ليرحل بيت يعقوب: كواليس طرد يهود روسيا إلى فلسطين
نتيجة لأسباب سياسية واقتصادية، شهدت فلسطين في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر موجات هجرة من يهود روسيا ورومانيا، وبدعم مالي من أوروبا أنشئوا عدة مستوطنات كانت الأساس فيما بعد لإقامة الكيان الصهيوني.
ويذكر الدكتور أمين عبد الله محمود، في كتابه «مشاريع الاستيطان اليهودي منذ قيام الثورة الفرنسية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى»، أن روسيا القيصرية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كانت تضم أكبر نسبة من يهود العالم، فقد بلغ عددهم فيها عام 1880 حوالي 4 ملايين من أصل 7 ملايين يهودي منتشرين في شتى أرجاء العالم.
أسباب هجرة يهود روسيا
بحسب محمود، كانت الأوضاع الاقتصادية ليهود روسيا حتى منتصف القرن التاسع عشر يغلب عليها الطابع التجاري والحرفي الصغير الذي كان قائمًا في فترة ما قبل الرأسمالية، وكانوا يحتكرون التجارة والربا، ويقومون بدور الوسيط بين الإقطاعيين الروس وبين الفلاحين، ويستأجرون المزارع والحانات والمطاعم والفنادق ويتولون إدارتها.
لكن أوضاع اليهود الاقتصادية والاجتماعية سرعان ما بدأت تتعرض لهزات عنيفة، وذلك في أعقاب التطورات الجديدة التي شهدتها روسيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ إذ أخذت الطبقة الوسطى الروسية تظهر لأول مرة على مسرح الأحداث في أعقاب إلغاء القنانة الروسية (نظام لتملك الأراضي) عام 1861، وأخذت تنافس التجار اليهود من جهة، وتضيِّق سبل العيش أمام الحرفيين منهم والذين لم يتمكنوا من منافسة عملية الميكنة الحديثة من جهة أخرى.
ومما قوَّى شوكة هذه الطبقة الروسية تدفق رءوس الأموال الأوروبية الغربية على روسيا، بحيث فتحت آفاق استثمار صناعي واسع، أدى في النهاية إلى اندثار الحرف الصغيرة والتجارة المحدودة وعملية الربا التي كانت غالبية يهود روسيا يعتمدون عليها في معيشتهم.
وهكذا وجد غالبية الروس أنفسهم إزاء تحدٍّ اقتصادي كبير يقتلعهم من مواقعهم التجارية والحرفية التقليدية، ويضطرهم إلى هجر مستوطناتهم، والتدفق في هجرات واسعة بادئ الأمر صوب المدن الروسية، لكنهم لم يجدوا ما يصبون إليه بسبب انتشار الورش والصناعات الثقيلة، مما اضطرهم إلى التفكير ثانية في الهجرة، لكن هذه المرة إلى الخارج، وتحديدًا إلى أوروبا وأمريكا الشمالية.
حركات يسارية واغتيال قيصر روسيا
ويذكر عبد الكريم الحسني، في كتابه «الصهيونية. الغرب والمقدس والسياسة»، أن اشتراك اليهود في الحركات اليسارية في روسيا أدى إلى ازدياد عداء السلطات القيصرية الروسية ضد اليهود، وزاد الطين بلة حينما اغتيل قيصر روسيا ألكسندر الثاني عام 1881، حيث اتُّهم في ذلك اليهود أيضًا، فظهرت موجة عداء شاملة لليهود في روسيا أُطلق عليها «اللاسامية».
وصار التضييق على اليهود في روسيا من نواحٍ كثيرة، فصدر كثير من القوانين ضدهم، فاليهودي الذي يخرج من قريته لا يُسمح له بالعودة، ومُنح المواطنون الروس الحق في طرد اليهود من قراهم، ومُنع تشغيل اليهود في المناطق الريفية، ومُنعوا كذلك من الإقامة في موسكو، كما مُنعوا من حق الانتخاب في المجالس البلدية، وكل هذا أدى إلى الهجرة الجماعية ليهود روسيا إلى أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، وبالتالي ظهور المشكلة اليهودية، حيث بلغ عدد اليهود الذين غادروا قراهم خلال ثلاث وثلاثين سنة نحو مليونين ونصف مليون شخص.
