«بيروت مدينة العالم»: كيف نهضت المدينة النائمة؟
«بيروت مدينة العالم» هي ثلاثية ربيع جابر البديعة التي سجّل فيها فترة محورية في تاريخ بيروت الحديث. فعلى مدى ما يقرب من خمسين عامًا، يحكي المؤلف قصة «عبد الجواد البارودي» وأولاده وأحفاده، ويحكي كيف تحولت بيروت من مدينة صغيرة بسيطة كأنها قرية إلى مدينة كبيرة ثرية وبوابة للشام على البحر.
هروب عبد الجواد البارودي
تبدأ الرواية الطويلة بـ «عبد الجواد البارودي» راكضًا من دمشق، حيث طعن أخاه الوحيد بسكين وهرب، عبد الجواد لم يقصد بيروت وإنما فقط ضل الطريق وكاد يهلك أمام سور المدينة المظلمة، لكن الجنود أنقذوه ليستقر هناك حتى يموت ويترك عائلة كبيرة سكنت حارة مسورة سميت على اسم البارودي مؤسس العائلة.
منذ اللحظة الأولى إذن يضعنا ربيع جابر في هذه الفكرة؛ فكرة الهروب التي صنعت تاريخ عائلة البارودي وتاريخ بيروت كذلك، لن يتوقف الركض والنزوح واللجوء والهرب والضياع طوال الرواية، هروب عبد الجواد عبر قرى ومدن الشام حتى بيروت ثم هروب ابنه «شاهين» عبر الشام حتى الأناضول ثم عودته ثم ضياعه مرة أخرى إلى الأبد ثم هروب «عمر» و«حسين» وأخيرًا «عبد الفتاح»، كل أبناء العائلة الذكور غرقوا في دوامات الهرب والعودة ثم الضياع والموت ولم ينج سوى ابن عبد الجواد الأوسط «عبد الرحيم» وابن عبد الرحيم الأوسط كذلك «عبد الغني» لتستمر العائلة من خلالهما فقط.
بيروت كذلك لم يتوقف الركض إليها طوال الرواية، موجات النزوح التي توالت على المدينة الصغيرة قلبتها رأسًا على عقب وغيرت وجهها وبدّلت ديموغرافيتها، موجات النزوح من الجبل ومن القرى والمدن القريبة إثر أوبئة الكوليرا والطاعون والمذابح الطائفية توالت نزولًا إلى المدينة النائمة عند البحر لتبث فيها حياة وزحامًا وأشغالًا وتجارة وأموالًا وثراءً وتربطها بأوروبا وتغير حياة أهلها وعاداتهم واهتماماتهم.
في الجزء الأول يؤسس عبد الجواد عائلته ثم يموت شاهين في معركة «بحرصاف»، ويختتمه بخروج الجيش المصري من الشام 1840. وفي الجزء الثاني يؤسس «عبد الرحيم عبد الجواد البارودي» عائلته ويتابع التوسع في تجارة أبيه ثم يهرب أخوه عمر إلى «القرم» ويختتمه بموت شاهين للمرة الثانية في معركة القرم 1856!
في الجزء الثالث يعود عمر ويكبر أبناء عبد الرحيم ويضيع ابنه حسين أثناء حرب الستين بين الدروز والنصارى والتي اجتاحت جبل لبنان وأحرقت قراه وهجّرت النصارى إلى بيروت، ثم يعود ويموت بالكوليرا ويضيع عمر كذلك دون أن نعرف مصيره ثم يهرب عبد الفتاح وتبقى الرواية بلا نهاية ونحن لم نبلغ بعد عام 1875.
ماذا عن «طيور الهوليداي إن»؟
طوال الوقت كنت أربط بين ثلاثية ربيع جابر «بيروت مدينة العالم» وبين روايته «طيور الهوليداي إن» رغم أن مائة عام وأكثر تفصل بين تاريخ الأحداث في الروايتين، ورغم أن انقلابًا هائلًا حدث ليس فقط على مستوى المكان ولكن على مستوى الشخصيات وأفكارها وطريقة حياتها إلا أن الربط في ذهني ظل موجودًا.
