الحسناء والمسخ — قصة قصيرة
[1]
كانت تقف هناك حيث يضمها الخجل، جميلة للغاية، آسرة الطلة، مليحة القسمات. يختزل وجهها المخضب بالسُّمْرَةِ حُسن الكون بأسره، ويكاد يدفعه الغنج في صوتها إلى الجنون.
لم تكن وحدها، بل كان يحيط بها عدد هائل من المعجبين يتنافسون على سلب اهتمامها بكلمات غزلية مبتذلة، ووحده هو كان يرى في أعين ذلك القطيع من الذئاب البشرية شهوة افتراسها. ها هو هذا المسخ يتحيَّن الفرصة المناسبة ليُكشِّر عن أنيابه، وها هو آخر يجس النبض في كلماتها ونظراتها البريئة، ويؤوِّل كل حركة وسكنة ألف تأويل.
اشتد غضبه وحنقه من المشهد الدنيء الذي كان يجري على مرأى ومسمع حشد من الأجساد الثملة، والتي كانت تتمايل ذات يمين وذات شمال حسب إيقاع الموسيقى الصاخبة، أراد أن يجذبها من ذراعها ويُخرِجها من المكان الدَّنِسِ الذي كانا فيه، أو أن يضمها إلى صدره حتى تغيب عن مرأى تلك الأعين المتصيدة.
لكن أَنَّى له أن يجد الجسارة الكافية ليقدم على فعل كهذا. لو أنه كان يملك من الشجاعة شيئًا لما خسر كل ما يملك في الحياة.
[2]
كان قبل سنوات قليلة أسعد رجل في العالم، كان مُبتهجًا ومنشرح الأسارير على الدوام، وكان ثملًا بالنجاح، يكاد يُحلِّق في أعالي السماء، وذلك كلما أثنى أحد نُقَّاد الأدب على أشعاره التي تصدرت واجهة أشهر المجلات الثقافية في الوطن العربي.
لا يزال يذكر حين وقف يحتضن شهادة البكالوريا وسط زحام شديد وحركة سير كانت في أوجها ذات خميس. تلك «الورقة» التي بدأت معها قصة طويلة من اللاحياة والعدم، كانت قبل سنوات عديدة حلمه الأكبر، كان يستيقظ كل يوم على أمل أن يحصل عليها ليشق بها مساره في الحياة. وحصل على شهادة البكالوريا ليلتحق بكلية الآداب والعلوم الإنسانية حيث اختار دراسة التاريخ والجغرافيا. أفنى سنوات شبابه لأجل الحصول على شهادة البكالوريوس، وهو يُمنِّي نفسه بالوظيفة العمومية.
ضاع عمره بحثًا عن الوظيفة، ولم يثمر البحث عن شيء سوى خيبة أمل ويأس مزمن. كان وهو يُصْفَعُ كل يوم بحقيقة العيش وسط الذئاب يفيق من سباته ويستيقظ من أحلام يقظته شيئًا فشيئًا؛ إنه يعيش في غابة لها قوانينها الخاصة وهو لا يملك القدرة على مجاراة وحوش الغابة في خداعهم ودناءة ما يقومونه به تحت ذريعة «الغاية تبرر الوسيلة».
لسنوات عديدة عاش في الكنف الشائك لوطن كان أشبه بالقنبلة الموقوتة، وما إن أصبح مُدركًا لحجم مأساته، حتى تسنَّت له فرصة ترك البلد والرحيل عنه نهائيًّا.
انتقل من فاس إلى بيروت ليعمل في دار نشر شهيرة، وكان يلهث وهو يجري وراء حلم كل كاتب عربي. وقف في طوابير طويلة من الهواة والحالمين وهو يُمنِّي نفسه بالنجاح الباهظ النفيس بعد عمرٍ بأكمله من الانكسار. وجاء ذلك اليوم المُنتظر الذي سيغير مصيره إلى الأبد، وقف ليلقي شعرًا من أفضل أشعاره أمام جمهور متميز من الناقدين والأدباء والصحفيين، وعاد إلى البيت متيقنًا أنه نال حصة الأسد في تلك الأمسية الشعرية.
