سأقولها دون خوف، سأصوت بلا يهمني المستقبل، تهمني الحياة، سأصوت بلا سنصوت جميعًا بلا شيلي… السعادة قادمة… شيلي… السعادة قادمة

على خلفية النغمات الراقصة، وقف مجموعة من الشباب يرقصون ويشربون البيبسي، وهم يغنون تلك الكلمات في أحد إعلانات الحملة الدعائية للتصويت بـ «لا» على تجديد فترة رئاسة «أجوستو بينوشيه» بدولة «شيلي»، والتي استمرت 15 عامًا بعد الانقلاب العسكري الذي قام به عام 1973 والذي أطاح بحكومة «الوحدة الشعبية» المنتخبة.

قام بينوشيه عام 1988 بالدعوة إلى استفتاء خاص بتجديد فترة حكمه لفترة جديدة سوف تستمر 8 سنوات، وكان التصويت ينحصر ما بين التصويت بنعم أو لا، بعدما واجه العديد من الضغوطات الدولية لإجراء ذلك الاستفتاء. كما أجبر على أن يعطي المعارضة 15 دقيقة يوميًا وفقًا للدستور؛ حيث تعطي الحملتين الحق في 15 دقيقة يوميًا على التلفزيون الوطني من أجل عرض حملاتهم، إلا أنه قرر أن يكون وقت إذاعة الحملتين في ساعات الليل المتأخرة، من أجل أن يضمن عدم متابعة أحد لتلك الحملات وبذلك لا يصل صوت المعارضة للشعب.

تشكلت حملة لا بشيلي من 17 حزبًا معارضًا أغلبهم محسوب على تيار اليسار إلا إنهم لم يفهموا ماذا يريد الشعب.

تكونت الحملات وبدأوا في العمل، تشكلت حملة «لا» من 17 حزبًا معارضًا أغلبهم محسوبون على تيار اليسار، إلا أن أحد أعضاء الحملة من الشباب رفض واختلف مع توجهات وخطط الأحزاب؛ حيث رغبتهم في توجيه الخطاب الحقوقي من حيث القمع والتسلط؛ مما اعتبره الشاب مختلفًا عما يريده الشعب، فقرر أن يطرح بديلًا جديدًا للحملة ومختلفًا عما اعتاد عليه المواطنون من السياسيين لمدة 15 عامًا من تهميش رغباتهم الحقيقية.

قرر الشاب أن يكون البديل أكثر بهجة وتشوقًا للمستقبل، بعيدًا عن الأيديولوجية الاشتراكية التي استخدمها بينوشيه كفزاعة يرهب بها الشعب. وقرر الاعتماد على نمط الإعلانات التجارية المبهجة؛ ليدعو فيها الشعب للتصويت بـ«لا» من أجل تحسين الأوضاع والتركيز على المستقبل. فكان النجاح حليفه؛ حيث نجحت حملته في إسقاط نظام «بينوشيه» بعد 15 عامًا من الديكتاتورية والقمع.

لم تكن تلك هي المرة الأولى التي ينجح فيها البديل بإقناع الجماهير بضرورة الخلاص من الاستبداد، إلا أننا لم نشاهد نماذج مماثلة داخل الدول العربية، حتى أتت لبنان بما هو ليس متوقعًا في انتخابات البلديات. واستطاعت البدائل -المتجاوزة للطائفية- أن تنجح في التغلب على ما هو معتاد بلبنان.


الوضع السياسي المأزوم بلبنان

http://gty.im/484975782

عامان من عدم وجود رئيس بلبنان بسبب عدم توافق الطوائف والأحزاب اللبنانية على مرشح وحضور نواب تلك الطوائف والأحزاب لجلسات المجلس التشريعي لعدم إكمال نصاب انتخاب الرئيس، ونواب لم يتغيروا بسبب غياب الانتخابات البرلمانية وتمديد المجلس لنفسه دورتين متتاليتين، والعديد من الموجات الاحتجاجية التي تجتاح شوارع لبنان وبيروت بسبب توقف عجلة التشريع وركود مياه السياسة اللبنانية، بالإضافة إلى تدني نسب المشاركة في الانتخابات البلدية والتي وصلت أدناها عام 2010 بنسبة مشاركة 18%، فمنذ عام 1998 يحسم تيار المستقبل الانتخابات المحلية ببيروت لصالحه.

