قبل أن يحكم اليمين المتطرف عاصمة أوروبية
مساء الثالث والعشرين من شهر مايو/أيار الماضي أعلنت اللجنة العليا لانتخابات الرئاسة النمساوية فوز المرشح القريب من حزب الخضر «ألكسندر فان دير بلين» بالجولة الحاسمة من انتخابات الرئاسة بهامش ضئيل عن منافسه المنتمي لحزب الحرية اليميني المتطرف «نوربرت هوفر».
ثلاثون ألف صوت فقط كلفت اليمين المتطرف فرصة تاريخية باعتلاء سدة الرئاسة في دولة أوروبية للمرة الأولى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، لكنها كانت كافية لذيوع حالة من الاطمئنان في العواصم الأوروبية، التي ترقبت فوز هوفر قياسًا على النتائج اللافتة التي حققها في الجولة الأولى، بإقصاء مرشحي الحزبين التقليدين للمرة الأولى في تاريخ النمسا، بعد أن حقق ما نسبته 35 % من أصوات الناخبين.
كان من المفترض أن تجري مراسم تنصيب فان دير بيلين في الثامن من يوليو/ تموز، غير أن المحكمة الدستورية النمساوية استبقت التنصيب بحكم، هو الأول من نوعه في تاريخها، يقضي بإعادة الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة، استجابة إلى الطعن الذي تقدم به مرشح اليمين المتطرف بشأن وجود مخالفات كثيرة شابت عملية فرز بطاقات الاقتراع المرسلة من خلال البريد.
حدد وزير الداخلية «فولفجانج سوبوتكا» تاريخ الرابع من ديسمبر/كانون الأول المقبل موعدًا لإعادة الجولة الثانية، نافيًا أي احتمالية لتأجيلها من جديد، عقب المخاوف التي نشرتها الصحيفة السويسرية «نوين تسوريشار» من إمكانية استخدام أرقام جوازات سفر وهمية في التصويت عبر البريد.
تأتي إعادة الجولة الثانية من الانتخابات النمساوية في سياق زمني مختلف عن الذي أحاط انعقادها الأول. استجدت متغيرات أوروبية بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتمدد حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني الشعبوي علي الصعيد الولائي، وأخرى عالمية بفوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية.
عوامل من شأنها تعزيز الفرص النظرية لفوز هوفر الذي حاز ثقة 49,7% من الناخبين في الجولة الأولي، بجعبة شبه فارغة من الحيل السياسية إلا من تلك المتعلقة بأزمة اللاجئين والسياسات المالية لمنطقة اليورو.
السطور التالية تحاول قراءة تاريخ حزب الحرية اليميني المتطرف، موقعه من الخريطة الحزبية، فضلًا عن تحليل الآثار المترتبة علي نجاح مرشحه للرئاسة قطريًا وأوروبيًا، ورصد سياسات المؤسسات الأوروبية في مواجهة تمدد الظاهرة اليمينية.
تأسيس مختطف وحاضر ملتبس
أواخر يونيو/حزيران المنصرم، نشب نزاع قضائي بين المرشح اليميني المتطرف لانتخابات رئاسة الجمهورية نوربرت هوفر ورئيس الحزب الاشتراكي في التيرول «إنجو ماير»، على خلفية قيام الأخير بوصف المرشح الرئاسي في منشوراته على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك بـ« النازي».
ذهب هوفر إلي المحكمة في صباح التاسع والعشرين من يوليو/تموز آملًا في أن ينطق القاضي «مارتن لايز» بحكم يدين السياسي الاشتراكي. لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن؛ أجاز القاضي وصف هوفر بالنازي، ليس فقط نزولًا على قواعد حرية الرأي والتعبير، وإنما أيضًا -كما جاء في حيثيات حكمه- لأن هوفر لم يبتعد عن المشهد النازي بالقدر الكافي، بل حاول خلق قنوات تواصل مشتركة!
نظرة متفحصة للدائرة المحيطة بهوفر يمكن أن تكشف الدوافع التي استند إليها القاضي في حكمه؛ الرئيس الحالي لحزب الحرية اليميني المتطرف «هاينز كريستيان شتراخه» كان قريبًا بشدة من المشهد النازي في التسعينات.
