بتمويل صيني،وترسو السفن الحربية الصينية هناك بين الفينة والأخرى، لكنها لا تتمركز في الميناء بشكل دائم، إذ يثير التواجد العسكري الصيني المخاوف الهندية والأمريكية.
نظرية القوة البحرية
من خلال تتبع الانتشار الصيني في المناطق الاستراتيجية من العالم يبدو جليًا تأثر الصينيين بنظرية «القوة البحرية» التـي وضعها الأدميرال الأمريكي ألفريد ماهان، أواخر القرن التاسع عشر، ففي كتابه «تأثير القوة البحرية على التاريخ» الذي نشر في عام 1890. يؤكد ماهان أن العلاقة وثيقة للغاية بين القوة البحرية والتنمية الاقتصادية، ويرى أن القدرة على حماية القوة التجارية عن طريق البحر هي فقط التي من شأنها أن تعمل على تأمين هذه الرابطة، وطبقا لهذه النظرية فإن المصالح الاقتصادية تستجلب معها التواجد العسكري فيما بعد، ولذلك فإن «سلوك الصين عبر حصولها على قواعد بحرية على طول المضايق والممرات البحرية في المحيط الهندي لم يكن لخدمة مصالحها الاقتصادية فحسب، بل لتعزيز وجودها الاستراتيجي في المنطقة أيضًا»، إذ إن من يتحكم في المضايق الاستراتيجية يتحكم في تجارة العالم واقتصاده، وأمنه أيضًا.
وتسعى الصين إلى بناء القواعد عبر البحار بدلًا من استعمار الدول سعيًا إلى تعزيز قوتها البحرية، وكانت تحليلات غربية قالت إن الصين تخطط لإنشاء المزيد من القواعد العسكرية في السنوات المقبلة، خصوصًا في دول الطريق البحري، التي لدى الصين استثمارات في موانئها، لكن تظل قاعدة جيبوتي هي القاعدة الرسمية الوحيدة حتى الآن.
وتخطط الصين لمضاعفة عدد قواتها البحرية 4 مرات لحماية خطوطها وطموحاتها البحرية الحيوية، برغم التوجه العام لخفض عدد أفراد الجيش، إلا أن النشاط البحري يبدو أنه سيكون سيد الموقف خلال الفترة المقبلة.