كما أن نسبة الخدمات ببيروت في حالة تردٍّ ملحوظ، ما بين أزمة النفايات التي حدثت في الصيف الماضي والتي أدت لاحتجاج آلاف الشباب ببيروت بمظاهرات طلعت ريحتكم والتي كانت أول المبادرات التي يتحرك فيها الشباب بعيدين عن راية أي من التيارين الرئيسين بلبنان (8 آذار و 14 آذار)، إلى جانب قلة المساحات الخضراء بالمدينة وارتفاع أسعار العقارات بها، إلى جانب الملل من سيطرة الطائفية والحزبية على الساحة السياسية وعدم تغير رموز وكوادر تلك الطوائف والأحزاب، بالإضافة إلى عدم تقديمهم أي جديد في برامجهم الانتخابية.


انتخابات بلدية بلون جديد

8 مايو/أيار 2016 كانت الجولة الأولى من انتخابات البلديات في لبنان بدأت بـ «بيروت»، وطوال 18 عامًا لم يكن هناك مرشح منافس لمرشحي «تيار المستقبل»؛ مما جعله يحسم النتائج لصالحه طوال تلك الفترة دون الاهتمام بتقديم سياسات جديدة أو الاهتمام بنسب مشاركة الناخبين والتي وصلت لأدناها عام 2010.

حصدت قائمة بيروت مدينتي على 32 ألف صوت من إجمالي 92 ألف صوت، وكان الفارق بينها وبين قامة البيارتية 7 آلاف صوت فقط.

إلا أنه وفي الانتخابات البلدية الأخيرة كان هناك منافس حقيقي لـ«قائمة البيارتية» والتي تحظى بدعم 14 حزبًا وحركة سياسية على رأسهم تيار المستقبل، فظهرت حركة «بيروت مدينتي» لترسم أملًا جديدًا متخطيًا للطائفية بالمجتمع اللبناني. وضمت القائمة 24 مرشحًا لم تألف وجوههم بعد في المجال السياسي ببيروت، على الرغم من كونهم شخصيات عامة.

حصدت قائمة بيروت مدينتي 32 ألف صوت من إجمالي 92 ألف صوت، وكان الفارق بينها وبين قامة البيارتية 7 آلاف صوت فقط أي ما يقرب من 40% من إجمالي أصوات الناخبين؛ مما يعني أن قائمة البيارتية قد خسرت ما يقرب من 20 ألف صوت من داعميها حيث أنها في عام 2010 قد حصلت على 62 ألف صوت، بينما اكتفت عام 2016 بـ 43 ألف صوت فقط.

ويمكن حساب ذلك التراجع وفقًا لسببين: إما أن بعض مصوتي البيارتية صوتوا لبيروت مدينتي أو لم يذهبوا للتوصيت وذهبت مجموعة جديدة لم تعتد التصويت لبيروت مدينتي، وفي الحالتين فالنتيجة واحدة وإن قطاعًا كبيرًا من المصوتين للبيارتية لم يعودوا يثقوا بقدرتها على التغير. وعلى الرغم من أن بيروت مدينتي لم تستطع أن تحسم الأمر لصالحها، إلا أن نسب التصويت تلك وتراجع الداعمين للبيارتية يعد انتصارًا حقيقيًا لبيروت مدينتي، حيث حركت الحياة السياسية الراكدة بلبنان، حيث أن تواجد قائمة بيروت مدينتي قد دفع الأحزاب السياسية إلى أن يتحالفوا معًا ويقدموا برنامجًا انتخابيًا لأول مرة.


«بيروت مدينتي» تهزم الطائفية

الملل الذي أصاب الساحة السياسية اللبنانية من الطائفية والشعارات الحزبية، الملل الذي أصاب تلك الساحة عقب تكرار فشل السياسيين الطائفين في انتخاب رئيس للبلاد وحل مشكلات البلديات؛ الملل من الوجوه المتكررة والوعود الكاذبة، كل ذلك دفع 24 مرشحًا من الشباب لتشكيل قائمة بيروت مدينتي والتفكير في تقديم بديل سياسي، قادر على التنافس دون طائفية أو قبلية أو حزبية.

