الجميلة والوحش: هل تروج القصص للزواج من الحيوانات؟
في الإلياذة والأوديسة، يحكي لنا هوميروس عن زيوس الذي تعددت علاقاته بالنساء الخالدات منهن والفانيات؛ ومنهن «ليدا»، ابنة ملك بلوران في أتوليا وزوجة تينداريس ملك أسبرطة. ومن بين كل الألاعيب لمطاردة فتاةٍ جميلة وخداعها، يختار زيوس أن يحوِّل نفسه إلى بجعة وديعة تهرب من نسرٍ محلّق، ليستقر بجوار ليدا ويلاطفها.
كل من أروي له هذه القصة يتقزز بشدة، فمن الغريب التفكير في علاقةٍ حميمية أو رومانسية بين إنسانٍ وحيوان. لكن لو رويت للأشخاص أنفسهم قصة فيلم ديزني الشهير «الجميلة والوحش» لن أحصل على نفس ردود الأفعال المتأففة. يبدو أنه من السهل أن ينسى الجميع وسط أدوات المطبخ التي تتمايل رقصًا، والعبارات الرومانسية التي يتبادلها الأبطال وهم يرقصون على موسيقى الفالس مدى غرابة الفكرة التي بُني عليها هذا الفيلم.
أصل الحكاية
كانت الكاتبة الفرنسية غابرييل سوزان دي فيلنوف (Gabrielle-Suzanne de Villeneuve) هي أول من كتبت عن «الجميلة والوحش»، ونُشرت القصة لأول مرة في عام 1790م في صحيفة أدبية مُوجَّهة للشباب. كان وحش فيلينوف هجينًا ضخمًا بين الفيلة والأسماك حيث تتناثر الحراشيف على جسده وله خرطوم طويل يحتل مكان أنفه.
في 1755م، وبعد عامٍ واحد من وفاة فيلنوف، عدّلت جان ماري لو برينس دي بومون (Jeanne-Marie Leprince) القصة وأجرت عليها بعض التنقيحات وأعادت نشرها، ولكن هذه المرة في صحيفةٍ موجهة للأطفال، وهو التناول الذي أصبح الأكثر شُهرة، حتى الآن، وما زالت رؤية بومون لـ«الجميلة الوحش» تتداول بيننا حتى الآن برغم مرور 250 عامًا على طرحها مع إجراء تغييرات بسيطة.
في الطرح الأوّلي لقصتها، لم تتعمّق دو بومون في أوصاف الوحش المخيفة، وإنما اكتفتْ بالتنويه إلى كونه مرعبًا تاركة البقية لخيالنا، وكأنما أرادت دو بومون، فقط، أن تؤكد على كونه تشبيهًا مغاليًا لطباع رجلٍ عنيف غاضب، ليس محببًا للعين، لكنه ذو جمالٍ داخلي.
وبمرور الوقت، تباين شكل الوحش وأوصافه في القصة بِاختلاف الزمن، وصولًا إلى معالجة ديزني الأحدث في نسختها الأخيرة من الفيلم عام 2017م، والتي امتلك فيها الوحش وجه أسد مهيب يعلوه قرنان مُزعجان. لكن ما لا يتم المساس به أبدًا، هو أوصاف بيللا، فهي جميلة دائمًا ووديعة ولها قلب طيب.
ما قبل الخيال
في القرن الثامن عشر الميلادي، كانت الفتيات يتزوجن وهن في السادسة عشرة من عمرهن، مثل عُمر بيللا. مرّت دو بومون بتجربة قاسية تمثّلت في الزواج المُبكِّر بتدبير من أبيها دون اعتناءٍ كبير برأيها في هذه المسألة، وعقب خروجها من هذه التجربة سعت لتوعية الباقين من مآسيها، واختارت لتحقيق هذا الهدف طريقة غير تقليدية على الإطلاق.
شعرت دو بومون بضرورة توجيه قصصها للأطفال لا للشباب فنشرت معظم قصصها في كتيبات إرشادية لهم، تتضمن دروسًا أخلاقية وحياتية، وفي تلك الفترة، اعتمد الكثيرون على التأثير على الأطفال وتحسين تصرفاتهم من خلال الحكايات والقصص القصيرة. فكان الأدب وسيلة ترفيهية ذات إطار ثقافي.
لم تكتب دو بومون قصة «الجميلة والوحش» بهدف الاحتفاء بالزواج المدبر من قِبَل الأهل، وإنما بهدف تثقيف الفتيات والشبان حول كيفية التصرف السليم في وضع يصعب الفرار منه. ومن هذا المنطلق خرجت قصتها لتحكي عن القوة التي تملكها العاطفة على التحويل والتغيير، تحويل هذا الوحش الهائل إلى إنسان يحب ويشعر بالشفقة.
