بيروت 1982: حين استجدى «الإسرائيليون» الانسحاب
عبر شوارع بيروت، وأزقتها، التي أصبحت مرتعًا لرائحتيْ الدم والبارود، دوّت تلك الجملة عبر مكبّرات الصوت التي اعتلتْ السيارات العسكرية الإسرائيلية، والتي كانت تدور دوراتٍ محمومة، كالذي يُغشى عليه من الموت، في دهاليز العاصمة المقاوِمَة.
كانت بيروت قد شهدت الصيف الأكثر سخونة في تاريخها بأكمله، إذ استُهِلَّ أوائل يونيو/ بالاجتياح الإسرائيلي الضخم للبنان وصولًا إلى بيروت، والتي حوصِرَت الأحياء الغربية والجنوبية منها – معاقل المقاومة الفلسطينية وحلفائها اللبنانيين – لأكثر من شهريْن، ووقعت ضحية قصف إسرائيلي جوي ومدفعي لم تتعرض لمثله عاصمة عربية.
انسحب الإسرائيليون من بيروت أواخر سبتمبر/ أيلول أوائل أكتوبر/ تشرين الأول عام 1982م، يجرون أذيال الخيبة العسكرية، بعدما علوْا أولَ ذلك الصيف علوًّا كبيرًا، وأوشكوا على احتلال عاصمةٍ عربية جديدة بعد القدس الشريف، وذاقوا بشكلٍ مكثَّف مرارة حروب العصابات، وعمليات المقاومة، والتي كانت أنكى عليهم من حروب الجيوش النظامية العربية التي خبِروها، وأجادوا الانتصار عليها غيرَ مرة.
الحرب الأهلية الإقليمية الدولية
تعود جذور الحرب الأهلية اللبنانية إلى لحظة نشوء كيان لبنان بعد التحرر من الاستعمار الفرنسي في الأربعينيات، فهذا الكيان الصغير ذي الـ 10 آلاف كم مربع، كان يموج بعشرات الطوائف والمذاهب الدينية والسياسية، والتي تتصارع على مقدرات البلد السياسية والعسكرية والاقتصادية، وبدا أن التقاسم الطائفي للسلطة.
مع الفورة الناصرية والاشتراكية في الخمسينات والستينات، واندلاع الثورة الفلسطينية، ثم نفي أغلب قواتها إلى لبنان بعد هزيمة سبتمبر/أيلول الأسود في الأردن عام 1970م، تمايزَ معسكران في لبنان: الأول يضم بالأساس المسيحيين الموارنة، الذين يمثلون أكثرية الشعب اللبناني، ويتركز معهم غالبية مفاصل السلطة والثروة في لبنان، ويعارضون الوجود الفلسطيني المسلح – والمسلم في معظمه – فيرونه مخلَّا بالتوازنات الطائفية اللبنانية.
أما المعسكر الثاني، فيضم خليطًا ثوريًا واسعًا من الاشتراكيين والشيوعيين والقوميين والناصريين والإسلاميين، من طوائف عديدة شيعةً وسنة ودروزًا ومسيحيين، ويناصرون المقاومة الفلسطينية المسلحة المنطلقة من لبنان.
عام 1974/1975م، تفاقمت الاحتكاكات بين الطرفين، وعجزت الدولة الضعيفة المقسَّمة عن الاحتواء، وجاءت حادثة عين الرمانة في أبريل/ نيسان 1975م، والتي قتل فيها أكثر من 20 مدنيًا فلسطينيًا على يد مسلحين مسيحيين، لتكون شرارة اندلاع الحرب الأهلية الكبرى، والتي كان أول نتائجها انقسام العاصمة اللبنانية بيروت إلى شرقية مسيحية، وغربية لخصوم المسيحيين.
في السنوات السبع التالية، تسعَّرت الحرب، وتحوَّلت إلى حربٍ إقليمية مباشرة وغير مباشرة، خاصة بعد التدخل السوري منتصف 1976م ضد المعسكر الفلسطيني – الثوري، بضوءٍ أخضر أمريكي-إسرائيلي، بعد أن أوشكَ على الانتصار، ثم تدهور العلاقات بين السوريين والمسيحيين، لعلاقات الأخيرين الوثيقة مع إسرائيل، خاصة بعد اتفافية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1978م، والتي منحت الأخيرة مساحةً أكبر للتركيز على ساحات صراعاتها الأخرى، وعلى رأسها لبنان.