في العام 1989م التقط أحد أصدقائه صورة له أثناء تجمع للنازيين الجدد في ولاية هيسن الألمانية، أثناء قيامه بأداء التحية النازية إلى صديقه فرانتس رادل، المعروفة ب «Kühnengruß» نسبة إلى النازي الألماني ميشائيل كونين، والتي ظهرت في السبعينات احتجاجًا على سياسة المستشار الألماني فيلي برانت في التقارب مع الكتلة الشرقية، والتحية عبارة عن رفع اليد اليمني عاليًا، مع ثني إصبعي الإبهام والسبابة فقط.
بخلاف شتراخه تضم الدائرة آخرين تلاحقهم اتهامات الانتساب للمشهد النازي؛ مدير مكتب هوفر في البرلمان هو رينيه شيمانيك، عضو سابق في تنظيم «VAPO» النازي رفقة أخيه هانز يورج شيمانيك وصديقه المقرب جوتفريد كوسيل مُنكر المحرقة.
أضف إلى ذلك أن هوفر ذاته لم يجد أية إشكالية أخلاقية في التواصل مع الصحفيين النازيين أرني شيمر وتورستن تومسون في العام 2011م، وذلك من خلال إجراء حوار مع الصحيفة «Hier und Jetzt» المحسوبة على الحزب النازي الألماني الجديد «NDP». وإذا كان الحاضر يزخر بمؤشرات متقطعة عن الصلة بين حزب الحرية والنازيين الجدد، فإن الماضي يكشف بجلاء عن جذور الارتباط التأسيسي بين القيادات النازية وقيادات حزب الحرية.
في هذا السياق يمكن العودة إلى الوراء، تحديدًا إلى حدود تاريخ التاسع والعشرين من فبراير/شباط 1949م؛ آنذاك أسس الصحفيون الليبراليون هربرت كراوس وفيكتور راينمان حزب اتحاد المستقلين بهدف دمج بقايا النازيين في العمل السياسي بالشروط التي تتلائم وترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية.
استقطب الحزب ما عُرف وقتها ب «الأسماك الصغيرة» أي تلك التي لم تتول مناصب قيادية في العهد النازي. لم يمض الكثير من الوقت قبل أن ينجح الحزب في طرق أبواب السياسة الفيدرالية من أوسع أبوابها، عندما حاز نسبة تناهز 11% من أصوات الناخبين في الاستحقاق التشريعي الذي جري في العام 1953م. حدث ذلك قبل أن تظهر الخلافات إلى السطح بين حملة التوجه الديمقراطي الليبرالي والمتمسكين بالأفكار النازية، خلافٌ اضطر معه الصحفيان للابتعاد مؤقتًا عن موقعهما القيادي، وقاد في الأخير إلى تصدع واسع في صفوف الحزب، أبى إلا أن ينتهي بمشهد ختامي أكثر درامية.
الضربة القاضية أتت على يد الجنرال السابق في قوات العاصفة النازية أنطون راينتهالر، عندما أطلق في أبريل/نيسان 1956م حزبًا جديدًا بهدف الإجهاز على غريمه المترنح حزب اتحاد المستقلين. الانطلاق للعمل السياسي الفيدرالي استلزم من راينتهالر أن يطعم حزبه بعناصر ليبرالية لا تشاركه القيادة، بل ينحصر دورها في إضفاء مسحة ديمقراطية على التأسيسي الرجعي للحزب.
من هنا كانت تجربة الاندماج مع بقايا حزب اتحاد المستقلين بقيادة هربرت كراوس في كيان جديد حمل اسم حزب الحرية. وجرت الانتخابات الداخلية لتكشف عن الوزن النسبي للأجنحة الليبرالية والنازية داخل الحزب، إذ فاز الجنرال النازي راينتهالر بموقع القيادة بأغلبية كاسحة وصلت إلى 117 صوت من أصل 124، في حين لم يصوت لاختيار كراوس سوى ثلاثة أشخاص فقط. «لم أكن أتخيل أبدًا أن أؤسس وريثًا جديدًا للحزب النازي الألماني» بهذه الكلمات عبر كراوس عن انهيار مشروعه الحزبي، في حواره لصحيفة «Wiener Zeitung» في الثالث عشر من أبريل/نيسان 1956م.
