سرير من ذهب وثلج في الصحاري: عن رفاهية العباسيين
مرَّ اللهو والترف الذي شهدته الدولة العباسية بمنعطفات عدة، ارتبطت في مجملها بالأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتي تباينت أشكالها ودرجاتها من خليفة لآخر، وفقًا لظروف عصره.
يذكر الدكتور أحمد أمين، في كتابه «ضحى الإسلام»، أن الدولة العباسية بدأت وحولها أعداء كثيرون، من أمويين وصنائعهم، ولما اختير للخلافة أبو العباس السفاح (104 – 136هـ) ثم أبو جعفر المنصور (95 – 158هـ) غضب كثيرون من البيت العباسي نفسه، وغضب شيعة علي بن أبي طالب.
لذا كان لا بد لقيام الدولة من خلفاء جادين غير لاهين، يصرفون كل وقتهم في تأسيس الدولة، واصطناع الموالين، وكبح جماح الثائرين، وسفك دم الخارجين، حتى إذا انتهى هذا الدور، ومُهِّدت الأمور، وقُتل الخارجون؛ هدأت الدولة، فكان أمام الخليفة الذي يأتي بعدُ وقت من الفراغ والهدوء يجد فيه متسعًا لشيء من اللهو والترف والنعيم.
المنصور: القضاء على المعارضين
وبحسب «أمين»، كان أبو العباس السفاح أول الخلفاء العباسيين يؤثر الجد والعلم على دروب اللهو، وكان يقول: «إنما العجب ممن يترك أن يزداد علمًا، ويختار أن يزداد جهلًا، فقال له أبو بكر الهذَلي (أحد أصحاب الحديث): ما تأويل هذا الكلام يا أمير المؤمنين؟ قال يترك مجالسة مثلك وأمثال أصحابك، ويدخل إلى امرأة أو جارية، فلا يزال يسمع سخفًا، ويروي نقصًا».
ولما تزوج أبو العباس أم سلمة حلف لها ألا يتزوج عليها ولا يتسرى، وحاول بعض المقربين إليه في خلافته أن يوسوس إليه، ويثير ملاذه وشهواته بذكر الجواري وأنواعهن فلم يفلح، وكانت حياته حياة سفك للدماء، وقضاء على المعارضين.
المنصور: لا مجال للهو
وعلى نفس النهج سار الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور مؤسس بنيان الدولة العباسية، الذي قضى على أعدائه وأعدائها من أهل بيته، ومن غيرهم، فلم يكن له في اللهو مجال.
ويروي محمد بن جرير الطبري، في كتابه «تاريخ الأمم والملوك» المعروف بـ«تاريخ الطبري»، حكاية تدلل على موقف المنصور من اللهو، فقد سمع جلبة في داره، فقال: ما هذا؟ قالوا: خادم جلس بين الجواري، وهو يضرب لهن بالطنبور، وهن يضحكن، فقام حتى أشرف عليهم فرآهم، فلما بصروا به تفرقوا، فأمر فضرب رأس الخادم بالطنبور حتى تكسر الطنبور، ثم أمر ببيع الخادم.
وهو كذلك لم يكن يحب الشراب، ولا يُشرب على مائدته شراب، ولما قدم الطبيب جبريل بن بختيشوع عليه أمر المنصور له بطعام يتغذى به، فلما وُضعت المائدة بين يديه طلب شرابًا؛ فقيل له: لا يُشرب على مائدة أمير المؤمنين. فقال: لا آكل طعامًا ليس معه شراب. فأُخبر المنصور بذلك فقال: دعوه. بحسب ما روى الطبري.
وكان المنصور أيضًا لا يسرف في عطاء لحادٍ (الذي يغني للإبل) ولا لشاعر ولا لمادح، ويؤنب أولاده إذا أسرفوا في العطاء، ولا يتعالى في ثوب يلبسه، ولا مائدة تمد إليه، إنما هو مقتصد في كل ضروب الحياة.
المهدي: جسر إلى حياة الترف واللهو
أسلم المنصور البلاد وهي متحدة لم يشذ عنها إلا الأندلس، وهي هادئة مطمئنة، والخزائن مملوءة بالمال، والعرب من سكان المملكة آخذون في الانكماش، فقد ضعف سلطانهم ونفوذهم، والموالي يطاردونهم ليحصروهم في جزيرة العرب، ويحلون محل العادات العربية عادات فارسية، وعلى الجملة طرأ دور آخر يجد فيه الخليفة والناس على أثره وقتًا للفراغ والجدة، ومصدرًا خصبًا للترف والنعيم.