تطورت الأمور إلى حرب واسعة سورية – مسيحية عام 1980-1981م، عرفت بحرب زحلة، تدخلت فيها الطائرات الإسرائيلية بشكل مباشر لدعم المسيحيين، وأسقطت مروحياتٍ سورية. أدخلت سوريا المزيد من قواتها إلى لبنان، خاصة الدفاع الجوي، وبدا المشهد ملتهبًا في لبنان، لا سيَّما مع استمرار عمليات المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل انطلاقًا من جنوب لبنان، وبدا أن رائحة حربٍ كبرى في المنطقة تزكم أنوف القاصين والدانين.
1982: اجتياح شارون الكاسح
المغامر الصهيوني الأبرز، أرئيل شارون، بطل موقعة الثغرة التي حفظت ماء وجه إسرائيل في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973م، ووزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، يقرر حسم ملف المقاومة الفلسطينية المتمركزة في لبنان، في واحد من أكثر فصول الصيف التهابًا في تاريخ المنطقة الحديث، وإعادة هندسة السياسة اللبنانية بما يتلاءم مع مصالح إسرائيل، ويمهد الطريق لكامب ديفيد ثانية في المنطقة، بقوة السلاح.
لاجتياح لبنان الذي تبلغ مساحته الكلية 10 آلاف كم مربع، أعدَّ شارون قوةً تفوق ما حاربت به إسرائيل مصر وسوريا معًا قبل 9 سنوات، تتكون من مائة ألف مقاتل، وأكثر من 1200 دبابة، وآلاف المدرعات، ومدافع الهاويتزر الثقيلة المتحركة. صُدمت الأطراف اللبنانية والفلسطينية كافة من حجم الاجتياح، بعد أن راهن أكثرهم على أنه سيكون اجتياحًا محدودًا، لإقامة منطقة عازلة بعمق 40 كم فحسب.
بدأت العملية 4 يونيو/حزيران 1982م، بقصفٍ جوي عنيف على لبنان، ليبدأ الاجتياح البري الشامل يوم 6 يونيو/حزيران. ما لبثت القوات الفلسطينية، واللبنانية الحليفة لها، أن أخذت في التقهقر شمالًا أمام السيل الإسرائيلي الجارف. يوم 9 يونيو/حزيران، أخرج الإسرائيليون الجيشَ السوري في لبنان، من المعركة عمليًا، ووضعوا قواته البرية في مأزقٍ صعب تضطر فيه للقتال دون غطاء، عندما شنُّوا عملية جوية فعَّالة تمكنوا خلالَها من سحق الدفاع الجوي السوري في سهل البقاع اللبناني، حيث دمروا 29 بطارية صواريخ سام المضادة للطائرات، من أصل 30. وعندما تدخَّل الطيران السوري للدفاع عن مواقع الدفاع الجوي، دارت واحدة من أكبر المعارك الجوية في القرن العشرين، والتي انتهت بانتصار ساحق للإسرائيليين الذين لم يخسروا سوى طائرتيْن، بينما خسرت سوريا 70-80 طائرة حربية.
طالوت وجالوت .. المقاومة الفلسطينية تحاول عرقلة المارد
هكذا كانت الكلمات الأخيرة لآخر مقاتل فلسطيني في قلعة شقيف الحصينة جنوبي لبنان، قبل أن يرد عليه قائد القوات الفلسطينية أبو عمار ياسر عرفات:
لم تسقط قلعة شقيف إلا وقد تخضّبت صخورها القاسية بدماء أكثر من 120 شهيدًا فلسطينيًا، دافعوا حثيثًا عن هذا الموقع الشاهق الحصين الذي طالما أمطرت مدفعيتهم، وبطاريات صواريخهم مستوطنات شمال إسرائيل، انطلاقًا منه. زار رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيجين القلعة بعد استيلاء جنوده عليها بصعوبة بالغة، مزهوًّا بانتصارٍ رمزيٍ وواقعي كبير.