وفي غضون أقل من شهر تمكَّن من نشر أشعاره في أكثر المجلات تميزًا على الصعيد العربي. أعماه النجاح عن كل شيء سوى نشوة الظَّفَر، وانغمس في حياة النجاح والشهرة حتى اغترب عن نفسه وأسرته وبات كالأجنبي المندس في وطنه وبين أصدقائه، حتى انعكاسه في المرآة قد وجد صعوبة كبيرة في التعرف على الشخص الذي أصبحه.
عاينَ معارفه تحوله في وُجوم وإطراق صاخب، وحدها أمه أسدت له معروف النصيحة فصدَّها بفظاظة شرسة. رأى في نصيحتها تهجمًا على نجاحه وانتقادًا لاذعًا لشخصه. قاطعها لأيام وأسابيع وأشهر، حتى جاءته مُصَالِحةً، في كفن!
[3]
أدرك وهو يقف وحيدًا، تُمزِّقه الحيرة والتردد، أنه لم يكن يختلف كثيرًا عن الشبان الذين كانوا يضايقون فتاته. كان مسخًا مثلهم، مُشوهًا من الداخل ومتورطًا في جريمة الخذلان. تعتمل في نفسه أحاسيس مختلفة، ويشهد كيانه تفاعلات شتى بين هاته المشاعر.
أخرجت من جيبها علبة سجائر وأخذت تدخن بشراهة، تَعَرَّفَ على سببها بسهولة، إذ إنه وفي الأيام الخوالي التي قضاها طالبًا في الكلية كثيرًا ما كان ينأى بنفسه كلما داهمته نوبة هلع لسبب أو لآخر. كان يستعيد اتزان سلوكه وثباته المعتاد بشرب السجائر، كانت تلك وسيلته الأكثر نجاعة وسرية في تعامله مع أزمات الثقة التي تأتيه بغتةً.
ها هو الآن يباشر بشرب سيجارة وحيدة كانت حبيسة جيب سرواله منذ بضعة أيام، يحتسي السائل المر الذي يمتلئ به كوبه، والخوف يتسرب إلى قلبه كلما مدَّ أحد المسوخ يده ليمسك بمرفقها، ثم سرعان ما يتنفس الصعداء بعد أن تتصدى هي وبكل بسالة لشتى محاولات الاستدراج.
سمح لذهنه أن يصول ويجول ويتساءل عمَّا قد يأتي بامرأة مثلها إلى مكان كهذا، ما الذي قد تفعله حسناء مثلها بين قطيع من الذئاب والمسوخ؟
داخت رأسه وهو يفكر في الأسباب ويضع الاحتمالات ويلتمس لها ألف عذر. لكنه سرعان ما أدرك القصور الدامغ في منطقه الذي كان يشرع له – وهو الرجل الشرقي – أن يتواجد في مكان فاحش السفالة دون أن يكون سافلًا بالضرورة، في حين أنها – ولمجرد كونها امرأة – ينبغي لها أن تحمل معها مبررات جاهزة على الدوام لأي شيء قد تُقدِم عليه، وإلا فإنها «مش محترمة».
التفت إلى حسنائه التي عادت لتوزيع الابتسامات وتلقِّي المجاملات المبطنة بالنوايا الساقطة. قرَّر أن يُغادر المكان ويعود إلى تابوته المُقفر الغارق في ظلام دامس حيث يقبع منذ رحيل أمه.
لقد ولَّى زمن الجسارة والشهامة والبطولات، لم يعد بإمكانه أن يتمادى في خداع نفسه؛ لقد كان رجلًا هلوعًا، والموت على ذلك شاهد.
ألقى بنظره إليها للمرة الأخيرة، ولَمَحَ على محياها شبح ابتسامة مُغتصَبة، وتمنَّى حينها من أعماق قلبه أن تجد تلك الفاتنة طريقها إلى البيت، وأن ترافقها السلامة.