إمكانية إيجاد بدائل جديدة وسط مجتمع تعيش نخبه على الطائفية، ويقوم على الصلات العائلية مثل بيروت. تبدو محاولة شبه مستحيلة إلا أن كل ذلك الملل السابق دفع هؤلاء الشباب إلي التفكير في كيفية إيجاد ذلك البديل. فخرج الشاب أحمد قعبور ليعلن عبر صفحات التواصل الاجتماعي عن تشكيل القائمة، وخوض الانتخابات البلدية بتقديم تجربة ديمقراطية جديدة تشرك المواطنين في اتخاذ قراراتهم.

طرحت بيروت مدينتي بديلًا قويًا في الساحة اللبنانية، اعتمدت فيه بالأساس على أشخاص لم يسأمهم المجتمع اللبناني من السياسيين. فأغلبهم يخوض العمل الانتخابي لأول مرة، ومن بينهم المخرجة الشابة نادين لبكي المعروفة بمواقفها وأفلامها المعادية للطائفية. وعبرت نادين عن ترشحها بالرغبة في الوصول للمواطن العادي، وأن وقت التغيير قد حان بعيدًا عن القيادة السياسية التقليدية التي لم تتعامل مع المواطنين العاديين وهمومهم.

ومن أجل أن تترجم القائمة شعارها «من الناس للناس» فقد عملت على تمثيل جميع فئات المجتمع في القائمة، حيث تم تقسيم المرشحين مناصفة بين الرجال والنساء من أجل التركيز على قضايا المرأة، إلى جانب وجود ممثلين عن ذوي الإعاقة والطبقات الأقل حظًا. واعتمدت القائمة على وجود مرشحين متخصصين في القضايا الشائكة بلبنان؛ خاصة البيئة. بالإضافة إلى ناشطة في مجال التراث من أجل المحافظة على تراث المدينة وإعمارها، وخبراء اقتصاديين وأطباء ومهندسين، كما تطوع مع الحملة أكثر من ألف مواطن للمساعدة بنشر برنامج القائمة والاستماع لمشاكل وآمال المواطنين.


اليوم خسارة وغدًا مكسب

من أجل أن تترجم القائمة شعارها من الناس للناس فقد عملت على تمثيل جميع فئات المجتمع في القائمة.

المميز في تجربة بيروت مدينتي أنها لم تكن تجربة وليدة اللحظة، حيث اهتمت بالتركيز على ما يحتاجة المواطنون معتمدين على رصيد من الاحتجاجات التي عصفت ببيروت منذ الصيف الماضي، كما أنها لم تحتكر وضع البرنامج الانتخابي بل أهتمت بدمج وإشراك المواطنين في عملية وضعه، لتكون خير ممثل عن احتياجات المجتمع الحقة. اعتمدت بيروت مدينتي على ما يريد المواطن أن يسمعه ويراه معبرًا لتكون معبرًا عنه، بعيدًا عن الخطب والبرامج السياسية التي يحتكرها السياسيون لمصلحتهم.

وعلى الرغم من فوز «البيارتية» برئاسة بلدية بيروت، إلا أن «بيروت مدينتي» استطاعت أن تفرض نفسها على الساحة السياسية.

بالإضافة إلى قدرة القائمة على الخروج بتلك المكاسب بعيدًا عن الطائفية بمختلف أشكالها، في انتصار واضح لرغبة المجتمع على رغبة السياسيين التقليديين بلبنان، والسبب في وضعها المأزوم. وعلى الرغم من فوز «البيارتية» برئاسة بلدية بيروت، إلا أن «بيروت مدينتي» استطاعت أن تفرض نفسها على الساحة السياسية، كما أحرجت السياسيين التقلديين وأعلنوا عن البدأ في البحث عن طرق جديدة للتغيير. فإن خسرت اليوم ربما تكسب غدًا بعدما أظهرت قوة حقيقية قادرة على المنافسة.

فالقدرة على التغيير أمر تابع لابتكار الحلول الجديدة القادرة على إحراج الأنظمة القمعية لإظهار فشلها، حيث حياكة سياسات بديلة تهتم بالمواطن ومشاكل المجتمع التي يغفلها السياسيون التقليديون. صناعة البدائل وطرح أشكال مختلفة عن التقليدية ليست بالأمر الصعب، إلا أن تسويق تلك الأفكار بمجتمعاتنا العربية والقدرة على مخاطبة الجماهير هو ما يفتقر إليه الشباب الطامع في التغيير.