تورط ابن الخامسة عشرة في الحياة السياسية مذ انضم إلى جماعة الدستور الحر الجديد عام 1941، وهو حزب تأسس سنة 1920، وشكّل تأسيسه حلقة مهمة ضمن المشوار التحرري لشباب تونس. أسسه الحبيب بورقيبة أول رئيس لتونس المستقلة، رفقة آخرين. ترقى «الباجي قائد السبسي» داخل الجماعة إلى أن صار بُعيد الاستقلال مستشارًا لبورقيبة الرئيس، ومقربًا منه.

خدم السبسي في عهد بورقيبة في عدد من المناصب السياسية المهمة: عمل وزيرًا للداخلية بين عامي 1965 و1969، ثم وزيرًا للدفاع بين عامي 1969 و1970، وأخيرًا شغل منصب وزير الخارجية من عام 1981 وحتى 1986. التحول الدرامي الأول في حياة السبسي السياسية كان في العام التالي، 1987، عندما قام وزير الداخلية حينها زين العابدين بن علي بالانقلاب على بورقيبة وتولى زمام السلطة، لحظتها حول السبسي ولاءه من بورقيبة إلى ابن علي، واختير للعمل بالقرب من ابن علي.

عُين السبسي سفيرًا لتونس لدى ألمانيا، ثم رئيسًا لمجلس النواب خلال عامي 1990 و 1991، وبعدها تقاعد وابتعد عن الحياة السياسية لعشرين عامًا كاملة، قبل أن يعود في عهد جديد وظروفٍ ثورية. كان السبسي شاهدًا على تحولات تونس الحديثة، وعاصر أجواء شديدة التناقض، لكن لأنه كان الرجل الذي يجيد تبديل الولاء، والتأقلم مع الحال المتغير، فهو الآن رئيس لتونس الجديدة، تونس الثورة، قبل أن توافيه المنية صباح اليوم، 25 يوليو/ تموز 2019.


فلاش باك: «السبسي رئيسًا»

يناير/ كانون الثاني 2011، رفض الفريق أول رشيد عمار قائد أركان جيش البر الامتثال لأوامر الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، وإصدار الأوامر لقواته بقمع الانتفاضة. على الأرجح أدرك قائد الأركان أن قواته – التي لا يزيد عددها على ثلاثين ألف رجل – إذا ما وُضعت في مواجهة مع انتفاضة بحجم تلك التي شهدتها البلاد في الأيام الأولى من يناير/ كانون الثاني، يُرجح أن تتمرد وتصطف إلى جانب المتظاهرين، كما أن القمع الدموي من قوات الشرطة لم يؤدِ سوى إلى تأجيج الغضب الشعبي، وخلفًا لهذا وذاك، كان الأمر فُجائيًا ولم يكن النظام العربي بعدُ طور آلية للتعامل معه.

وصلت الإشارات لابن علي، ومفادها أن المحتجين لم يعودوا يقبلون بالعودة إلى ما كانوا عليه في السابق، وأن الجيش ربما يتدخل لعزله والانقلاب عليه، وهو ما حدث بالفعل في الرابع عشر من نفس الشهر. فشل محمد الغنوشي، آخر رئيس وزراء في عهد ابن علي (1999 – 2011) في لملمة الأمور، وكان الجيش قد أسند إليه مهمة تشكيل حكومة وفاق وطني قادرة على ضبط الشارع التونسي الغاضب، وبالفعل استقال الغنوشي وحُلت حكومة الوفاق الوطني التي شكلها.

كانت خيارات الجيش في ذلك الوقت محدودة، لا سيما وأن الجيش التونسي لطالما كان بعيدًا عن السياسة، فجاء بأحد أعضاء الحرس البورقيبي القديم، الباجي قائد السبسي.

كانت مهمة السبسي محددة وواضحة، وهي أن يصل بالبلاد إلى انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول، ويسلم رفقة الرئيس المؤقت في ذلك الوقت، فؤاد المبزغ، السلطة إلى الحكومة الجديدة، المنتخبة ديمقراطيًا، وهو ما كان في ديسمبر/ كانون الأول 2011.

