«في جوف النكتة»: حول سيكولوجية الضحك
في عام 1665 أغلقت المدارس أبوابها في وجه وباء الطاعون، ونتاجاً لذلك، اتجه إسحاق نيوتن إلى التعلّم الذاتي، فاخترع التفاضل والتكامل.
لوهلة قد تظن أنّ هذا أغرب إغلاق شهدته المدارس، قبل أن يجيء عام 1962 حين أُغلقت عدة مدارس بسبب وباء الضحك.
بدأ الأمر في مدرسة بقرية «كاشاشا» في غرب تنزانيا، في أحد أيام يناير/كانون الثاني من عام 1962، حينما كانت ثلاث طالبات يتمشّين وسط الفسحة ويضحكن بصوت عالٍ، ولم يتوقفن عن فعلهن رغم توبيخ الهيئة التدريسية لهن، أو لنَقل إنهن لم يستطعن التوقف.
انتقلت تلك العدوى لبقية البنات، وما هي إلا سويعاتٍ حتى أصابت ما يربو على 60% من الطالبات لمدة ساعاتٍ متواصلة، للحد الذي اضطر المدرسة أن تغلق أبوابها أمام الدراسة لمدة أسبوعين.
بحلول مارس/آذار من نفس العام، عانى مئات من سكان إحدى القرى المجاورة لقرية «كاشاشا» نوبات من الضحك الخارج عن السيطرة. اتهم خلالها البعض مدرسة «كاشاشا» بأنها سبب هذا الضحك، وتقدّموا بالدعاوى القانونية ضدها لسماحها بانتشار هذه العدوى خارج أسوارها.
مرّت الشهور واستكمل فيروس الضحك طريقه مُصيباً الآلاف ومُسفراً عن إغلاق 14 مدرسة أخرى. انتشر وباء الضحك وقتها دون أن يُعرَف له أسباب وتراجع بالشكل ذاته خلال ستة أشهر.
لماذا نضحك حين يكون الموضوع طريفاً؟ ولماذا لا يكون البديل أن نحكّ آذاننا مثلاً؟ أو نُغيّر من نمط وجوهنا؟ لماذا الضحك تعييناً حينما يتعلق الأمر بالطرافة؟ ما الطرافة أصلاً؟ لماذا يُوصف شيء ما على أنّه طريف بينما الآخر ليس كذلك؟ لماذا تفقد النكتة تأثيرها حين نشرحها؟ وماذا تخدم تلك الوظيفة الغريبة التي توارثناها عن أجدادنا الأوائل؟
لست وحدك منْ فكّر في هذا. إن علماء وباحثين كرّسوا حياتهم من أجل وضع نظريات تُفسّر هذه الآلية، تُفسّر كيف نضحك.
عن فينومينولوجيا الضحك
إن الفكاهة من الظواهر التي يمكن دراسة المشاعر المُفضية إليها، أو المصاحبة لها، ودراسة أسبابها وتأثيرها، دون الوقوف على تعريفٍ واضحٍ لها.
إن الوقوف على تعريف للفكاهة أشبه بمحاولة معرفة كيف بدأ الكون، أو فهم ماهية الحب. فهي كالهواء يمكنك فهم ظواهره دون الإمساك به، وأمّا الشخص الذي ندعوه طريفاً أو خفيف الظل فلا يكون ذلك دلالة على شيء بعينه، الشخص الذي يضحك بسهولة أو يضحك كثيراً ليس بالضرورة أن يكون خفيف الظل، والشخص الذي يكون فطناً في موقف ما فيوظّفه ليلقي عنه النكات قد يسقط في موقف آخر فاقداً حسّ فكاهته.
ولحس الفكاهة معنى فضفاض يعتمد على طبيعة الموقف والبيئة وشخصية الأفراد، وربما في محاولة فهم معناها فقدٌ لهويتها، فالفكاهة هو ما يُستدرك على أنّه فكاهة على الفور، وما إن تكن بحاجة إلى شرح فإنها ستنحدر عن هذا الوصف بلا شك. ولكن على الأقل يمكن تحليل نظرياتها.
1. البقاء للأصلح
لسنا قادرين حتى الآن على تفسير ظاهرة الضحك، لكن يُوجّه العلماء كبير ظنهم نحو التطور، وحتى الأدوار التي يلعبها التطور لا تزال محض ترجيح.