كما أعطت دو بومون الجميلة القُدرة على الاختيار وهو ما لم تملكه الفتيات قديمًا. ففي الوقت الذي كتبت فيه هذه القصة، لم يكن لدى النساء حقوق تذكر، كانت الزيجات المدبرة أمرًا شائعًا، ولم يكن للنساء حق امتلاك أي شيء، وعلى الفتيات أن يتزوجن بدءًا من سن الرابعة عشر، وغالبًا ما يتزوجن رجالًا أكبر منهن بعقود.
قصة خيالية خلّدتها النسوية
وفقًا لرؤية الناقدة الأدبية كارين إيه روي (Karen E. Rowe)، فإن نساء القصص الخيالية عادة ما يكنَّ نموذجًا دقيقًا للمرأة الضعيفة، التي لا تملك قرارًا وتنتظر من ينقذها دائمًا. لا تبدو مزاعم «روي» بعيدة عن الواقع، ولنا في أشهر القصص الخيالية أمثلة. في قصة «ربانزل»، كان عليها أن تنتظر طويلًا في برج حتى يأتي البطل وينقذها. وفي «الأميرة النائمة»، تقع لعنة على فتاة حسناء بالنوم مائة عام إلى أن توقظها قبلة أمير. أو في «سندريللا» التي ينقذها الزواج من ابن الملك الوسيم من حياة مليئة بالشرور والمعاناة.
على عكس كل ذلك، أتت لنا دو بومون بـ«بيلا»؛ البطلة التي لم تكن في حاجة إلى مَن ينقذها، وإنما تأخذ هي دور المنقذ الذي كان عادة يلعبه الرجال. حيث تقرر أن تنقذ أباها حتى لو قدمت نفسها قربانًا للوحش.
أما التيمة الأكثر نسوية في قصة دو بومون فهي «التراضي»؛ فلن يصبح الوحش إنسانًا جميلًا وتزول اللعنة التي حلَّت عليه إلا إذا ما وافقت امرأة بكامل إرادتها على الزواج منه. لذا، أول سؤال يوجهه الوحش إلى بيلا هو «هل أنت هنا بمحض إرادتك؟». وفي نهاية الأمر، توافق بيلا على الزواج منه، لتنقضي لعنته ويعود إلى هيئته البشرية.
وجَّهت دو بومون قصتها للأطفال جميعًا لا للفتيات الصغيرات فقط، لذا فإن القصة تحوي نصائح هامة للرجال الذين يتزوجون بشكلٍ مدبر، جسّدتها جهود بيلا في تعليم الوحش كيف يتصرف بطريقة لائقة وأن يكون طيبًا ولطيفًا، وكأن المؤلّفة تدعو رجال زمنها لأن يكونوا صبورين، وألا يلجؤوا للقوة والعنف. وهو ما تستمر القصة في الإشارة إليه في مواضع كثيرة خلاصتها أن حُسن المعاملة يجعل الحياة أسهل، والتضحية دائمًا ومحاولة تغيير الآخرين هي خيارٌ نقدمه حين نحب.
الزواج: أكثر الوحوش مهابةً
لم تنج قصة دو بومون من العصابات الثقافية التي تلُف الهيكل الاجتماعي للزواج. يظهر الزواج، كعادته في القصص الخيالية، ليس كمجرد نهاية جميلة وإنما باعتباره النهاية الوحيدة الجميلة. وأنه هو الأمر الذي يجب على النساء الوصول إليه لتكتمل أنوثتهن. ففي نهاية القصة، تدعو المشعوذة بيلا وتكافئها على رؤيتها للجمال الداخلي للأمير فضلًا عن الوحش المخيف الخارجي، والمكافأة هي زواجها من أمير وسيم وغني، وكأن هذه الخطوة هي نهاية الدنيا التي يجب ألا تحلم الفتاة بغيرها.
لكن لِمَ اختارت دو بومون وحشًا له ملامح حيوانية؟ تعد قصة «الجميلة والوحش» إضافة لمجموعات كثيرة من القصص التي تعود لآلاف السنين وتتضمن بشرًا يحبّون حيوانات. يحتوي كتاب ماريا تاتار «من حول العالم: قصص كلاسيكية عن أزواج وزوجات من الحيوانات» على أمثلة من الهند وإيران والنرويج وأيرلندا، وتتباين فيها الأبطال الحيوانات؛ ملوك من الضفادع، وأميرات من الطيور، وزوجات من الكلاب، وأزواج من الفئران.
تصف بعض هذه القصص، مثل «الجميلة والوحش»، أنواعًا معينة من السلوكيات، أو تنبذ صفاتٍ مثل الغرور أو القسوة. ولكن معظم تلك القصص يوضح ببساطة الدافع البشري -والمشترك بين كافة الحضارات- لاستخدام القصص المجازية للتعبير وفهم العلاقات بين الجنسين. فكل قصة هي في الأساس تعبير عن القلق من العلاقات والزواج، وحول الطبيعة الحيوانية للجنس، وشعور الغرابة المتأصل بين الرجال والنساء.
