أب يقتل زوجته وطفلتيه لمروره بضائقة مالية… زوج يقتل زوجته في شبرا بسبب أزمة مالية… سائق يقتل زوجته بسبب ملابس العيد… وآخر يقتل زوجته أمام أبنائها الخمسة بسبب كعك العيد… عجوز يقطّع زوجته بعد 25 عامًا من الزواج بسبب «فلوس الجيم» لأحد الأبناء… شاب يقتل والده للحصول على الميراث في الإسماعيلية… زوجة تقتل زوجها بسبب «مصروف البيت».
انتحار عاطل من الدور العاشر لمروره بضائقة مالية… انتحار عامل في الفيوم للسبب ذاته… انتحار بائع متجول لعجزه عن تحمل تكاليف الحياة… انتحار نقاش بالصف لضيق ذات اليد… انتحار ربة منزل بالزاوية الحمرا بسبب ضغوط اقتصادية… عامل يشعل النار في نفسه لعدم قدرته على توفير نفقات تزويج ابنته.

هذه الجرائم ليست حصيلة سنوات، وإنما 6 أشهر فقط؛ من بداية 2018 حتى نهاية يونيو/حزيران، ربما الأمر صادم بعض الشيء لكن هذا حقًا ما آل إليه الحال في مصر، فبعد زيادة مجحفة للأسعار والفواتير لمختلف السلع والخدمات، بات المواطن المصري عاجزًا عن تحمل تكاليف الحياة لأسرته وحتى لنفسه منفردًا.

وخلال السنوات القليلة الماضية تعرض المجتمع المصري لعدة هزات اقتصادية متلاحقة أفقدت الكثير من المواطنين القدرة على التكيف معها؛ بداية من تحرير سعر صرف الجنيه المصري في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني 2016 وانخفاض قيمته بشكل كبير أمام الدولار، ما أدى بالتبعية لزيادة معدلات التضخم وزيادة حجم الدين الخارجي، مع ارتفاع جنوني ومتكرر لأسعار السلع والخدمات، خاصة فواتير الكهرباء والمياه وأسعار الوقود، تتحمله على الأرجح الطبقات الدنيا فقط، في ظل ثبات أو ارتفاع غير مناسب للرواتب والأجور.

وكان من الطبيعي أن تؤدي كل هذه الأزمات المتتابعة لتفاقم معدلات الجريمة بشكل عام والجرائم الأسرية بشكل خاص، والتي تحتل فيها مصر المرتبة الثالثة عربيًا، والـ 24 عالميًا، في آخر تصنيف لقاعدة البيانات العالمية «نامبيو»، الخاص بتصنيف الدول حسب معدلات الجريمة بها، وذلك في ظل إصرار الداخلية المصرية على عدم الكشف عن إحصاءات التقرير السنوي لقطاع الأمن العام منذ نهاية التسعينات.

ولعل ما يبرهن على ذلك أن تقرير ملتقى الحوار للحرية وحقوق الإنسان كشف عام 2006 أن هناك 2.73 جريمة ترتكب بسبب الفقر يوميًا، أبرزها جرائم السرقة بنسبة 59.67%، يليها القتل بنسبة 31.25%، ثم الشروع في القتل بنسبة 4.43%، والانتحار بنسبة 2.62%.


الاعتياد يدق ناقوس الخطر

المرعب في الأمر أننا بدأنا نعتاد قراءة مثل هذه الأخبار، مع أننا ركزنا في النماذج المذكورة في المقدمة على «جرائم القتل العائلي» التي حدثت بسبب الضغوط الاقتصادية والأزمات المالية فقط، والمنشورة بالطبع في الصحف والمواقع المصرية، دون إشارة لجرائم أخرى تحدث داخل نطاق الأسرة كالتعذيب والاغتصاب وزنا المحارم والسرقة والشروع في القتل.