وبحسب «أمين»، أخذ الناس يشعرون بعد موت المنصور بشيء من الراحة، وقد أجهدوا أنفسهم في عهده بما يتطلبه تأسيس دولة من مشقة، وتذليل صعوبات جمة، وملُّوا الإفراط في الجد والاقتصاد اللذين اتصف بهما الخليفة، وتطلعوا لحياة فيها سعة في المال، وطرف من النعيم؛ ووجدوا ذلك في الخليفة أبي عبد الله محمد المهدي (127- 169هـ)، لذا كانت السنوات العشر التي حكمها جسرًا بين حياة الجد والجفاف، والعمل في عصر المنصور، وحياة الترف والنعيم في عصر الرشيد ومن بعده.
كان المهدي سخيًّا كريمًا. يروي «أمين» أن الخليفة المنصور خلف أربعة عشر مليون دينار، وستمائة مليون درهم، ففرقها المهدي في الناس، سوى ما جُبي في أيامه، فكثرت الأموال، ومِن ثَم شاع الترف والنعيم واللهو واللعب.
ومع ميله الشديد للكرم، اجتمع في المهدي حبه للفنون الجميلة، فجرى الناس على أثره، وأنفقوا الأموال على الفنانين فرُقي الفن، وبدأ ينتشر بين طبقات الشعب، وأخذ المهدي يجلس للمغنين، ويسمع غناءهم بعد أن كان أبوه المنصور يستلذ الحداء (غناء المسافر للإبل).
كذلك كان المهدي مترفًا في ملبسه ومأكله، يُحمل إليه الثلج إلى مكة وهو يحج، وكان أول خليفة فعل ذلك.
الرشيد: سلطان الفرس والإسراف في الترف
ومع بداية عهد هارون الرشيد (149- 193هـ) انتقل الناس نقلة أخرى، كان أبرز معالمها الإسراف في الترف. بحسب «أمين»، يرجع ذلك إلى أسباب عدة، منها النشوء الطبيعي للأمة وانضباط أمورها، ما زاد ثروتها، ومكَّنها من أن تعيش عيشة ناعمة، فقد حكى ابن خلدون، في كتابه «المقدمة»، أن دخل المملكة في عهد الرشيد كان في كل سنة 7015 قنطارًا، والقنطار في حسابه عشرة آلاف دينار، فيكون مجموع ذلك سبعين مليونًا ومائة وخمسين ألف دينار، وهي ميزانية ضخمة، تدل على غنى الدولة، وتمكنها من حياة النعيم.
والسبب الثاني، هو عظم سلطان الفرس في عصر الرشيد وعلى رأسهم البرامكة، والفرس من قديم يُعرَفون بالميل إلى اللهو والسرور وسماع الأغاني، والإفراط في حب النبيذ، وكانت الديانة الزرادشتية التي كانوا يدينون بها قبل الإسلام تبيح شربه، بل تجعله من شعائرها، فلما عاد سلطانهم في الدولة العباسية، خاصة في عهد الرشيد والمأمون نشروا مع نفوذهم حياة الأكاسرة، ونقلوا جدهم من نظم سياسية ونحوها، كما نقلوا لهوهم من نبيذ ومجالس غناء وغزل، وما إلى ذلك.
ويعبر عن حياة الترف التي طرأت على المجتمع العراقي في هذه الفترة تلك الهدايا النفيسة التي اعتاد كبار رجال الدولة تقديمها إلى الخلفاء في المناسبات المختلفة. يذكر السيد عبد العزيز سالم، في كتابه «العصر العباسي الأول»، أن الرشيد تلقى هدايا كثيرة بأثمان باهظة، منها ألف غلام تركي بيد كل منهم حلتان ملونتان من أجود أنواع النسيج الفارسي، وألف جارية تركية بيد كل واحدة كأس من ذهب تحتوي على الياسمين وملؤها المسك والكافور والعنبر، ثم مائة غلام هندي ومائة جارية، فضلًا عن مائتي فرس من فارس وألف جمل وغيرها من الهدايا الثمينة.