عندما اندفعت القوات الإسرائيلية شمالًا نحو بيروت، كان في انتظارها الكمائن الفلسطينية في كافة المُقتَربات إلى بيروت الغربية. في الدامور، كادت فرقة مدرعة إسرائيلية أن تولي الأدبار، بعد أن دمر الفدائيون الكامنون بين أشجار الكروم بصواريخهم بضع دبابات، قبل أن تهاجم القوات الإسرائيلية المنطقة من 3 جهات، مستعينةً بالمظليين الإسرائيليين، وقواتٍ أنزِلَت بحرًا، لتستولي على الدامور بعد خسائر فادحة.
في منطقة خلدة، جنوبي بيروت، دارت معارك شرسة دامت لأسابيع، بين القوات الإسرائيلية، والمقاومين الفلسطينيين المتحصنين هناك تساندهم بعض القوى الوطنية اللبنانية، وبعض القوات السورية.
بيروت: قصفٌ من الجحيم
بمجرد وصول القوات الإسرائيلية إلى محيط العاصمة اللبنانية المقسّمة، وإحكامها الحصار على الشطر الغربي من بيروت، الذي كان يتحصن به آلاف المقاتلين الفلسطينيين، وحلفائهم من القوى الوطنية اللبنانية، ومئات الجنود السوريين، انفتحت أبواب الأرض والسماء بالموت المنهمر. صبّ شارون على بيروت آلاف الأطنان من صواريخ الطائرات، ومدافع السفن الحربية، ومدافع الهاوتزر الأمريكية المحمولة على الجنازير، من عيار 150 ملم، في تطبيق مبكر لأسلوب الصدمة والرعب الأمريكي الشهير. سقط في يوم 9 يونيو/ حزيران فقط، ألف شهيدٍ لبناني، جلُّهُم من المدنيين.
استوعبت المقاومة الفلسطينية واللبنانية الصدمات الأولى، وبدأت في عمليات استنزاف مستمرة للقوات الإسرائيلية التي تحاول عبثًا التوغل في أعماق بيروت الغربية. من أبرز معارك المقاومة آنذاك، معركة يوم 4 أغسطس/ آب، والتي عرفت بمعركة المتحف.
على مدار يوم كامل، ورغم التمهيد الجوي والمدفعي الشرس، فشل الإسرائيليون في اقتحام بيروت من ذلك المحور، ودُمّرَت لهم 4 دبابات على الأقل، وعجزوا عن إخلاء بعض جرحاهم، وأشلاء قتلاهم لعدة أيام. في اليوم التالي، انتقم الإسرائيليون كعادتهم من أجساد وبيوت مدنيي بيروت الغربية، ونفذوا واحدة من أعنف جولات القصف في الحرب، حتى أن بعض المعاصرين للأحداث ذكر أن إسرائيل ألقت أكثر من 70 ألف قذيفة على بيروت ذلك اليوم.
في قلب معمعة قصف بيروت التي لا تنقطع، يعلن الجيش الإسرائيلي أن خسائره خلال شهرين من الاجتياح قد بلغت أكثر من 200 قتيل، و1600 جريح، لكن كانت حصيلة الخسائر في الجهة المقابلة، مدنيين وعسكريين أكثر هولًا، إذ قُدِّرت آنذاك بحوالي 30 ألفًا بين قتيل وجريح، من الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين كما يذكر وثائقي الميادين عن اجتياح لبنان، والموضوع أعلى تلك الفقرة.
تحت وطأة القصف العنيف، على مدار 3 أشهر، والذي أحال أجزاءً عديدة من بيروت الغربية إلى أنقاضٍ وأشلاء، وتخلله تكرار قطع الإسرائيليين للمياه، وكافة سبل الحياة عن مئات الآلاف من المُحاصَرين بالمدينة، وأمام الضغوط السياسية الهائلة محليًا وعربيًا ودوليًا، اضطر الفلسطينيون ببيروت بزعامة ياسر عرفات، أن يوافقوا من حيث المبدأ على الرحيل إلى خارج لبنان.
جاء ذلك القرار الصعب بعد مفاوضاتٍ ماراثونية، خاضها المبعوث الأمريكي فيليب حبيب، والذي بدا كأنَّه يمسك خيوط اللعبة بيديْه. كلما لان الفلسطينيون أثناء المفاوضات، كان يضغط على الميليشيات المسيحية في بيروت الشرقية لتُدخِلَ بعض المساعدات الدوائية والغذائية إلى الغربية، أما إذا تصلَّب عرفات وغيره من القيادات الفلسطينية، يكون الرد بتكثيف للقصف الإسرائيلي الوحشي.