ظلت القيادة متأرجحة بين المعسكرين طيلة العقود الأربعة التي تلت وفاة راينتهالر، إذ خلفه في قيادة الحزب الجندي النازي السابق في قوات العاصفة فريدريش بيتر، لتبدأ بانتهاء زعامته في العام 1978م مرحلة سادت فيها الفكرة الليبرالية قيادة وتنظيرًا.
جاء تدشين برنامج الحزب الانتخابي في باد ايشل ليفتح فصلًا جديدًا في البنية التنظيمية للحزب، وتحالفاته التي انتقلت خطوة للأمام بالتقارب مع حزب الشعب، بعد أن كانت مقتصرة حتى وقت قريب على المعسكر الاشتراكي بقيادة برونو كرايسكي، بيد أن الخلافات التي عصفت بين معسكري التجاذب التقليدي في نهاية عهد نوربرت شتيجر، أعادت الأمور لسابق نصابها بظهور قيادة حزبية جديدة شكلت المنعطف الأسوأ في تاريخ النمسا بعد الحرب العالمية الثانية.
بحلول العام 2000م أعلن عن تشكيل حكومة ائتلافية يتقاسمها حزب الحرية اليميني المتطرف بقيادة يورج هايدر، وحزب الشعب بقيادة فولفجانج شوسيل. واقعٌ لم تقبله أوروبا التي خرجت سريعًا من حيز التنديد بوصول اليمين المتطرف إلى سدة الحكم، إلى حيز الفعل السياسي التصعيدي.
مساء اليوم الأخير من ديسمبر/كانون الأول 2000م استهدفت المفوضية الأوروبية النمسا بحزمة من العقوبات الدبلوماسية. انحصرت بنود العقوبات في نقاط ثلاث؛ تعليق كافة الاتصالات الثنائية بين الاتحاد الأوروبي وأية حكومة نمساوية يكون حزب الحرية اليميني المتطرف طرفًا فيها، عدم دعم المرشحين النمساويين الساعين للمنافسة على مناصب في المنظمات الدولية، بالإضافة إلى عدم استقبال سفراء فيينا في العواصم الأوروبية إلا على المستوي التقني.
العداء للنمسا لم يقتصر فقط على المستوى السياسي، بل امتد أيضًا للضمير الأوروبي الجمعي. رفضت معارض بلجيكية إعارة لوحات فنية لنظيرتها النمساوية، وحظر اتحاد سائقي التاكسي البلجيكي على منتسبيه التعامل مع السائحين النمساويين، وتلقت «فيينا فيلهارمونيك» تهدديات بتفجيرات في عواصم أوروبية ذهبت لإحياء حفلات على مسارحها، حتى وفد طلاب المدارس الذي ذهب لتمثيل بلاده في محفل شبابي أوروبي في ستراتسبورج لم يسلم من المقاطعة وصيحات الاستهجان التي نعتتهم بالنازيين.
كانت تلك المرة الأولى التي تفرض فيها بروكسل عقوبات على دولة عضو في منطقة الشنجن، ولم تنته إلا بعد تسعة أشهر، حين أصدرت لجنة الحكماء الثلاثة المكونة من مارسلينيو أوريخا، يؤاخين فروفاين، ومارتي أتيزاري تقريرها الذي أكد التزام الحكومة النمساوية بمعايير الاتحاد الأوروبي.
أبعد من إعادة تشكيل الخريطة الحزبية النمساوية
يذهب البعض للمجادلة بأن صعود مرشح حزب الحرية اليميني المتطرف للمرحلة الأخيرة من انتخابات الرئاسة ليس مفاجئًا. الحزب حاضر في المعادلة السياسية النمساوية منذ تأسيسه، ليس فقط على الصعيد الفيدرالي بحكومة شوسيل-هايدر المعاقبة أوروبيًا، فالحاضر يشي بتعاظم القواعد الشعبية للحزب على المستوى الولائي.
في العام المنقضي حقق الحزب نتائج مذهلة في الانتخابات المحلية في أربع ولايات. (فيينا %30,8، النمسا العليا 30,3%، شتايرمارك 26,8%، بورجنلاند 15%) .تُرجمت الأصوات لمقاعد في الحكومات المحلية. إذ شكل «الحرية» حكومة ائتلافية مع الحزب الاشتراكي في بورجنلاند، بينما اقتسم الحكومة مع حزب الشعب في النمسا العليا.