في المقدمة تأتي ظاهرة «الانتقاء الجنسي». الذكر الذي يحاول أن يُغري إناث نوعه من أجل التزاوج، ودائماً ما تنمّ محاولات إغراء الكائن الذكر للأنثى عن طابع لدى الذكر يعزّز من فرصة بقائه، الذكر الذي يُحضر للأنثى الطعام مثل ذكر «القيق الأوراسي» سيعيش وذريته أطول من غيرهم. يبني طائر التعريشة عشّه ويزينه بالورود الملونة ليقدمه للأنثى وكلما زادت مهاراته في البناء دلّ ذلك على وجود فطريات أقل في جلده ما يعني فرصاً أعلى للبقاء. ذكر الإنسان يلقي بالنكات فيضحك لها الجميع وتنجذب له الإناث. جمّع كل ذلك داروين في نظريته التي سماها «البقاء للأصلح»، ولكن بالنسبة للإنسان: ما الذي يجذب في ذكر خفيف الظل؟
لطالما ساد اعتقاد بين الناس وبعض أوساط العلماء عن محاذاة العلاقة بين خفة الظل من جهة والذكاء والقدرة على الابتكار من جهة أخرى، فالشخص الذي يمتلك القدرة على التلاعب بالألفاظ فيما يخدم الموقف الموجود ويصنع عبارات تُضحك مَن حوله، لا بد أن يكون ذكياً مُبدعاً تلتف حوله الفتيات، لكن حين تعمّق العلماء في الأمر وأجروا مزيداً من التجارب، اكتشفوا أن المعلومة السابقة ضحلة جداً، وأن الأمر يمكن تفسيره بعدة طرق:
- لا تدل خفة الظل على الذكاء في المطلق، أو الذكاء العام، بل تعكس نوعاً واحداً من الذكاء، وهو «الذكاء اللفظي».
- ترى النساء في خفة ظل الرجل على مواقع التواصل نوعاً من الانبساطية وليس الذكاء أبداً.
- أظهرت بعض الدراسات أن خفة الظل صفة تهم الرجال في النساء أكثر مما تهم النساء عند اختيار الشريك.
- لدى استطلاع الرأي في 5 دول، كانت النتائج ترابطات بسيطة بين الذكاء وحس الدعابة في 3 دول، بينما في دولتين أخريين لم توجد أي صلة بين الشيئين.
- ترى النساء أن حس الدعابة عند الرجال لا يعبر أبداً عن الذكاء، بل العكس، فقد يكون مدلولاً على ضحالة عقل الرجل.
إذاً لمَ ما زلنا نرى انجذاباً من النساء نحو الرجال خفيفي الظل؟
حسناً، يعبر حس الفكاهة بصورة كبيرة عن قدرة الرجل على التواصل، ورغبته في إنشاء علاقات، إذ يُعتقد أن الرجل خفيف الظل له نسبة أعلى في أخذ الخطوة الأولى في علاقاته الجديدة والمضي قدماً في القديمة.
إجمالاً، حتى الآن لا تتضح سببية العلاقة بين خفة الظل والانجذاب الجنسي نحو الرجل، وربما قريباً تسقط نهائياً وجهة النظر القائلة إنّ النساء تحب الرجال خفيفي الظل، لما يعكس ذلك من «چينات صالحة» لديهم.
على كلٍ لا يمكننا الاعتماد على تلك الفرضية التطورية لما لاقيناه من أدلة متضاربة، وربما يحتم علينا الآن الانتقال إلى تفسيرٍ آخر.
2. الضحك حبلاً للتواصل
لو تتبعنا أصل المشاعر سنجد منها كل غريب؛ فالغضب مثلاً تطور في بداية المجتمعات كوسيلة حماية يتبعها الفرد ليوضح أنّه يصعب غشّه، فهؤلاء منْ يرونه في سَورة غضبه ستتراءى أمامهم كلفة أمرٍ عظيمٍ كخداع هذا الشخص، ما يدفعهم إلى ملافاته.
إن الغضب سلوك اختياري لكن الضحك ليس كذلك، فالضحك شأنه شأن الارتجاف خلال الخوف أو الترنح نتيجة للسُكر أو الارتعاش خلال البرد، كلها أمورٌ لا إرادية، ويُنظر إلى هذه الأمور على أنّها وسيلة غير مقصودة لتأقلم النفس، لكن الضحك رغم أنّه إحداها إلا أنه لا يسلك هذا الطريق، فالضحك تَطوّر كوسيلة للتواصل شأنه في ذلك شأن الابتسامة.