كما تعبر حفلات الأعراس التي كان يحييها الخلفاء وأبناؤهم عن حياة الأبهة والفخامة التي تتوفر في مجتمع الخاصة، من ذلك زواج الرشيد بزبيدة. ذكر «سالم»، نقلًا عن أبي الحسن علي بن محمد الشابشتي في كتابه «الديارات»، أن الرشيد قدم لها كثيرًا من صناديق الجواهر والحلي والتيجان والأكاليل وقباب الفضة والذهب والطيب والكسوة، ولما زُف إليها بقصر الخلد جمع الناس من الآفاق ونثر عليهم الأموال، فكانت الدنانير توضع في أطباق مستديرة من الفضة، بينما كانت الدراهم تُوضع في أطباق من الذهب، وفُرق عليهم نوافج المسك وأقداح العنبر وقوارير الطيب، وبلغ ما أنفقه الرشيد من ماله الخاص 50 ألف ألف درهم.
الأمين: إغراق في الترف رغم الحرب
رغم الفتنة التي اندلعت بين الخليفة الأمين بن الرشيد (170 – 198هـ) وأخيه عبد الله المأمون (170- 218هـ)، وبسببها دارت حروب ضروس بينهما، إلا أن ذلك لم يثنِ الأول عن الاستمتاع بكل صنوف اللهو والترف، بل الإغراق فيها على حساب إدارة أمور الدولة.
ينقل «سالم» في كتابه ما رواه أبو الحسن المسعودي في كتابه «مروج الذهب ومعادن الجوهر»، من أن الأمين بعث في طلب إبراهيم بن المهدي أيام كان محاصرًا من قوات المأمون، فذهب إليه، فإذا هو جالس مع سليمان بن أبي جعفر المنصور في قبة بها فراش مبطنة بأنواع الحرير والديباج المنسوج بالذهب الأحمر وغير ذلك من أنواع الزينة، فسلم وجلس بإزاء سليمان، وكان أمام الأمين قدح بلوري فيه شراب وبين يدي سليمان مثله، فقال له الأمين: «دعوتكما لأفرح بكما، وبحديثكما»، فأقبلا يحدثانه، ثم دعا بجارية من خواص جواريه فغنت.
ويذكر «سالم» أن الأمين وجه إلى جميع البلدان في طلب المُلهين (أصحاب الملاهي)، وضمهم إليه، وأجرى عليهم الأرزاق، واحتجب عن أخويه المأمون والمؤتمن وأهل بيته واستخف بهم وبقواده، وقسم ما في بيوت الأموال وما بحضرته من الجواهر في فتيانه وجلسائه ومحدثيه، وأمر ببناء مجالس لمتنزهاته ومواضع خلواته ولهوه ولعبه، وعمل خمس حراقات في دجلة على صورة الأسد والفيل والعقاب والحية والفرس، وأنفق في عملها أموالًا ضخمة، وانغمس الأمين في اللهو واللذات حتى أغفل شئون الدولة.
المأمون: تعويض بؤس الفتن
تجرع الناس غصص البؤس أيام الفتن بين الأمين والمأمون، وخربت بغداد، وعم البؤس والشقاء، فما عادت السكينة بعد تولي المأمون مقاليد الحكم عام 198هـ حتى شعروا أنهم في حاجة إلى أن يعوضوا ما فقدوا، فلهوا وأفرطوا.
وبحسب «أمين» في كتابه المذكور آنفًا، لم تكن شهوات المأمون وملاهيه كشهوات الأمين وملاهيه، فلهو الأمين كان لهو شاب غِر رأى سلطانًا ومالًا، وليس له عقل ناضج، فأنفق كل وقته في إرواء شهوته، أما المأمون فرجل حنكته التجارب، وعلمه ما قاسى من الأهوال في الحروب الحزم والبصر بالأمور، ثم كان له ملاذ عقلية تشغل وقته، إذ أحب الكتب والفلسفة، والجدلَ في المسائل الدينية والفقهية، وحوله العلماء من كل نوع يباحثهم ويجادلهم.
وهو مع ذلك، كان المأمون يلهو لهوًا خفيفًا فيشرب النبيذ، ويقيم بعد قدومه بغداد عشرين شهرًا لا يسمع الأغاني ثم يسمع، وكان يزين مجلسه ويغنيه المغني إسحاق الموصلي، كما كان أبوه إبراهيم الموصلي يزين مجلس أبيه الرشيد، فقربه المأمون وأعلى شأنه، وكذلك قرب إليه عمه إبراهيم بن المهدي وكان مبدعًا في غنائه.