صحيحٌ كل ما سبق، لكنه يتنكر لحقيقة أخرى لا تقل أهمية بأن تلك هى المرة الأولى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية التي يعبر فيها مرشح اليمين المتطرف الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة، بل إنها أيضًا السابقة الأولى من نوعها التي يخرج فيها مرشحي الحزبين الأكبر في المشهد السياسي النمساوي من الجولة الأولى، بنسبة تصويت لا تكاد تصل إلى ثلثي ما ناله مرشح اليمين المتطرف.
يمتد الجدل إلى حدود القول بأن منصب الرئاسة شرفي بالأساس، تقتصر مهام صاحبه على توقيع البروتوكولات، وتقليد رئيس الحكومة، والتمثيل في المناسبات الخارجية. مجادلة وإن كانت صحيحة في بنائها إلا أنها تغفل حقيقة أخرى تتمثل في المادة 70 من الدستور النمساوي التي تخول للرئيس سلطة إقالة الحكومة.
حتى تاريخه لم يخرج منصب الرئاسة عن قطبي العمل الحزبي الاشتراكي والشعب، لذا لم تظهر الحاجة إلي تفعيلها. هوفر لا ينتوي ذلك، عبّر صراحةً في المناظرة الأخيرة التي جمعته مع مرشح الخضر «ألكزندر فان دير بيلين» عن نيته إقالة الحكومة حال ما لم تتوافق مع النقاط الأساسية لبرنامجه السياسي خصوصًا في القضايا المتعلقة بأزمة اللاجئين، الاقتصاد، والرعاية الصحية.
هنا سيتحول الرئيس للمرة الأولى في تاريخ الفيدرالية النمساوية لصانع قرار سياسي، رئيس يميني متطرف طموح لتكرار الظاهرة الأوربانية في المجر «Orbánismus» نسبة إلي رئيس وزرائها فيكتور أوربان الذي جاء على رأس حكومة ثانية في أبريل/نيسان 2010م.
استغل تداعيات الأزمة المالية العالمية في ترويج خطابه القومي، بعد أن وحد من خلال شعاره، أمة واحدة، علم واحد «Egy a zászló, egy a nemzet» مجهود الأحزاب اليمينية الصغيرة مع حزبه الحاكم فيديس، ونجح بقليل من التحسن الاقتصادي في تمرير حزمة تعديلات عززت موقعه السياسي.
بدأت بتعديل الدستور في 2011م ثم إنشاء هيئة إدارة الإعلام NMHH.، مكونة من 5 أعضاء، يتم اختيارهم من قبل أوربان، ويمتد عملهما 9 سنوات. تعديل قانون السلطة القضائية، وتخفيض سن التقاعد من 70-62 سنة، وبالتالي تسريح 274 قاضي، تقليص مهام المحكمة الدستورية في الفصل في قوانين الموازنة والضرائب، على خلفية حكم المحكمة رقم 1268/B لسنة 2010م بعدم دستورية حزمة ضرائب استثنائية فرضتها الحكومة، فقدم ياوش لازار رئيس كتلة فيديس البرلمانية مشروع قانون بتقليص صلاحيات المحكمة الدستورية. إضافة لحرصه على إيصال مقربين منه لمناصب حيوية، كدعم ترشيح نائب رئيس حزب فيديس الأسبق بال شميت لمنصب رئاسة الجمهورية، والذي اختار بدوره صديق أوربان المقرب بيتر بولت لمنصب النائب العام.
قبل الانتقال إلى المخاوف على المستوى فوق القومي، يتعين علينا أن نلقي نظرة على مقدمات التوتر المحلي. منذ أواخر سبتمبر/أيلول 2015م سايرت فيينا سياسات المستشارية الألمانية في الترحيب باللاجئين.
صور وردية باستقبال اللاجئين الذين قرروا اتخاذ النمسا مستقرًا نهائيًا لتقديم طلبات اللجوء، وأخرى لا تقل إبهارًا عندما يتعلق الأمر بإيصال الراغبين في واحة المساعدات الاجتماعية الألمانية لحدود ولاية بايرن.