قبل الحديث عن لحظة تسليم السلطة، ثمة محطة مهمة في تلك المرحلة تجدر الإشارة إليها، وهي لحظة الخامس من مايو/ آيار. اتهم وزير الداخلية السابق في حكومة الوفاق الوطني، فرحات الراجحي، السبسي بالعمل على انقلاب على الديمقراطية، لمنع وصول الإسلاميين المنتظر إلى السلطة في انتخابات ديسمبر/ كانون الأول. رفض السبسي تلك الاتهامات في حينها واتهم الراجحي بالكذب، لكن مفعول تلك الاتهامات استمر لعدد من الأيام، شهد الشارع التونسي خلالها ضغطًا جماهيريًا كبيرًا، وشكك الغنوشي (زعيم حزب النهضة الإسلامي) حينها في أداء حكومة السبسي.

اقرأ أيضًا: تونس 2019: هل يتكرر السيناريو المصري في تونس؟

على كل حال، وصلت البلاد إلى لحظة تسليم السلطة، وانتخب المجلس الوطني التأسيسي في أكتوبر/ تشرين الأول بأغلبية إسلامية (أغلبية حزب النهضة)، لكن الحزب فضل الدخول في تحالف ثلاثي حكم تونس لأربع سنوات لم يحقق فيها مستوى طموحات الشعب التونسي بعد الثورة، هذا الشعب الذي انتخب السبسي رئيسًا في 2014، عقابًا لقوى التحالف: النهضة الإسلامي، والمؤتمر من أجل تونس، وثالثهم حزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات.


نداء تونس أم نداء آل السبسي؟

في ظل الفراغ السياسي الذي تسببت فيه ثورة الياسمين، نشأت عشرات الأحزاب متباينة الأهواء والتوجهات، كان حزب نداء تونس من بينها. أسس الباجي السبسي الحزب على قاعدة صلبة، هي العداء للإسلام السياسي وقوى الثورة. انضم للحزب رجال الحرس البورقيبي القديم، سليلو الحزب الاشتراكي الدستوري (الدستور الحر الجديد بعدما تغير اسمه عام 1964)، ووريثه التجمع الدستوري الديمقراطي. سرعان ما تصدر الحزب الوليد نتائج انتخابات 2014، وتمم هذا الإنجاز بصعود رئيسه، الباجي السبسي، إلى الرئاسة.

واجه نداء تونس مشكلة كادت تؤدي لتفتته قبل الانتخابات، لكن السبسي بحنكة السنين أجّل عقد المؤتمر التأسيسي للحزب لما بعد انتخابات 2014. هذه المشكلة تمثلت في المكونات غير المتجانسة داخل الحزب، إذ ضم الحزب – كما سبق وذكرنا – حرس بورقيبة القديم، وعددًا من الليبراليين والمفكرين والنقابيين، يجمعهم الوقوف ضد النهضة، وتفرقهم بعد ذلك مختلف المآرب.

طُرح اسم حافظ خلال الانتخابات التشريعية عام 2014 لرئاسة قائمة الحزب بدائرة انتخابية مهمة بالعاصمة، لكن بعض الأعضاء المؤسسين بـ«نداء تونس» احتجوا على هذه الحركة التي خافوا أن تتطور لاحقًا لتصبح شكلًا من أشكال «التوريث السياسي»، فتدخل السبسي الأب وحسم الأمر على حساب رغبة ابنه؛ خوفًا من إحداث أزمة في الحزب.

كان اسم حافظ السبسي قد برز بعدما أسند له والده رئاسة لجنة الهيكلة والتنظيم بحزب نداء تونس، وهي مهمة دقيقة في الأحزاب السياسية بشكل عام، إذ تُمكن مديرها من التحكم في كل هياكل الحزب، لا سيما هندسة المؤتمر التأسيسي. ومن هنا بدأ حافظ في تكوين علاقات مع رجال أعمال الحزب، وخلق شبكة من الولاءات داخل هياكل الحزب ومكتبه التنفيذي، مستفيدًا من منصبه الجديد ومن منصب وعلاقات أبيه.