جمعيات صهيونية سرية
وفي تلك الأثناء ظهرت جمعية «أحباء صهيون»، وهي جمعية سرية تأسست عام 1882 من 25 طالبًا روسيًّا في جامعة «خاركوف»، وأصدرت منشورات تتغنى بحب فلسطين وتحث على استيطانها واستعادة «مجد بني إسرائيل»، وفي العام نفسه تشكَّلت أيضًا جماعة صهيونية أخرى تحمل الاسم نفسه في جامعة أوديسا بروسيا، كما تأسست جمعية «بيلو»، وهذه الكلمة تتشكل من أربعة أحرف تشير لكلمات بالعبرية هي «بيت يعقوب تعالوا لنرحل»، وأطلقت نداءً عام 1882 اعتبره الصهاينة فيما بعد نموذجًا للدعوة الصهيونية، بحسب الحسني.
لكن الحدث الأبرز في العام مفسه كان صدور كتاب «التحرر الذاتي» للمفكر اليهودي الروسي ليو بنسكر، الذي بدأ يبحث عن حلول جديدة للمسألة اليهودية خارج الاندماج في المجتمعات المحيطة بهم. ويذكر الحسني، أن هذا الكتاب تضمن أول برنامج عملي حول الحل النهائي للمسألة اليهودية، وأخذت به الجماعات الصهيونية المنظمة وهي «أحباء صهيون»، بل اعتبرته كتابها المقدس.
وذكر بنسكر في كتابه أن حل المسألة اليهودية يكمن في إقامة وطن لهم في مكان ما، على ألا تكون هجرة الشعب اليهودي كاملة، وإنما تهجير الفائض، أي الجماهير الفقيرة، على أن تتولى هذا الأمر منظمة صهيونية مركزية نواتها الجمعيات القائمة حاليًّا، وذلك من خلال مؤتمر عام تعقده هذه الجمعيات وتقرر فيه إنشاء شركة مساهمة للممولين اليهود، تكون مهمتها شراء قطعة أرض يمكنها استيعاب بضعة ملايين من الفائض اليهودي في أوروبا.
وبحسب الحسني، اعتبرت الجمعيات هذا الكتاب بمثابة التوراة الجديدة، ودخلت جماعتا أحباء صهيون وأوديسا في حوار مع المؤلف لإقناعه بتبني فكرة استيطان فلسطين، وتحديدها هدفًا لهجرة اليهود وتأسيس دولتهم فيها، وعرضت هاتان المجموعتان على بنسكر رئاسة جمعيتهما الموحدة مقابل تبني خيار فلسطين وطنًا لليهود، وهو ما وافق عليه.
أول مستوطنة روسية في فلسطين
ويذكر صبري جريس، في الجزء الأول من كتابه «تاريخ الصهيونية 1862-1917»، أن هاتين الجمعيتين وضعتا الأسس الأولى للنشاط الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، عندما أرسلت مبعوثًا عنهما إلى فلسطين هو زلمان دافيد ليفونتين، للعمل على شراء مساحة من الأرض بهدف إقامة مستوطنة عليها لأعضاء الجمعيتين، وذلك بعد استشارة يحيئيل بينسن ممثل «صندوق مونتفيوري» في القدس، وهي مؤسسة كانت تعمل على توطين اليهود هناك.
ومع وصول ليفونتين إلى فلسطين لفت نظره انعدام التنظيم والتنسيق بين المهاجرين اليهود الروس الجدد الذين قدموا إليها، ثم محاولات أكثر من جهة يهودية شراء الأراضي هناك، مما يعرقل سير المخطط الصهيوني، لذا اتجه إلى تجميع تلك القوى، واستطاع إقامة لجنة «أساس الصعود»، بهدف تنسيق عمليات الاستيطان وتقديم المشورة والعون للمهاجرين الجدد الذين يفدون إلى فلسطين.