تغير الوضع بصورة درامية عندما بدأت أصوات التذمر الشعبي ترتفع بصورة لم يتمكن معها ساسة فيينا من إبداء التجاهل. انسلخ المستشار فايمان من التزامه بالتضامن مع برلين، دعى نظيرته الألمانية لتحديد حد أقصى للاجئين المسموح لهم بدخول ألمانيا يوميًا، رفضت التراجع عن نهجها، فأتى الرد على خطوتين؛ أولهما وضع سقف لعدد اللاجئين يوميًا ب 80 لاجئ، ما أجبر بالتبعية الدول الواقعة على خط البلقان سلوفينيا-كرواتيا-صربيا-مقدونيا، على الالتزام بسقف لاستقبال اللاجئين، كي لا تتحمل بمفردها فواتير السخاء الألماني.
أما الثانية فتمثلت في قيادة انقلاب على سياسة اللجوء الألمانية، حينما عقدت فيينا مؤتمرا غرب البلقان في 24 فبراير/شباط مع 9 دول، أسفر في الأخير عن إغلاق أوروبا في وجه اللاجئين، وعزلهم في اليونان، وعدم السماح لهم بالعبور لوسط وجنوب أوروبا.
لم تدفع إجراءات احتواء الغضب الشعبي، رغم ما أفرزته من أكبر استدارة في ملف تعامل الاتحاد الأوروبي مع أزمة اللاجئين بالتوصل إلي اتفاق اللاجئين مع تركيا في 18 مارس/آذار، بالناخب المحلي إلى اختيار أحد ممثلي الحزبين الكبيرين في انتخابات الرئاسة.
استمر المواطن في النظر إلي الحكومة القائمة باعتبارها المتسبب الرئيس في صناعة الأزمة، ولم يكن هناك مفر أمامه سوى ترجمة احتجاجه إلى صوت في صناديق مرشح الحرية اليميني المتطرف.
هنا تتبدى أزمة ما يعرف بحكومات الائتلاف الكبير، إذ إن الحكومة النمساوية التي أدارت ملف أزمة اللجوء كانت مشكلة من قطبي يمين ويسار الوسط، الاشتراكي والشعب على التوالي. اعتاد الناخب المحلي عبر تاريخ طويل من الممارسة السياسية على وجود حدود فاصلة بين مواقف الحزبين فيما يتعلق بقضايا الهجرة، يقف يسار الوسط على الدوام مرحبًا بالانفتاح على الأجانب واستقبال اللاجئين كما حدث في عهد حكومة كرايسكي باستقبال عشرات ألوف الفارين أعقاب انتفاضة براج، بينما يتبنى يمين الوسط مواقف شديدة التحفظ تتمركز حول الاعتماد على الكفاءات المحلية ورفع تكلفة اللجوء والتحكم في الحدود الخارجية.
انتفاء التمايز التقليدي بين الخطابين وانتقال يمين الوسط، بترحيبه بسياسة الحدود المفتوحة، نظريًا إلى موقع يسار الوسط، قصر البدائل الاحتجاجية أمام الناخب المحلي على الخيار الأوحد الذي ملأ فراغ يمين الوسط، حزب الحرية.
وضعٌ لم يكن ليتحقق حال بقاء أحد الحزبين خارج الائتلاف الحكومي. هنا تنكشف إمكانية انتشار العدوى النمساوية إلى أوروبا، وبالأخص إلى الجارة ألمانيا، التي تسودها نفس المعادلة السياسية؛ حكومة ائتلاف كبير من المسيحي الديمقراطي والاشتراكي الاجتماعي، ناخب قلق من إفرازات أزمة اللجوء، يذهب في عديد المناسبات لاختيار حزب البديل اليميني الشعبوي، يعاقب ميركل بأسوأ نتيجة يحققها الحزب في تاريخه في برلين، يسمح للبديل بولوج 10 برلمانات ولائية للمرة الأولى في تاريخ ألمانيا بعد الحرب، ويفتح أمامه المجال لاحتلال موقع متقدم في الخريطة الحزبية كثالث أكبر قوة على الصعيد الفيدرالي.
حزب البديل وإن كان يستمد مشروعية خطابه السياسي من حالة السخط الشعبي في المقام الأول، إلا أنه من شأن الظواهر عبر القومية أن تضاعف الزخم وتجتذب ناخبي المنطقة الرمادية، وفي القلب من تلك الظواهر فوز مرشح اليمين المتطرف بانتخابات الرئاسة النمساوية، وترسيخ معادلة سياسية تشرعن حركات اليمين المتطرف كأحد أبرز الفواعل الجدد في المشهد الأوروبي.