زيادة رقعة الدولة وخليط إثني ووفرة مالية
والواضح أن ثمة عوامل عامة ساهمت في تزايد إقبال الخاصة والعامة على صنوف اللهو والترف في عهد الخلفاء الخمسة الذين تعاقبوا على الحكم بعد أبي جعفر المنصور، أي من خلافة المهدي إلى وفاة المأمون، من عام 159هـ حتى 218هـ. يذكر خير الله سعيد، في كتابه «أوراق بغدادية من العصر العباسي»، أن بغداد بلغت مجدها الزاهي خلال هذه الفترة، رغم أن الحرب الأهلية بين الأمين والمأمون قد أثرت سلبًا في بعض ازدهارها، إلا أن الأفق الحضاري لها كان هو الطاغي.
وخلال هذه الفترة، كان مجتمع بغداد العباسي خليطًا إثنيًّا من مختلف الأعراق والغلبة فيه للعرب، وهذا الازدياد والتزاحم السكاني للوافدين على بغداد كان العامل الاقتصادي يستوعبه، حيث كانت التجارة والزراعة في توسع مستمر، الأمر الذي رفع بالنتيجة مستوى المعيشة في المدن، كما ظهر التباين الاجتماعي واضحًا خلال مداخيل الأفراد.
ومع هذا التطور كانت رقعة الخلافة العباسية آخذة بالتطور هي الأخرى نتيجة الحروب وشكلت مصدرًا مهمًّا للرقيق كتجارة رابحة، ومن هذا الرقيق كان يُتَّخذ الإماء والجواري، والسراري والعبيد والغلمان، كما أن حالة اليسر عند الطبقة الحاكمة، والفئات المرتبطة بها، كانت آخذة في التطور المستمر، وكانت نزعة شراء الرقيق قد تفشت بين أوساط هذه الطبقة.
وبحسب «سعيد»، أصبحت ظاهرة انتشار الجواري في العصر العباسي أمر له مدلولالته الاقتصادية والاجتماعية المتطورة في ذلك الوقت، لذلك عمدت صفوة المجتمع البغدادي إلى اختيار أدق المواصفات في جواريهم، ومالوا نحو الأجود، وإن ارتفع سعره، أو لمختلف الأغراض، فمن أراد جارية للذة يأخذ بربرية، ومن أرادها خازنة وحافظة فرومية، ومن أرادها للولد ففارسية، ومن أرادها للرضاع فزنجية، ومن أرادها للغناء فمكية.
وشكلت الجواري، لا سيما المغنيات منهن مثل «دنانير» و«متيم» و«عريب»، ظاهرة فريدة في الغناء، وأصبحت منازلهن مأوًى لرواد السماع من الأدباء والفصحاء ورجالات السياسة والأدب، ناهيك عن كثرتهن في قصر الخلافة.
وتزامن مع كل ذلك جانب حسي مهم، هو إقبال الناس على الملذات الحسية، ونهوض العمران، ما كان يدعم تطور مناحي الحياة في كل ركن من أركانها، فانتشرت مجالس اللهو والشراب، وأصبحت إحدى الظواهر المميزة لذلك العصر، وهي الحالة التي توجب وجود الندماء والمغنين من الجنسين، وممن تتوافر فيهم صفات الظرف والظرافة، بحسب «سعيد».
ونظرًا لكون الغناء أصبح من علامات الرقي والازدهار، فقد احتضنته الخلافة العباسية ورعته لأنه صار من علامات أبهة البلاط، حتى إن الرشيد اهتم بالمغنين وجعلهم مراتب وطبقات، فكان إبراهيم الموصلي وإسماعيل أبو القاسم وابن جامع وزلزل «منصور الضارب» في الطبقة الأولى، وفي الطبقة الثانية سليم بن سلام، وعمرو الغزال، وما أشبههما، والطبقة الثالثة أصحاب المعازف والونج والطنابير، وعلى قدر ذلك كانت تخرج جوائزهم وصلاتهم.
كما شاعت مجالس الغناء بين عامة الناس، في البيوت والحانات والديارات وبعض الخانات، وبعضها كان يعقد في الساحات العامة، وقسم يُعقد على قارعات الطريق. وكان الغالب على هذه المجالس الرجال من حيث الحضور وتعاطي الغناء، وأحيانًا تحضر هذه المجالس القينة من المغنيات، بصحبة سيدها، أو يدعو سيدها بعض أصحابه لسماع غنائها.