وبحسب جريس، قامت اللجنة بالتفتيش في أماكن مختلفة من فلسطين عن مساحة مناسبة من الأرض لشرائها، إلى أن علمت أن الحكومة التركية تنوي بيع مساحة من الأرض التابعة لقرية «عيون القرى»، على بعد 12 كيلومترًا جنوب يافا، لعجز مالكيها العرب عن تسديد الضرائب المترتبة عليها، ووافقت اللجنة على شراء تلك الأراضي لموقعها الجيد على شاطئ البحر المتوسط.
غير أن صفقة البيع هذه لم تحظَ بموافقة والي القدس الذي عارض بيع الأرض وتسجيلها باسم مواطنين أجانب، فتدخل نائب قنصل بريطانيا في يافا الحاخام حاييم امزيليغ، وتمكن من شراء المساحة المعروضة للبيع بأكلمها، وكانت تقدر بـ3.340 دونم (الدونم يساوي 1000 متر مربع) وتسجيلها باسمه، ثم قام بتحويلها إلى المهاجرين اليهود.
وفي الأول من أغسطس 1882 وصلت خمس عائلات من أولئك المهاجرين إلى تلك الأراضي، ووُضعت عليها أسس مستوطنة أُطلق عليها اسم «ريشون لتسيون»، أو «الأولى لصهيون»، وهو اسم مستمد من التوراة.
اقرأ أيضًا: الحرس الوطني وحوارة: صراع الضفة الغربية مع الاستيطان
هجرة يهود رومانيا إلى فلسطين
وفي الوقت الذي كانت فيه طلائع حركة «أحباء صهيون» في روسيا تؤسس هذه المستوطنة، كان يهود رومانيا أيضًا يقومون بنشاط مماثل، نتيجة لوضع لم يكن يختلف كثيرًا عن وضع اليهود في روسيا، فالإجراءات المعادية لليهود التي اتخذتها السلطات الرومانية، خصوصًا ما يتعلق بأوضاعهم الاقتصادية، فاقت في قسوتها تلك التي اتبعتها السلطات القيصرية في روسيا.
وزادت أوضاع اليهود سوءًا بعد أن أعلنت رومانيا استقلالها سنة 1878، ورفضت منح حقوق المواطنة ليهودها، مُصرَّة على اعتبارهم غرباء فيها، بل شجعتهم علنًا على الهجرة للتخص منهم، وأعلنت أنها ستساعدهم على إقامة مملكة في فلسطين، يروي جريس.
على كلٍّ، بدأ نشاط أحباء صهيون المنظم في رومانيا بمبادرة من بعض اليهود من أبناء مدينة صفد في فلسطين، والذين اشتروا نصف أراضي قرية الجاعونة، القريبة من المدينة، لتأسيس مستوطنة زراعية عليها، لكنهم جابهوا عراقيل عديدة دفعتهم إلى التفكير في بيع الأرض التي اشتروها بعد أن اشتدت ضائقتهم المالية، لكنهم لم يفعلوا ذلك وأرسلوا مبعوثًا عنهم هو اليعيزي روكاح إلى رومانيا لجمع التبرعات لمساعدتهم.
وفي رومانيا، استطاع روكاح إقامة أول جمعية لهجرة اليهود في مدينة بوخارست سنة 1880، مما شجَّع على إقامة جمعيات مماثلة من أحباء صهيون في مدن عديدة، واتفقت فيما بينها على إنشاء لجنة مركزية لتنسيق نشاطها.
وأرسلت إحدى هذه الجمعيات مبعوثًا عنها إلى فلسطين هو موشي دافيد شوف، لشراء أراضٍ هناك لتوطين أعضاء الجمعية عليها، واستطاع شراء ثلثي مساحة الأرض التي كان يهود صفد قد اشتروها في الجاعونة، بينما قام يهود روسيا بشراء الثلث الباقي.