الابتسامة ليست دلالة للفرح فقط، وإنما هي وسيلة تواصل للفرح، تحدث بقوة حين يوجد جمهورٌ متلقٍ، سواء كان الجمهور هذا يقطن أمامك أم كان مجرّد موقف تخيلي في دماغك، في كلتا الحالتين ستبتسم وإن تلزم الأمر ستضحك!
في الأيام الأخيرة انتشرت صورة لأحد أعضاء الكيان المحتل يسقي كلباً وربما قد صادفت أحد أقرانك يشارك الصورة تحت تعليق «بر الوالدين»، حسناً ربما تفسر هاتين الكلمتين نظرية بأكملها لتفسير إطلاق النكات، ولكن كيف؟
هل سمعت بهرمون «الأوكسيتوسين»؟
لو كنت قد سمعت به فاسمح لي أن أتلو على مسامعك أمراً لم تعرفه عنه من قبل، وإن كنت لا تعلم أصلاً ما هو الأوكسيتوسين فاجعلهما أمرين.
يُفرَز هرمون الأوكسيتوسين في المخ وقت العناق والأفعال الحميمية، ومتعارَفٌ أنه المسئول عن توثيق العلاقات البشرية -على اختلافها- وطول أمدها، للدرجة الذي جعلته يشتهر باسم «هرمون الحب» لما له من أثر طيب على تقوية أواصر المودة.
وكان يُرى هرمون «الأوكسيتوسين» على أنه «الملاك البريء» حتى 10 سنواتٍ مضت، حين بحثت دراسات في جانبه المظلم، لتكتشف أن هذا الهرمون اللطيف قد يكون المـموّل الأقوى لأفكار التعصب العرقي.
وجدت الدراسات أنّ «الأوكسيتوسين» مسئول عن العدوانية، فكيف اجتمع الضدان؟
لا لم يفعلا، فـ«الأوكسيتوسين» مسئول عن العدوانية تجاه أفراد القبائل الخارجية فقط، وفي الوقت ذاته يُعزِّز من روح الوطنية بين أفراد القبيلة الواحدة.
ولكن، ما علاقة هذا بالضحك؟
تطوّر الضحك من أجل تعزيز التواصل، أن يخبر أفراداً ما بأن هنالك شيئاً مشتركاً بينهم، شيء يُعزِّز ترابطهم، ولما كان للتواصل -الذي صنعه الأوكسيتوسين- وجه مظلم تحتم أن يحذو الضحك حذوه.
عززت طبيعة المجتمعات الصغيرة التي نشأ وسطها الإنسان من التنافسية بينها، التي بدورها ولّدت أحياناً الهجوم وربما العنف، فقام أفراد المجتمعات حيناً بإطلاق النكات من أجل السخرية من الأعداء واستهدافهم. وهكذا كان الضحك وكانت صورة «بر الوالدين».
3. كيف بدأ الضحك؟
ربما لو أردنا معرفة السبب الأصلي للضحك علينا أن نعود لنسأل أول إنسان أطلق ضحكة على سطح الأرض، متى أطلقها؟ ولأي غرض؟
تطوّر الضحك ما بين 10 و16 مليون سنةٍ مضت في العروض التي لعبتها أسلافنا من الرئيسيات غير البشرية. بدأ الأمر بمجرد لعبة، لعبها أجدادنا من القردة العليا وما زال يلعبها الشمبانزي حتى الآن، إذ تقوم اللعبة على فكرة المطاردة، تنقسم مجموعة الشمبانزي إلى فريقين متعاديين، يُطارِد أو يُصارِع أحدهما الآخر ويقوم بدغدغته فيضحك الأخير بلا إرادة منه. يضحك الشمبانزي حين يكون على مقربة من الوقوع في مَسكة الآخر المطارد له، أو حين يوشك على التعرض لهجوم من لاعبٍ آخر، تكون تلك الضحكة بمثابة رسالة تنقل معنى إلى بقية أفراد الشمبانزي المشاركين في اللعبة قائلةً «لا تقلق إن ما تشاهده ليس عدواناً خطراً».
ظهرت تلك الثيمة في عدة ألعاب لدى الأسلاف مما انتقلت إلينا لاحقاً، لعبة «اللمس والاختفاء والبحث». كل تلك الألعاب كانت تحاكي فيها القردة العليا فعل المفترسات، يجري الأسد خلف فريسته وتشعر بالذعر ما إن يلمسها، أو حين يمسك بها بعد مطاردة طويلة، مثّلت تلك الألعاب محاكاة لواقع الافتراس ما بين مُطارِد ومطارَد، ولما كان الفعل الأصلي -الافتراس- مما يُفزِع، أصبح لزاماً من اللاعبين تمييز لعبتهم وخلق إشارة -كالضحك- لطمأنة بعضهم البعض. بقيت بعض تلك الألعاب وبقي كذلك الضحك الذي خلّفته، ويعتقد أنه ربما قد تطورت الفكاهة من رواسب هذا التأثير.