الأحزاب الألمانية الكبرى تستعد في خريف العام المقبل لاستحقاق شديد الضبابية عندما يذهب الناخبون لانتخابات البونستاج، محملين بتجربة لجوء هي الأضخم في تاريخ ألمانيا من أربعينات القرن الماضي، آخر ما تحتاجه في هذا السياق، وهي تسعى لتجفيف أسباب دعم حزب البديل محليًا، أن يأتيه المدد من نظرائه في النمسا.
بروكسل بدورها تواجه أحد أعقد اختباراتها في أعقاب قرار الناخبين البريطانيين مغادرة الاتحاد الأوروبي في استفتاء جرى في يونيو/حزيران الماضي. الاستحقاق النمساوي في وجهه الآخر استفتاء على قناعة الناخبين النمساوين بتطور المشروع الأوروبي باتجاه فيدرالية سياسية ومظلة دفاعية مشتركة.
نوربرت هوفر لم يخف في مقابلة أجراها مع موقع OE24 نيته دعوة الناخبين لاستفتاء حول عضوية بلاده في الاتحاد الأوروبي، حالما استشعر تطور السلطة فوق القومية إلى درجة أكبر من المركزية، أو السماح لتركيا بالنفاذ إلى الاتحاد الأوروبي.
لا تحتاج بروكسل في الوقت الراهن، وهي تستجمع شتاتها انتظارًا لمفاوضات شاقة مع بريطانيا في مارس/آذار المقبل بعد قرار حكومة تريزا ماي تفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة، أن تتعرض وحداتها لاختراق على مستوى رئاسة الجمهورية من دعاة الانعزال القومي، ولا تحتاج قطعًا لورقة إضافية تساوم بها حركات اليمين المتطرف على حدود التكامل الأوروبي، واختزاله عند أطر المنجزات الحالية على صعيدي الوحدة المالية والنقدية، وقطعًا لا تحتاج أن يصل إلى قصر هوفبورج من يناقض الموقف الأوروبي بخصوص العقوبات الروسية، ويرى في الانفتاح على بوتين ضرورة حتمية للاتحاد الأوروبي لتجاوز أزماته السياسية والاقتصادية.
ترف الاستمرار في سياسة الهروب للأمام
مياه كثيرة جرت في النهر الأوروبي منذ المحاولة الأولى والأخيرة لإيقاف تمدد اليمين المتطرف عبر أداة العقوبات الدبلوماسية. انتشار الظاهرة اليمينية في أقطار أوروبية عدة من السويد إلى المجر حيث يحوز حزب جوبيك الأكثر راديكالية من حزب الحرية النمساوي قرابة خمسة مقاعد البرلمان الوطني، وهو الذي ضم بين قياداته نازيين جدد يشتبه بتورطهم في أعمال عنف جسدي استهدفت أقلية الروما، من وزن لازلو توكوفسكي القيادي في منظمة الحرس الوطني، الجناح شبه العسكري لجوبيك، فرض على بروكسل خيار قبول تمثيلها على الصعيدين المحلي والأوروبي، وجر أطروحاتها إلى ساحات النقاش السياسي، مع اللجوء إلى مسار موازي بمعالجة أسباب تضخم قواعدها.
لا مانع هنا من أن تقدم المؤسسات الأوروبية تنازلات لسحب البساط من تحت أقدام أحزاب اليمين المتطرف. تصحيح مسار سياسة اللجوء كان أحد تلك التنازلات، عبر حزمة من الاتفاقات والإجراءات، بدأت بالاتفاق الأوروبي-التركي.
مرورًا بتكثيف الحملة العسكرية في أعالي البحار قبالة السواحل الليبية (صوفيا) لاستهداف شبكات التهريب عبر الطريق المركزي للمتوسط، وانتهاء بالخطوات الاستباقية التي أقرتها قمة براتسلافا غير الرسمية لتجفيف باقي النقاط الساخنة، عبر دعم بلغاريا بمبلغ 190 مليون يورو لتأمين حدودها في مواجهة اللاجئين المتدفقين برًا عبر تركيا، والتحرك الألماني نحو دول المنبع في إفريقيا جنوب الصحراء لمقايضة إيقاف تدفق اللاجئين بحزم مساعدات اقتصادية.