«بيروت مدينة العالم» تحكي عن نقطة تحول في تاريخ بيروت، لكنها نقطة تحول صاعدة نحو التمدن والرفاهية، نقطة تحول تنمو فيها المدينة وتزدهر وتتفتح ويتآلف سكانها ويتكاثرون ويتجمعون من مختلف البلاد، صحيح أنهم جاءوها هاربين لكنهم أحبوها وعاشوا فيها وقرروا البقاء فيها حتى الموت.
أما «طيور الهوليودي إن» فتحكي عن فترة حرجة في تاريخ بيروت، نقطة تحول هابطة نحو الحرب والكراهية والتشرذم، نقطة تحول تصير فيها المدينة خرابًا ويكره أهلها بعضهم البعض ويهربون منها وليس إليها.
في «بيروت مدينة العالم» نعرف كيف نهضت بيروت وفي «طيور الهوليودي إن» نعرف كيف أوشكت بيروت على الانهيار، وربما ببعض التأمل يمكن أن نرى الخط الدقيق الذي يمتد بين الروايتين ليس فقط لنربط تاريخ بيروت ببعضه البعض، لكن ربما لنفهم كيف أوصلتنا هذه النشأة المعقدة إلى تلك النهاية التي أوشكت عليها المدينة، وكيف أن التاريخ بشكل ما تتكرر أحداثه وإن اختلفت الأماكن والشخصيات والأسباب، أو ربما لنفهم كيف استغل البعض أحداث الماضي لصنع مسمار جحا يدقونه في قلب البلاد كلما أرادوا.
هنا بيروت القديمة
طوال الرواية، يرصد ربيع جابر هذا التغيير الذي يعصف ببيروت وبعائلة البارودي تبعًا لذلك، لكنه أيضًا لا يهمل قصص الذين لم يشغلهم هذا التغيير ولم يندمجوا فيه، أولئك الذين هربوا من بيروت إلى المعارك وعاشوا وماتوا غرباء على الهامش بلا أهل ولا وطن، أولئك الذين لم يشهدوا مدينتهم وهي تنمو وتثرى ويتمدن أهلها وتنهض أسوارها فلا يعرفونها حين يعبرونها ويتوهون إلى الأبد.
في كل قراءة لرواية من روايات ربيع جابر، لابد أن يتكرر اندهاشي من قدرته على جمع الحكايات ورسم التفاصيل. فعلى مدى 1200 صفحة تقريبًا، عشت في بيروت بدروبها الضيقة وبحرها ومرفئها ودكاكينها وجوامعها، 1200 صفحة وأنا أسمع غناء الحمام وعصافير الدوري والسنونوات فوق أشجار التوت والجميز والجوز والسرو والصبير، وأعيش في بيوت بيروت القديمة، وأرى ماذا يأكل أهلها؟ وماذا يشربون؟ وكيف يقضون أوقاتهم؟ وكيف يتابعون أعمالهم؟ وكيف يحتفلون بأعيادهم ومناسباتهم؟ وكيف يحزنون ويخافون؟ وكيف يفتحون بيوتهم للغرباء ويعطفون عليهم ليصبح الغرباء «بيروتيين».
1200 صفحة أراقب بيروت وسورها ينهدم بينما تتضخم وتنمو ويتضاعف سكانها وتصير قبلة لتجارة الشام من البر وأوروبا من الغرب، 1200 صفحة وبلاد الشام كلها ومعها مصر ومعظم البلاد التي تبعت الدولة العثمانية يموج بعضها في بعض وتفور حروبها الداخلية والخارجية وتنتقل انتقالًا عنيفًا من حياتها الساكنة الخاصة الفقيرة إلى حياة صاخبة تصدرها أوروبا كنموذج وحيد للحياة الطيبة وتزينها بالغنى والرفاهية لينخدع الساكنون الفقراء وينجرفوا مع التيار.
وبعد،
فإن ثمة أمنيةً وسؤالاً يبقيان بعد هذه الملحمة..
أما الأمنية فهي أن نرى رواية تحكي عن نفس هذه اللحظة المحورية في تاريخ مصر الحديث منذ تسلمها محمد علي وحتى أوائل القرن العشرين. وأما السؤال فهو: متى سندرك عمق غربتنا وبؤس حياتنا المستوردة ونوقف هذا التيار الجارف لنفكر ولو قليلًا فيما كان وما يكون وما سيكون إذا لم نفعل ما يجب أن يكون؟