بيبي فيو: كيف تبارز الموت بأطراف مفقودة؟
قبل عام بالتمام والكمال، كان العملاقان «أليساندرو ديل بيرو» و«كلارنس سيدورف» يقفان على منصة حفل توزيع جائزة لوريوس الرياضية، وهي واحدة من أرفع الجوائز وأكثرها قيمة في حقل الرياضة العالمية، لم يكن الثنائي بصدد الحصول على جائزة جديدة تضاف لسجلهما الكبير، ولكنهما كانا مقدمي الحفل الذي شهد حضور نخبة لامعة من نجوم الرياضة كـ«يوسين بولت، مايكل فيليبس، وسيمون بايلز». الثنائي لم يحضر لتكريم أي من تلك الأسماء السابق ذكرها، بل أتيا لتكريم فتاة لم تبلغ من العمر حينها عشرين عامًا!
ارتسمت على وجه «سيدورف» ابتسامة كبيرة عندما نادى «أليساندرو» باسم «بياتريتشي فيو»، هذا الاسم، الذي لا يعرفه أغلبية من لا يهتمون برياضة الشيش أو مبارزة السلاح. استقبله حضور الحفل بتصفيق حاد، حتى أن كثيرًا من الأبطال والرياضيين همَّ بالوقوف خصيصًا لتحية «فيو» التي تصعد سُلم المنصة ويستقبلها رمزان من أهم رموز الكرة الإيطالية.
الحقيقة أن «فيو» استحقت كل هذا الاحتفاء. فبالرغم من صغر سنها، فإنها قد مرت بأحد أصعب التجارب وأكثرها قسوة التي يمكن أن يمر بها الرياضي في مسيرته، بل الإنسان في حياته بشكل عام، والمدهش أنها تمكنت من اجتياز تلك التجربة بكل ما فيها من معوقات بعزيمة فريدة وإصرار يقل أن يحظى به من في عمرها الصغير، لتعطي «بياتريتشي» نموذجًا جديرًا بالتقدير والتأمل، وتتحول هي لأسطورة رياضية تقف إلى جانب رياضيين أفنى بعضهم سنوات طويلة من حياتهم يصل عددها إلى عمر «فيو» كله فقط للوقوف على منصة حفل لوريوس!
ندوب على وجه بريء
كانت «بياتريتشي»، أو «بيبي» كما أطلق عليها أصدقاؤها، طفلة نشيطة.أحبت لعبة الشيش منذ بلوغها الخامسة. فكانت تقضي أسبوعها في المدرسة في مدينة البندقية بالمقاطعة الإيطالية فينيسيا وتنتظر عطلة الأسبوع للانتظام بالتدريبات، يروي المدربون الذين أشرفوا عليها مبكرًا عن موهبة الصغيرة وقدرتها على تعلم مهارات اللعبة سريعًا. وكأي لاعبة شيش فإن «بياتريتشي» كانت بالتأكيد تنتظر لحظة تمثيل بلدها بإحدى الدورات الأوليمبية.
كان كل شيء يسير على ما يرام حتى أكملت عامها الحادي عشر. فخلال سنة 2008 تفاجأ والدا «فيو» بظهور ندوب كبيرة على وجهها، في البداية ظنا أن الأمر لا يتجاوز الإصابة بإنفلونزا يتعرض لها كل من في سنها، لكن مع استمرار الندوب التي باتت تحتل مساحة أكبر في وجه «بياتريتشي» توجه الوالدان للطبيب للسؤال عن حالة ابنتهما.
تقول «فيو» إن الطبيب كان متفائلًا في أول الأمر، فحاول تهدئة أبويها، وأكد لهما أنها لن تصاب بأي مرض خطير. لكن والدة «بياتريتشي» لم تطمئن أبدًا، كانت تشعر بسحابة الخطر وهي تطوف حول ابنتها، فتوقفت الأم ذات يوم بإحدى جلسات الكشف الطبي لتسأل الطبيب: «هل يمكن أن تكون بياتريتشي مصابة بمرض السحايا الحاد؟» كانت تلك هي اللحظة الفاصلة بحياة «فيو»، فقد سمعت الآن لتوها اسم المرض الذي سيصاحبها على مدى سنوات قادمة!
بالطبع صُعِق الطبيب من سؤال الأم، فكان له أن يجيب بسؤال آخر :« وباء السحايا الحاد؟ لماذا تظنين أنها مصابة به؟»، لتجيب الأم في النهاية بأن أحد الأطفال من أبناء جيرانهم أصيب بهذا المرض، ولعل العدوى انتقلت لـ«بياتريتشي» في وقت سابق، كانت شكوك الأم خطيرة للغاية، وذلك لأن التهاب السحايا الحاد ليس إلا مرضًا مميتًا لا ينجو منه بحسب الإحصائيات إلا 4% من المصابين به.