ملف العضوية التركية يدخل السباق كثاني أبرز الملفات محل المساومة. المقاربة الأوروبية أخذت منحى أكثر تشددًا يمكن رصد أبرز محطاته فيما يلي؛
أولًا: قرار تأجيل إعفاء الأتراك من فيزا الشنجن لعدم استيفاء الشروط المقررة في خريطة الطريق، مع فتح الباب أمام جورجيا رغم الشكوك الأوروبية المتنامية في قدرتها على مكافحة نشاط الجريمة المنظمة.
ثانيًا: ارتباط قرار إعادة العمل بحكومة الإعدام أوتوماتيكيًا بالإنهاء الفوري لمحادثات العضوية.
ثالثًا: ارتفاع نبرة التصريحات المناهضة لإدارة أردوغان للمشهد السياسي أعقاب فشل المحاولة الانقلابية، تصل تلك الانتقادات في بعض الأحيان لمقارنة تركيا أردوغان بألمانيا النازية، وتمتد أحيانًا أخرى للتهديد باستحضار أدوات العقوبات الاقتصادية إلى طاولة التفاوض، انطلاقًا من شبكة اعتمادية اقتصادية، تستقبل فيها أنقرة 60% من استثماراتها من دول الاتحاد، التي تستوعب أيضًا نصف الصادرات التركية.
نظريًا تستطيع المتغيرات الأوروبية أن تجفف بصورة جزئية مصادر الدعم الانتخابي لمرشح اليمين المتطرف في الجولة الحاسمة من انتخابات الرئاسة، خصوصًا أنها تتقاطع مع مسار محلي موازي لا ينفك فيه المستشار ووزير خارجيته عن مهاجمة السياسات التركية، ذاهبين بالتشدد إلى حده الأقصى بالمطالبة بإنهاء مفاوضات العضوية، ويخضع لإدارة مغايرة لتلك التي لطالما مثلت للناخب المحلي فشل إدارة سياسة اللجوء، بعد استقالة المستشار فايمان من كافة مناصبه.
الإجراءات السابقة حتى وإن أثبتت فعالية تمكنها من تجاوز الاختبار النمساوي، إلا أنها تصطدم في المقابل بتطورات متسارعة في نمو الخطاب الشعبوي عالميًا بعد وصول ترامب للرئاسة الأميركية ومن قبله خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، من شأنها أن تكلف أوروبا خسارة عواصم وازنة في صناعة القرار الأوروبي.
ثلاثة أسابيع تفصل أوروبا عن واقع سياسي جديد حال انتخاب نوربرت هوفر رئيسًا للجمهورية النمساوية كأول رئيس يميني متطرف في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
إذا كانت هناك من دروس مستفادة من أزمتي البريكزت وانتخاب ترامب ، سيكون أولها أن لا مجال للارتكان للتكهنات في تحديد هوية الفائز. 9 نقاط كانت تضع معسكر بقاء بريطانيا في المقدمة بعد اغتيال النائبة جو كوكس، وانتهي الاستفتاء لصالح معسكر الخروج. مئات استطلاعات الرأي انحازت لفوز كلينتون، فاقتنص ترامب الرئاسة.
وثانيها أن الاحتجاج على النخب والمؤسسات الأوروبية سيستمر طالما تجاهلت بروكسل واجبات المرحلة من إعادة إطلاق الاتحاد، وإعادة تعريف حدود السلطة فوق القومية، والنظر في قواعد الموازنة المتوازنة مع ازدياد التململ في معسكر جنوب المتوسط من برامج التقشف، وتطوير سياسة لجوء مستدامة.
لتحميل المقال في صورة PDF اضغط على الصورة
- The spectre of Austria: Reappraising the rise of the Freedom Party from 1968-2000,Göran Adamson,London School of Ecnomics and Political Science,Sep.9,2009:
- Is Europe on the Right Path, Right-Wing Eztremism and Right Wing Populsim in Europe,Nora Lagenbacher,Britte Schellenberg, Friedrich Ebert Stiftung, 2011.
- Orbánismus, Gefahr für die Junge Ungarische Demokratie? , Eine Analyse des Zustandes und der Entwicklungstendenzen des politischen Systems in Ungarn,Csaba Szakatics, Unibersität Wien, Januar 2012.
- Wie rechts Norbert Hofer wirklich ist , Süddeutsche Zeitung, 20. Mai 2016.