وتجدر الإشارة إلى تحول آخر خطير؛ وهو أن العنف الأسري، قديمًا، كان يحدث تحت غطاء «تربوي»؛ أي تأديب الزوج لزوجته، أو أحد الأبوين لأبنائه، لكنه بات أكثر تطرفًا وتحول لجريمة كاملة الأركان يغلفها الحقد والانتقام، تصل في كثير من الأحيان للقتل أو تشذ للعنف الجنسي واغتصاب المحارم والاعتداء الجنسي عليهم.

وجرائم القتل العائلي هي أحد أشكال العنف العائلي التي يقتل فيها فرد داخل نطاق العائلة فردًا آخر ينتمي لها، وباتت خطرًا يهدد المجتمع المصري خلال السنوات القليلة الماضية، حيث كشفت دراسة حديثة أن 63% من الجرائم أصبحت ترتكب داخل نطاق الأسرة.

كما أوضحت دراسة بعنوان «الدوافع الاجتماعية والاقتصادية لجرائم القتل في الأسرة المصرية»، للدكتورة حنان سالم، أستاذ علم الاجتماع الجنائي جامعة عين شمس، أن جرائم القتل العائلي تمثل من ربع إلى ثلث إجمالي جرائم القتل، وهو معدل ضخم ومخيف.

وتحدث جرائم القتل العائلي في مصر لأسباب عديدة، أبرزها جرائم الشرف، والعجز الجنسي للأزواج، وانخفاض الوازع الديني، وانخفاض المستوى التعليمي أو الجهل، وخلافات الميراث، والضغوط النفسية والمشكلات الاجتماعية، واستجابة بعض الأشخاص للأزمات بطريقة مُدمِرة. لكن يبقى ثالوث الفقر والإدمان والبطالة الأبرز في الآونة الأخيرة.

ولعبت العوامل الاقتصادية دورًا مؤثرًا في هذا التحول، وخاصة عوامل مثل؛ الفقر وبطالة رب الأسرة وانخفاض مستوى الدخل وارتفاع الأسعار مقابل ثبات الدخول، وكذلك الرغبة في الحصول على المال أو الميراث.

كما تهدد الأوضاع الاقتصادية المزرية بمزيد من التفكك الأسري، فبسبب عدم كفاية الدخل يضطر الكثير من الأزواج للترحال للبحث عن عمل بالخارج، أو هجر أسرته والتخلي عن مسئولياته تجاهها، وبالتالي ترتفع نسب الطلاق والمرأة المعيلة، في الوقت الذي تزداد فيه جرائم التحرش والاغتصاب لعجز الشباب عن تدبير تكاليف الزواج، مع زيادة تشغيل الأطفال وتسريبهم من التعليم للمساعدة في موارد الأسرة، ولجوء البعض للإدمان كوسيلة للتغيب عن الواقع المؤلم، وكل هذه العوامل تصب باتجاه ارتكاب المزيد من الجرائم الأسرية والمجتمعية وانهيار الأمن داخل المجتمع.

وتكمن خطورة انتشار العنف والجرائم الأسرية إلى أن الأجواء الأسرية المشحونة بالتوتر والصراع تكون بيئة مُهيَئة للإصابة بالأمراض العقلية والنفسية والسلوكية للأبناء؛ أي أنها تُخرِج للمجتمع أجيالاً متأهبة لارتكاب مزيد من العنف والجريمة والانحراف دون شك.


فتاة مترو مارجرجس: النموذج المثالي

تناولت العديد من الدراسات تأثير الظروف الاقتصادية في السلوك الإجرامي، وأبرزها النظرية الاقتصادية لتفسير السلوك الإجرامي، التي تبناها العالم الهولندي «ولهلم بونجر»، وهي تذهب للتأكيد على أن المجتمع الرأسمالي، القائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج -كما هو الحال في مصر- به مثالب عديدة تتمثل في الاستغلال والطبقية أو التمييز بين المواطنين على أساس الغنى أو الفقر، حيث يتم استغلال الأطفال وتشغيل النساء، ناهيك عن انتشار البطالة في الطبقات الفقيرة.