وبعد شهر من تأسيس مستوطنة «ريشون لتسيون» الروسية، أي في سبتمبر 1882، توجهت قافلة مؤلفة من نحو خمسين عائلة يهودية من مدينة مويتشتي في رومانيا إلى فلسطين، ومن هناك اتجهت إلى أراضي الجاعونة، ووضعت أسس مستوطنة صهيونية ثانية هناك، أطلقوا عليها اسمًا من التوراة هو «روش بينا»، أو «رأس الزاوية»، ذكر جريس.
ولم يمر وقت طويل على وصول المهاجرين اليهود من رومانيا إلى «روش بينا» حتى دب الخلاف بينهم، وترك قسم منهم المستوطنة متجهًا إلى التفتيش عن أراضٍ أخرى لشرائها، لإقامة مستوطنة أخرى خاصة به.
وتزامن ذلك في وقت كان وفد اللجنة المركزية لأحباء صهيون في رومانيا يجوب أيضًا أنحاء فلسطين، للتفتيش عن أراضٍ لشرائها لحساب الجمعيات التي يمثِّلها، بعد أن فشل الوفد الأول الذي أرسلته اللجنة للهدف نفسه، في إحراز أي إنجازات.
ووحَّد الطرفان جهودهما، ونجحا في شراء نحو ستة آلاف دونم من أراضي قرية زمارين، على بعد عشرين كيلومترًا تقريبًا جنوب حيفا، وكانت ملكًا لمواطن فرنسي، وذلك بمساعدة إيميل فرانك، وهو يهودي فرنسي كان يعمل في الموانئ السورية كوكيل لشركات السفن البريطانية، ويشغل في الوقت نفسه منصب نائب قنصل ألمانيا والنمسا في الإسكندرية.
وفي نوفمبر 1882، كانت قافلة أخرى من المهاجرين اليهود من رومانيا، تضم 142 شخصًا، تتجه نحو فلسطين، لتضع أسس مستوطنة صهيونية ثالثة هناك في زمارين، والتي أُطلق عليها فيما بعد اسم «زخرون يعقوب»، تخليدًا لذكرى والد البارون روتشيلد الفرنسي، بعد أن تعهد بتقديم المعونة المالية للمستوطنة.
مستوطنات أخرى
ولم تتوقف هجرات يهود روسيا ورومانيا عند هذا الحد، ففي ربيع سنة 1833 وصلت طلائع جديدة من المهاجرين الروس لإعادة بناء مستوطنة «بيتاح تكفا»، والتي سبق أن أسسها يهود القدس وهجرها سكانها بعد تفشي الأمراض بينهم.
وبحسب جريس، أقيمت فيما بعد أربع مستوطنات أخرى، الأولى هي «يسود هامعله» قرب بحيرة الحولة شمال فلسطين، وسكنها يهود من مقاطعة بولونيا الإيطالية، والثانية هي «وادي حنين» أو «نحلات رؤوفين»، وعُرفت فيما بعد باسم «راية صهيون»، والثالثة جنوب مدينة الرملة، وخُصصت للمهاجرين اليهود الروس الذين كانوا على وشك ترك فلسطين والعودة إلى روسيا، لعجزهم عن تأسيس مستوطنة خاصة بهم، وعُرفت باسم «عكرون»، وأُطلق عليها فيما بعد اسم «مزكيرت باتيه».
وفي السنة التالية 1884، تمكن أحباء صهيون في روسيا بمساعدة يحيئيل بينسن ممثل صندوق مونتفيوري في فلسطين، من شراء مساحة أخرى من الأراضي جنوب غرب «عكرون»، كانت ملكًا لابن نائب قنصل فرنسا في يافا، وأقاموا عليها مستوطنة «غديرة» للمهاجرين، ليصل بذلك عدد المستوطنات التي أسستها طلائع الهجرة الأولى في فلسطين، خلال السنوات 1882-1884 إلى ثماني مستوطنات.
اقرأ أيضًا: تاريخ من العدم: مستوطنات إسرائيلية على أنقاض قرى فلسطينية