في أتون المحرقة، أراد الإسرائيليون إلزام الفلسطينيين بالخروج من بيروت بالاستسلام الكامل دون قيدٍ ولا شرط، عُزَّلًا يرفعون الرايات البيض، فرفض الفلسطينيون وحلفاؤهم في الحركة الوطنية اللبنانية هذا بشكلٍ قاطع، وواصلوا عمليات الصد والمقاومة، وتكبيد الإسرائيليين الخسائر بشكلٍ يومي، لإجبارهم على الموافقة على خروجٍ مشرفٍ للفلسطينيين من بيروت، وقد كان.
يوم 30 أغسطس/آب 1982م، وفي مشهدٍ مهيب، التحمت فيه العزة بالألم بالدموع، يخرج الشطر الأخير من مقاتلي المقاومة الفلسطينية من بيروت – وفي مقدمتهم قائدهم ياسر عرفات – إلى منافيهم العربية في تونس وسواها، وقد ارتدى كلُّ منهم بزّته العسكرية، وحمل سلاحه الذي طالما حارب به إسرائيل والميليشيات المسيحية اليمينية الطائفية المتحالفة مع العدو. اصطفَّ الآلاف من أهالي بيروت الغربية المنهكين، ومعهم المئات من قيادات ومقاتلي الحركة الوطنية اللبنانية، يودعون بالدموع، وبضرب الرصاص في الهواء، العربات التي تحمل المقاتلين الفلسطينيين، الذين طالما اختلطت دماؤهم بدمائهم على ثرى لبنان، في كافة مراحل الحرب الأهلية ثم الاجتياح الإسرائيلي.
اغتيالٌ فمجزرةٌ واحتلال
شهد يوم 23 أغسطس/آب 1982، الذي كان تاريخ خروج أول فوج من الفلسطينيين من بيروت، جلسة استثنائية للبرلمان اللبناني، تحت حراسة إسرائيلية مشددة، لانتخاب بشير الجمَيّل، زعيم القوات اللبنانية – أقوى الميليشيات المسيحية اللبنانية – وحليف إسرائيل، رئيسًا للبنان. أحضر بعض النواب بالإكراه لإتمام النصاب، وانتخب بشير بأغلبية الحضور، وسط مقاطعة معظم نواب الحركة الوطنية.
ظن الإسرائيليون وحلفاؤهم أن حرب لبنان قد انتهت بنصرٍ مظفّر، وبدت اتفاقية سلام لبنانية – إسرائيلية تلوح في الأفق.
لم تمر 3 أسابيع، حتى نسفت 50 كجم من المتفجرات كل تلك الآمال، وغيرت تاريخ لبنان والشرق الأوسط لعقود. تحوّل جسد بشير والعشرات من أنصاره، داخل مقر حزب الكتائب المسيحي، إلى أشلاء، عندما فجّره حبيب الشرتوني، الناشط في الحزب القومي السوري، والذي كان يقطن مباشرة فوق مقر الكتائب.
اقرأ أيضًا: بشير الجميل و50 كجم TNT غيَّرَت الشرق الأوسط
كان الأمريكيون – رعاة المفاوضات أثناء الاجتياح – قد تعهدوا للمقاتلين الفلسطينيين قبل ترحيلهم، أنهم سيضمنون أمن المخيمات الفلسطينية، لكن أظهرت الأيام التالية أن تلك الوعود كانت صرحًا من خيالٍ، جرفته حمامات الدم الفلسطيني الذي أهرقته الميليشيات المسيحية المتطرفة في مخيميْ صبرا وشاتيلا، بحماية إسرائيلية، في الأيام التالية انتقامًا من الفلسطينيين الذين اتهموهم باغتيال بشير.
في تلك الأثناء، واستغلالاً للصدمة التي أحدثتْها المجزرة، كسرت إسرائيل ما بقي من خطوط حمراء، وقررت تعويض ما مثَّلَهُ لها تغييب بشير الجميل عن المشهد من خسارة إسراتيجية فادحة، وأصدرت لقواتها الأوامر باقتحام بيروت الغربية واحتلالها، بعد أن خلتْ العاصمةُ المقاومة من القوات الفلسطينية، التي كانت العمود الفقري لدفاعها.