بعد مرور «فيو» علي بعض التحاليل والفحوصات الإضافية، تأكدت شكوك الأم، وصارت «بيبي» تواجه مرضًا شرسًا في معركة مبكرة وغير متكافئة على الإطلاق، معركة لا يساوي فيها الفوز والخسارة مجرد الحصول على ميدالية أوليمبية!
الموت أو العجز
في مثل تلك الظروف الحرجة، يقدم الطبيب على مكاشفة المريض وأهله بتفاصيل الحالة، ويضعه بين كل الخيارات المتاحة أمامه، ليبدأ على أساسها مرحلة العلاج. وهذا ما فعله بالضبط طبيب «بياتريتشي»، لقد وضعها بين خيارين لا ثالث لهما، الأول هو الموت والاستسلام للمرض حتى يتغول وينتشر في جسدها، والثاني هو الدخول في مرحلة علاج قاسية ستنتج لا محالة بتر بعض أو كل أطراف الصغيرة لعرقلة انتشار المرض.
«بياتريتشي» تحب الحياة، وتكره الاستسلام. في أدبيات لعبة مبارزة السلاح التي انتقلت إلينا عبر قدماء اليونانيين يُعد المبارز الذي يتقاعس عن النزال، أو يرفض ملاقاة الخصم، فاقدًا لشرفه وغير جدير بأن يتحلي بصفات المبارز الشجاع. الصغيرة «فيو» لم ترفض المعركة، بل لم تستنزف كثيرًا من الوقت حتى أخبرت طبيبها برغبتها في إجراء عمليات البتر والعودة من جديد لحياتها الطبيعية.
ساعدها في ذلك القرار الصعب المساندة الهائلة التي حظيت بها من الوالدين، بالإضافة لمدربيها الذين أكدوا لها أنها لن تفقد فرصة ممارسة هوايتها مهما كانت الظروف، فصحيح أنها لن تتمكن من المشاركة الأوليمبية أبدًا، لكن سيظل أمامها فرصة تمثيل إيطاليا خلال الدورات الباراليمبية وتحقيق مجد رياضي إذا حافظت فقط على إرادتها وشغفها بالحياة والرياضة.
ما يعز على الفهم هو قدرة تلك الفتاة الصغيرة على التعاطي مع صدمة صحية بتلك القسوة بهذا القدر من الشجاعة، الظروف كانت تخيرها بين الموت أو العجز، لكنها اختارت أن تبارز الموت، ثم تتحايل على العجز!
100 يوم
كانت «بيبي» مصابة بالدرجة C من مرض السحايا الحاد، وكان علاجها يستلزم بتر قدميها حتى الركبة، ويديها حتى الذراع، ثم إجراء عمليات زراعة الجلد حول الركبة والذراع، والخضوع بعد ذلك لعناية طبية فائقة لعدة أشهر.
أجرت بالفعل «فيو» كل تلك العمليات بنجاح، بل إن مقاومة جسدها للمرض واستجابته للعلاج كان له عامل كبير في سرعة التعافي كما نشرت بعض التقارير، ثم خضعت «بياتريتشي» قرابة أربعة الأشهر للعناية الطبية، حيث تعلمت كيفية استخدام الأذرع والأقدام الصناعية، وبدأت في القيام ببعض الأنشطة الحركية كالمشي، والجلوس، وصعود الدرج.
خلال تلك الأيام المائة التي قضتها «بيبي» داخل أركان المستشفى، كان المدربان «أليس إيسبوسيتو، وفيدريكا بارتون» يحرصان على زيارتها بانتظام، وقد أكدا لها أنها ستعود لممارسة الشيش فقط حين تتمكن من استعمال الأطراف الصناعية بدرجة كبيرة، وأنهما ينتظرانها خروجها من المستشفى للعودة من جديد للتدريبات!
مثَّل ذلك حافزًا استثنائيًا لـ«فيو»، فقد شعرت أن من حولها يؤمنون بالفعل بقدرتها على العودة ومطاردة حلمها من جديد، تأكدت من ذلك حين فاجأها البطل الباراليمبي الإيطالي «أليساندرو زاناردي» بزيارة لغرفتها بالمستشفى بعد طلب من والدها.تقول «بيبي» إن كلمات «زاناردي» أشعلت حماسها وتركت أثرًا عميقًا في نفسها، فقد أخبرها «أليساندرو» أنه متأكد أنها ستلحق به قريبًا في البعثة الباراليمبية لتمثيل إيطاليا في الدورات القادمة.
خرجت «فيو» أخيرًا من المستشفى، ثم انتظمت في الدراسة، وعادت من جديد لساحة تدريب الشيش، حيث انتظرها هناك «أليس، وفيدريكا» بكرسي متحرك ستبارز «بياتريتشي» من خلاله بعد أن تمكنت من استعمال الأطراف الصناعية جيدًا، ومن هنا تولد تحدٍ جديد يواجه «بيبي»، فتقول إن المبارزة على الكرسي المتحرك تختلف تمامًا عن المبارزة وقوفًا، لذلك كان عليها التدريب لساعات طويلة على استخدامه تحت إشراف مدربيها.