تعلق تاتار «أن الرغبة في الثروة والوصولية التي تدفع الآباء إلى تقديم بناتهم إلى الوحوش تعكس بشكلٍ كبير الممارسات الاجتماعية في عصورٍ أسبق»، وكيف يمكن للزواج من شخصٍ غريب أن يكون مثل الزواج بوحشٍ مخيف.
عبر تاريخ القصص الخيالية، استخدم البعض الأزواج من الحيوانات كتحذير من مخاطر تقرير المرء لمصيره وعواقب الفضول. هناك أمثلة لهذا في قصص من حول العالم من مختارات تاتار، ففـي قصة «الفتاة والرجل الضبع»، وهي قصة غانية تحكي عن فتاةٍ ترفض الزواج ممن اختاره لها والدها، وتختار شخصًا غريبًا بدلًا منه، شابًا رائعًا يتمتع بقوةٍ وجمالٍ آسرين، ولكن لسوء الحظ تكتشف أنه ضبع مقنّع يُطارد زوجته بينما تتحول هي إلى شجرة، ثم بركةٍ ثم حجرٍ. وتختتم القصة بحكمة قصيرة وأن «سمع الناس جميعًا عن مغامراتها وسوء اختيارها، ولهذا السبب لا تختار نساء اليوم أزواجهن ولهذا السبب تعلم الأطفال أن يطيعوا الأكبر منهم دائمًا، لأنهم يعرفون أفضل».
وهناك قصص أخرى تحذر الأولاد من وحشية المرأة الكامنة بداخلها. حينما تكون الزوجات من الحيوانات، فإنهن يُصبحن ربات بيوت أكفاء ويقمن بالمهام جميعها على أكمل وجه، ولكن الطبيعة الحيوانية تظل بداخلها.
في قصة «البجعة العذراء»، يرى أحد الصيادين مجموعة من الشابات الجميلات يتحمَّمن في بحيرةٍ بعد أن أسقطن أرديتهن، والتي كانت من الريش. يسرق الصياد أحد الأردية ويخفيها، مما يترك واحدةً من البجعات عالقة في شكلٍ بشريّ، وتراقب أخواتها وهنَّ يضعن لباس البجعة ويطرن إلى المنزل. يتعرف الصياد إلى الفتاة ثم يتزوجها ثم يُنجبان طفلين، ويعيشون جميعًا حياة جميلة وهانئة. حتى تجد الأم ثوبها الذي سُرق منها، فتضعه فورًا دون تفكير لترجع إلى هيئة البعجة وتطير بعيدًا تاركة عائلتها.
تعرض القصة الرغبات الأنثوية الفطرية، بالإضافة إلى الشعور بالولاء والرغبة في العودة للعائلة الأولى دائمًا. كما تحذر القراء الذكور من رهاب النساء المحتمل من الاحتجاز، ولكن القصة تلقي الضوء -بدون قصد- على الطبيعة القمعية للزواج، وما يصاحب ذلك من تدبير للمنزل ورعاية للأطفال والكبار، وتفيد القصة بأن الزوجات من الحيوانات هن أفضل الزوجات عندما يتعلق الأمر بالشئون المنزلية، ولكن لا يجب أن يُُسمح لها باستخدام مفاتيح حريتها أبدًا.
اختفت القصص الخيالية وبقي الخوف
في بداية القرن العشرين، تطورت القصص بصورة كبيرة، على الرغم من أنها لا تزال تتبع نموذج الحكايات في مختارات تاتار. فأصبحت البرامج التلفزيونية والأفلام مليئة بأبطالٍ وبطلات يقعون في حب روبوتاتٍ صعبة المنال وغير جديرة بالثقة، بدءًا من إكس ماشينا وحتى ويستوورلد.
في فيلم «Her» عام 2013م، يقع ثيودور في حبٍ صوت نظام تشغيل اسمها سامانثا، والتي تتطور في النهاية أكثر من البشر وتتخلى عن ثيودور لتستكشف قدراتها الخاصة. تتشابه نهاية الفيلم مع نهاية قصة «البجعة العذراء» حين تكتشف البطلة إمكانية العودة إلى هيئتها الأولى والطيران مرة أخرى فتترك وراءها كل شيء وتمضي. وبهذا يستمر تحديث القصص الخيالية الكلاسيكية لتلائم قلق ومخاوف كل جيل.
فالروبوتات مثلها مثل الوحوش الحيوانية تمثل الخوف من الاختلاف، والتحدي المتمثل في ضرورة التواصل في إطار العلاقات الاجتماعية، ورهبة المجهول، بالإضافة إلى مجموعة جديدة من المخاوف التي تزداد بزيادة إدراكنا لما حولنا وما نريده أو لا نريده. وفي النهاية قد تختلف هذه القصص في تفاصيل كثيرة لكنها في أغلب الأحوال تكون مبنية على مبدأٍ واحدٍ، وهو ذلك الخوف الكامن داخلنا تجاه الزواج.