اقرأ أيضًا:حافظ السبسي: ماذا تعرف عن ابن الرئيس الساعي لخلافة أبيه؟

تصاعدت الصراعات الكامنة داخل الحزب بعد الانتصار الكبير في 2014، وانتظر كل فريق حقه من المكاسب والمناصب الوزارية. وخلال هذه الأزمة، صعد نجم الشاب الجديد في عالم السياسة التونسية، حافظ السبسي، نجل الرئيس. تحالف السبسي الابن مع رضا بلحاج (أمين سر الرئيس ومدير مكتبه)، وقادة جبهة التيار المحافظ الذي يضم ليبراليين ورجالًا من نظام زين العابدين بن علي ورجال أعمال، للإطاحة بيساريي الحزب وعلى رأسهم أمينه العام محسن مرزوق. وانتهت الحرب بهزيمة مرزوق واستقالته من الحزب، لكنه لم يخرج منفردًا، إذ استقال معه نحو 25 برلمانيًا من نداء تونس، بالإضافة إلى عشرات الأعضاء الآخرين.

سرعان ما تشتتت حركة نداء تونس، وحدث فيما بعد صدام بين السبسي الابن ويوسف الشاهد رئيس الحكومة. استعان الأخير بحركة النهضة فدعمت بقاءه من داخل البرلمان على عكس رغبة السبسي الأب والابن معًا، وسرعان ما اتخذت الهيئة السياسية لنداء تونس قرارها بإبعاد السبسي الابن من الحزب، على أن تتولى هي زمام الأمور، لحين انعقاد المؤتمر الانتخابي في سبتمبر/ أيلول القادم.


الديمقراطية هي الأهم

مثلت لحظة انتقال السلطة من التحالف الحاكم (الترويكا) في 2014 إلى الرئيس المنتخب، الباجي السبسي، ذروة نجاح الثورة التونسية. وينتظر التونسيون في نوفمبر/ تشرين القادم الانتخابات الثالثة بعد الثورة، لكن وفاة الرئيس التونسي اليوم من الممكن أن تغير الخريطة الزمنية للانتخابات.

خلافًا لتاريخه قبل الثورة، لعب السبسي دورًا محوريًا في الحفاظ على الديمقراطية التونسية، وسواء أتم ذلك بدافع ذاتي منه أو تحت ضغط الشارع التونسي الثائر، فلا يمكن نكرانه. ما يمكننا قوله فقط إن السبسي لعب على كل أحبال السياسة التونسية منذ تأسست الجمهورية الحرة، وخلال رئاسته استعمل الأدوات القديمة للهروب من الأزمات السياسية والاقتصادية المتفاقمة بإشعال صراعات أيديولوجية لا طائل من ورائها، كتبنيه لمشروع المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة، وحق التونسية المسلمة في الزواج من غير المسلم.

لم تكن هذه القضايا التي أثارها السبسي العام قبل الفائت في أولويات الشعب التونسي، لكن السبسي أراد من خلالها أن يثير انشقاقًا بين الصف المتحد ضده، متمثلًا في رئيس الوزراء العلماني، يوسف الشاهد، وحزب النهضة الإسلامي، وأن يصرف الشعب التونسي بعيدًا عن قضايا الاقتصاد المتردي والسياسة المليئة بالصراعات.

من خلال هكذا تصرفات، كان يعتقد أن الرئيس السبسي سيطرح نفسه ثانيةً في انتخابات 2019، لولا أن وافته المنية، الخميس 25 يوليو/ تموز 2019. ويبقى من بعده المسار الديمقراطي هو المكسب الأهم وربما الأوحد من ثورة الياسمين، إيمانًا بأن الديمقراطية قادرة على تصحيح مسارها، وفرز السياسيين ومحاسبتهم وفق تطلعات أبناء الأمة التونسية.