كما تؤثر كثافة السكان، والظروف الصحية السيئة، وانخفاض مستوى الدخل، ورداءة الحالة المعيشية، وانعدام تكافؤ الفرص-بفعل الفساد والمحسوبية- والظروف والأزمات الاقتصادية المتتابعة، جميعًا، لتؤدي للانحلال الأخلاقي، الذي يقود حتمًا إلى الانحراف والجريمة خاصة داخل الأسرة، وهي العوامل التي تتوفر جميعها في المجتمع المصري حاليًا.

ورغم أن الدراسات تؤكد أن إيذاء الزوج لزوجته يحدث على جميع المستويات الاقتصادية، إلا أنه أكثر شيوعًا في الطبقات الدنيا؛ فكلما انخفض الدخل ارتفع إيذاء الزوجة، وإن كان الخبراء يصفون العلاقة بين الدخل والعنف الأسري بـ «غير المباشرة» لتأثير عوامل أخرى، منها التوتر وشدة الضغوط داخل الأسر.

ولما كان العنف الأسري استجابة للضغوط والإحباطات، وبما أن الحرمان المادي أشد الأنواع قسوة –بحسب علم الاجتماع- يصبح من المنطقي تخيل أن الزوج أو رب الأسرة العاجز عن مواجهة أعباء أسرته وسد احتياجاتها يكون أكثر عنفًا تجاه أفراد أسرته للتنفيس عن غضبه.

وتؤكد دراسة أخرى على أن المكانة الاقتصادية المنخفضة للأسرة تؤثر وبشكل مباشر في ارتكاب بعض أفرادها للجريمة أو السلوك المنحرف، خاصة عندما لا يستطيع أفرادها إشباع الحاجات الأساسية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن بالطرق المشروعة؛ فيلجأون لطرق غير مشروعة للتكسب كالقتل والسرقة والسطو والبغاء أي العلاقات المحرمة.

وتكشف دراسة الدكتورة «حنان سالم» أن السياسات الاقتصادية الحديثة من بين أبرز أسباب تضاعف معدلات القتل العائلي، لما أحدثته هذه السياسات من مشكلات اجتماعية واقتصادية خطيرة أبرزها البطالة وانخفاض الدخول خاصة مع ارتفاع الأسعار. إذ أدت هذه التحولات لتأثير سلبي واسع المدى على النسق الثقافي والقيمي داخل الأسر؛ فأصبحت السلبية والأنانية واللامبالاة والفردية هي القيم المنتشرة بين أفراد الأسرة الواحدة بدلاً عن التعاون والمشاركة والولاء والانتماء التي كانت سائدة في الماضي.

ما يعني أن كل فرد أصبح يبحث عن مصلحته الخاصة فقط، وينشغل بهمومه وحده، ولا يجد حرجًا من ارتكاب أي فعل يجني منه المكاسب والأموال، حتى إذا كان فيه ضرر لبقية أفراد عائلته أو كان مخالفًا لقيم المجتمع.

ويعد حادث انتحار مراهقة شابة أسفل عجلات قطار المترو في محطة «مارجرجس»، نموذجًا مثاليًا لهذه الآراء والنظريات التي تربط الأزمات الاقتصادية بالسلوك الإجرامي.

فالأب عامل يومية، أصبح، مع الزيادات الأخيرة لأسعار جميع المنتجات وفواتير الخدمات، عاجزًا عن تلبية متطلبات الأسرة، والأشقاء الذكور عاطلون ويمارسون العنف والضرب والسباب ضد الشقيقة الصغرى، التي تعيش ظروفًا نفسية حرجة للغاية عقب وفاة الأم في حادث سير، حتى أنها ترفض عروض الزواج المتكررة.

تفاصيل موجعة اجتمعت لتدفع هذه الفتاة لقتل نفسها، ظنًا بأن ذاك هو السبيل الوحيد للنجاة من الضغوط المتكالبة عليها، بتحمل مسئولية أسرة كاملة وهي في هذا السن، مع ضيق ذات اليد، بجانب تحمل العنف الواقع عليها من أشقائها، وهو السيناريو الذي نتوقع منطقيًا أن يتكرر مع العديد والعديد من الأسر المصرية ذات الموارد المحدودة، في ظل ارتفاع أسعار السلع والخدمات المختلفة.