ظنَّ الإسرائيليون إذن أن المهمة لن تكون بهذه الصعوبة، وما حسبوا أنها ستكون الفصلَ الأول من سلسلة فصول هي الأقسى في تاريخ الكيان، سيقاسيها على أرض لبنان، لا بيروت فحسب.
إلى السلاح!
بمجرد ظهور الدبابات الإسرائيلية داخل شوارع بيروت منطلقةً من محاور عدَّة، تداعت كافة أحزاب القوى الوطنية الثورية اللبنانية الباقية في بيروت للمقاومة، وأصدر الحزب الشيوعي اللبناني بيانًا عنوانه من كلمتين: إلى السلاح! يعلن فيه قيام جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول) ضد الغزو الإسرائيلي، والتي لم تستثْنِ تقريبًا أيَّ فريقٍ لبنانيٍ ثوري. وللمفارقة، كان من أبرز قادة تلك المقاومة ضد إسرائيل، إلياس عطا الله، والذي كان مسيحيًا مارونيا.
في الصباح الغائم الأول للإسرائيليين داخل بيروت الغربية، اعترفوا بمقتل جنديين وإصابة 42، كان البداية في محور المتحف مع تدمير أول دبابة إسرائيلية، لم ينجُ من طاقمها أحد، دبابة ميركافا أخرى يطيح بها انفجار هائل، يتركها مقلوبة رأسًا على عقب في أحد أنفاق بيروت. وتتابعت عمليات المقاومة في شوارع بيروت وأزقّتها، ليخسر الإسرائيليون 9 دبابات في اليوم الأول للاجتياح فقط، ولم تهدأ الاشتباكات والعمليات طوال الليل.
اشتهر حينئذٍ ما عُرف بعملية مقهى ويمبي، وكانت من أهم عمليات المقاومة الرمزية ضد الإسرائيليين. جلس ضابطان إسرائيليان بمنتهى الصلف، ويدفعون الحساب بالشيكل، فما لبث المقاوم خالد علوان أن دفع لهما الباقي بالرصاص. تكرّرت عمليات شبيهة بأسماء الشوارع والبنايات والصيدليات .. إلخ، وكانت كل تلك العمليات تُنسَب لـ (جمول) حتى التي كانت تقوم بها خلايا مقاومة محلية مستقلة، لأنها أصبحت رمزًا ضد العدوان.
في رسالة سياسية وحربية ونفسية خاصةٍ، من كورنيش المزرعة ببيروت، نُسفت دبابة إسرائيلية تمركزت بعنجهية أمام مقر منظمة التحرير الفلسطينية المهجور. ودعمًا لبيروت كذلك، بدأت عمليات المقاومة تتصاعد في الجنوب، حتى في مدينة صيدا والتي كان يتمركز بها قوات إسرائيلية كثيفة، واستمرت في الأيام التالية حرب شوارع استنزافية قاسية، وبدا كأن بيروت الغربية أصبحت حقل ألغام مفتوح للغزاة.
كان من أخطر الظواهر الملفتة آنذاك، بداية ظهور المسلحين الإسلاميين في الضاحية الجنوبية لبيروت، والمدعومين من إيران وسوريا، في تطور تكتيكي وإستراتيجي لم يكن في حسبان معظم المراقبين آنذاك. سيكون هؤلاء هم النواة الأولى للفصيل المقاوم الأكثر شهرة، وإثارة للجدل أيضًا، في لبنان، وفي تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي، وصاحب الباع الأطول بين فصائل المقاومة في تكبيد الإسرائيليين بالخسائر .. حزب الله.
انسحب الإسرائيليون من بيروت يلعقون مرارة الهزيمة، خصوصًا بعد أن أصبحت مجزرة صبرا وشاتيلا حديث العالم، وأضافت عليهم ضغطًا سياسيًا وإعلاميًا هائلًا إلى الضغط العسكري، لكنهم حاولوا الالتفاف، وعقاب بيروت ولبنان، فلم ينسحبوا إلا وقد انتشر في مواقعهم القوات الدولية متعددة الجنسيات، وكذلك الجيش اللبناني مضطرب الولاء، والذي بدأ يحاول قمع العاصمة المنتصرة الحزينة على مدار الشهور التالية، ومصادرة أسلحة المقاومين، فتراكم الاحتقان، وانفجرت بيروت لاحقًا .. لكن لهذا قصة أخرى.