خاضت «بياتريتشي» مبارزتها الأولى على الكرسي المتحرك في مايو/أيار 2010، لتكون تلك هي جولتها الأولى من مسيرة ستلهم الملايين حول العالم!
في ريو
توالي ظهور «فيو» على الكرسي بمسابقات مبارزة السلاح، كانت أول متسابقة تظهر بأذرع وأقدام صناعية على حد سواء، وهو ما استدعى دهشة وإعجاب الجمهور، كما تأمل تفاصيل قصة صعودها من حافة الموت وحتى تحقيقها لانتصارات متتالية بمهارة وتركيز شديدين.
«بيبي فيو» في دورة الألعاب الأوروبية في مدينة ستراسبورج الفرنسية عام 2014.
في عام 2012 فازت «بيبي» بذهبية بطولة إيطاليا المحلية، وأضافت لها في نفس العام فضية بطولة العالم تحت 17 عامًا، لكنها عادت عام 2015 لتحصل على بطولة العالم، ثم تتأهل لدورة الألعاب الباراليمبية في العاصمة البرازيلية ريو عام 2016؛ اللحظة التي تحملت من أجلها آلامًا وصعوبات لا تُوصف.
تجربة «فيو» القاسية مع المرض أكسبتها ثقة كبيرة بالنفس. هذه الثقة التي يمكن لك أن تلمسها أثناء حديثها أمام الجمهور، فهي عادة لا تميل للحديث عن معاناتها مع المرض، بل تحب أن تتكلم عن تغلبها عليه، وعن مشاريعها المستقبلية، سواء في الحقل الرياضي أو الخيري.
لذلك فقد دخلت «بياتريتشي» المنافسات بالباراليمبية بتلك الثقة وذلك الإصرار، وهو ما دفعها للوصول لنهائي بطولة الفردي النسائي لتضمن بذلك ميدالية، لكنها في النهائي أبدت رغبة أكبر في الحصول على الذهب، فكان لها أن تكتسح نظيرتها الصينية بخمس عشرة نقطة مقابل سبع فقط!
بعد حصولها على كل نقطة، كانت تهم «فيو» بالصراخ احتفالًا. وبعد حسم المباراة لصالحها انفجرت في البكاء والهتاف والضحك وعناق كل الحضور، كانت لحظة اختلطت فيها كل المشاعر الإنسانية بداخلها، ولابد أن شريطًا طويلًا من الذكريات التي تراكمت عبر سنوات طويلة مر أمامها في تلك الثواني التي أُعلِن فيها عن انتصارها، ليس في المباراة النهائية وحسب، ولكن في معركتها مع التهاب السحايا الحاد، ومع الإعاقة، ومع كل تحدٍ مرت به.
بعد تتويجها بالميدالية الذهبية، كان لـ«بيبي» أن تتقدم البعثة الإيطالية الباراليمبية في حفل ختام ريو 2016 وهي تحمل علم إيطاليا؛ تحققت نبوءة «أليساندرو زاناردي» ونالت ابنة الـ19 عامًا شرفًا ومجدًا لا يضاهى.
مع بوفون
بالطبع استقبل الجمهور الإيطالي بطلته الأسطورية «بيبي فيو» باحتفاء هائل، فحلت الأخيرة على عدد كبير من المؤتمرات والمهرجانات وألقت العديد من الكلمات عن رحلتها الفريدة.
من بين هؤلاء الذين تابعوا مسيرة «فيو» وأبدوا احترامًا كبيرًا لما قدمته، كان الحارس التاريخي لمرمى منتخب إيطاليا «جيجي بوفون» ورفيقه في قيادة الأتزوري والبيانكونيري «كلاوديو ماركيزيو»، أحب الثنائي تقديم هدية بسيطة لـ«فيو»، فوجها لها دعوة حضور أي من مباريات اليوفنتوس خلال موسم 2016-2017 بالدوري.
لبت بالفعل «بيبي» دعوة «بوفون» فظهرت خلال مواجهة فريقه أمام نادي أودينيزي. انتظر «بوفون» نهاية المباراة للبحث عن الصغيرة في مدرجات جماهير اليوفي، لكنه فوجئ بها تنتظره أمام مدرجات الخصم، وذلك لأن «فيو» كانت مشجعة مخلصة لنادي مدينتها أودينيزي بعكس ما كان يتوقع «جيجي» بأنها ستحضر في جانبه.
التقط للثنائي صورة مشتركة، كان «بوفون» غارقًا في الضحك وهو يعاتب ضيفته على مساندتها للخصم، وكانت «بيبي» منسجمة تمامًا في الأجواء وكأنها أمام صديق تعرفه منذ زمن؛ صورة الثنائي حملت قيمًا رياضية رائعة كالاحترام والتقدير المتبادل وقيمة ما تصنعه إرادة وتصميم النفس البشرية.