لاختبار تلك الفرضية، قام العلماء بتحليل أصوات الضحك الناتج عن «الدغدغة» لدى أطفال كلٍ من قردة الأورانغوتان (إنسان الغاب)، والغوريلا، والشمبانزي، والبونوبو، وأيضاً تلك الناتجة عن أطفال البشر.
جُمعت نتائج تلك التجربة وضُمّنت لدى تحليل تطور السلالات، وبإجراء بعض المقارنات الچينية خلُصت النتائج بتقديم دليل قوي عن تماثل الضحك الناتج عن عملية «الدغدغة» بين القردة العليا والإنسان، وقدّمت دعماً أقوى على فرضية امتدادية نشوء وتطور مشاعر الإنسان العاقل الحالي، من التعابير الشعورية التي قام بها الأسلاف الأوائل غير البشرية.
كيف تشقّ النكتة طريقها إلى فمك؟
تحتوي النكتة على معلومات تتقاطع مع معلوماتٍ أخرى موجودة في رأسك، يحاول المخ الوصول إلى التناقض أو التعارض بين تلك المعلومات، يكتشفه ثمّ يحلّه، وهذه هي النكتة في قشرة جوز، وذاك هو الجانب المعرفي من الفكاهة.
يُعرَف التناقض بأنه حبكة غير متوقعة في مجموعة متتالية من الأحداث، فمثلاً حدث التدخين هنا غير متوقع، وحين يسأل الأب يقع في حدث آخر غير متوقع.
إذاً النكتة السابقة رغم (ثقل دمها) فإنها محبوكة الأحداث. تـحلّ الحبكة بالوصول إلى ناتج جديد وربطه بالمعنى الأصلي، ففي نكتة العريس وصلنا إلى ناتج رُبط بالمعنى الأصلي، وهو قبول أو رفض هذا الشخص.
يحب الدماغ الألغاز، ويأتي هذا السبب مُفسراً الشيء الذي كثر تداوله عبر منصات التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، الكوميكس. ينشر الشخص مقطعاً من فيلم ثم يُغيِّر من سيناريو هذا المقطع بموقف شخصي شريطة أن يتوافق مع نفس هدف المقطع، لتحصل في النهاية على الكوميك.
سيشاهد شخص آخر الصورة، وفجأة يلتقط دماغه أوجه التشابه بين المشهد الأصلي والموقف الشخصي، يستند المخ إلى قاعدته المعرفية -الناتجة عن معرفته بالفيلم- تتقاطع المعلومات وتتعارض داخل رأسه، يحل المخ هذا التعارض ويكافئك مسبباً الضحك.
تتعدد النظريات التي تفسر النكات، بدءًا بالتطور ومروراً بتصوير المخ أثناء الضحك، وحتى دراسة تأثير الضحك على الهرمونات، ووصولاً للأبعاد الفلسفية للضحك. لا شيء يمكنه تقديم تفسير موقن للموضوع. أنت تضحك على شيء ما قد لا يضحك عليه شخص آخر ولا نفهم هذا، لا بل لا نفهم أصلاً معنى الضحك أو جوهر الفكاهة، رباه هل الضحك نفسه هو مجرد نكتة كبيرة لم نفهمها بعد؟
لا نعلم شيئاً عن الضحك لكن رغم ذلك جميعنا يضحك، يكتسب الرضيع القدرة على الضحك في الشهور الأولى من حياته، حتى الرُضّع من فاقدي حاسة البصر والسمع يضحكون كذلك، يولد كل إنسان وفي داخله جزء مستعد أن يضحك، هل سنعيش ليومٍ يتمكن فيه العلماء من شتى بقاع العالم من الجلوس على طاولة واحدة معلنين أنّهم أخيراً فهموا لماذا نضحك؟
لسنا متأكدين بعد، لكن هؤلاء العلماء على اختلاف لغاتهم التي لن يفهمها بعضهم البعض ستجمعهم لغة واحدة، لغة تعلموها جميعاً في شهور حياتهم الأولى دون أدنى جهد منهم، نعم يبدو أن الضحك هو اللغة الوحيدة التي يفهمها جميع البشر.