فيلم «Beautiful Boy»: الأب والابن والإدمان
بهذه الكلمات بدأ المطرب الإنجليزي الشهير جون لينون أغنيته «Beautiful Boy» في عام 1980. لم يكن يدرك لينون حينها أنه وعقب 38 عامًا ستتحول تلك الكلمات لجزء من خطاب أب يحاول استعادة ابنه، وذلك من خلال أحد مشاهد فيلم أمريكي يحمل نفس اسم الأغنية.
الفيلم عن قصة حقيقية كتبها الأب وابنه في كتابين يمثلان سيرتهما الذاتية، والوحش هنا مختلف عن الوحوش التي كان يحكي عنها الآباء لأبنائهم قبل النوم. الوحش هنا هو الإدمان. الإدمان الذي يقتل من البشر سنويًا أكثر مما تقتل الحروب.
نتحدث معكم اليوم عن فيلم «Beautiful Boy» الذي يمثل معالجة المخرج البلجيكي فيلكس فان جرونيجن، في فيلمه الأول الناطق بالإنجليزية، من بطولة ستيف كاريل وتيموثي شالومي، عن قصة الصحفي الأمريكي ديفيد شيف وابنه نيك. قصة الأب والابن والإدمان.
الأب: البحث عن الابن
يبدأ الفيلم بمشهد نتابع فيه رجلًا يجلس في غرفته وحيدًا، يتصل بأحد المستشفيات ليسأل إن كانوا قد استقبلوا ابنه، يصف الأب مواصفات ابنه الشكلية، يبدو من صوته أنه متعب، في النهاية لا يجد ردًا ولا يجد ابنه.
يمكننا اعتبار هذا المشهد كتأسيس لما نشاهده فيما هو قادم من زمن الفيلم، رحلة بحث وإعادة بحث طويلة من الأب عن ابنه. يتقاطع مع هذه الرحلة مجموعة من الذكريات المستعادة flashbacks التي تجمع الأب والابن في طفولته، في عالم يشبه الجنة. يعتمد فان جرونيجن على أسلوب سرد غير خطي، تتداخل فيه الذكريات التي تجمع الأب والابن، والواقع الذي ينفصلان فيه.
الزمان هنا يذكرنا برؤية الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر، حيث لا فواصل حقيقية بين ماضي وحاضر ومستقبل. لا تسير الحياة في اتجاه خطي، ولكن الزمن هو الوجود، فالماضي حاضر بعلاماته وأثره في اللحظة الآنية، وهكذا الحاضر بالنسبة للمستقبل، الزمن بوجوهه الثلاثة يحضر في نفس اللحظة.
وهكذا يستمر فان جرونيجن في سرد حكايته من وجهة نظر الأب، يبحث عن ابنه في المشافي وفي الطرقات، ويرى ذكرياتهم المشتركة سويًا، في نفس اللحظة، يفتش أين أخطأ، وأين بدأ الإدمان في افتراس ولده؟
يعتمد جرونيجن في سرده البصري على كادرات تظهر الأب وحيدًا، داخل أبواب زجاجية. من المثير للتأمل أن أبواب بيت الأب كلها زجاجية، وكأنه محاصر داخل ذكرياته، هش دون فتاة المحبوب. في المقابل كادرات مفتوحة تظهر الأب سعيدًا ومنطلقًا برفقة ابنه في ذكرياتهما، على الشاطئ، في البحر، وفي حديقة المنزل. يرافق هذه الكادرات ذات الطابع الناعم موسيقى تصويرية مكونة بالأساس من مجموعة من أغاني البوب، وكأن الابن يحضر من خلالها.
العنصر الأهم في رحلة الأب أنه يعتبر الإدمان وحشًا دخيلًا على عالمه، يظن أن الإنقاذ سيأتي باستعادة الابن، يجده في أحد المشاهد فيصرخ فيه: «هذا ليس نحن». باستثناء لحظات الانفجار النادرة تلك، يظهر الأب صموتًا ومهمومًا في معظم أحداث الفيلم، يعبر ستيف كاريل عن الحزن والتخبط بوجهه وجسده، وتفيض عيناه بالحب في كل مشاهده المشتركة مع الابن. مرة أخرى يبرهن كاريل أنه ممثل ومجسد متميز، لا ينبغي حصره بتاتًا في أدوار الكوميديا الخالصة وفقط.
الابن: الإدمان والبحث عن الحياة
كلمات أغنية «Treasure» للمغني الأمريكي سامفا تعبر بشمل كبير عن الابن. نيك في زمن التيه يعبر عن جيل بأكلمه، جيل ما بعد الصراعات الكبرى، ما بعد الحداثة، حيث للحزن والاكتئاب طابع رومانسي، وينعدم أي معنى الحياة.
يخاطبه أبوه في أحد المشاهد مقترحًا أن يخرجا للتزلج على الماء، يرد الابن بأنه أصبح يحب أشياء أخرى، على سبيل المثال قراءة كتب وروايات كتاب بائسين ويائسين. هكذا يصفهم نيك حيث يبدو بؤسهم ويأسهم جزءًا من عبقريتهم. نيك وحيد ومنعزل، وبرغم تفوقه الدراسي وذكائه، حيث استطاع الحصول على القبول من أربع جامعات من المرة الأولى وهو ابن 18 عامًا، إلا أنه اتجه للمخدرات، بدءًا بالماريجوانا وانتهاء بكريستالات الميث ومرورًا بكل شيء تقريبًا.
المخدرات بالنسبة لهذا الجيل هي باب لعالم جديد، عالم ملون وملئ بالمفاجآت، في مقابل حياة منعدمة اللون والطعم، يرونها هكذا حتى ولو لم تكن، يبدأ الأمر هكذا ثم ينطفئ هذا العالم شيئًا فشيئًا، فتزداد الجرعة بحثًا عن المهرب. يتحدث نيك بلا خجل حتى وهو ممتنع عن التعاطي. يخبر الجميع أن شعوره وهو يتعاطى الميث كان أفضل شعور حظي به طوال حياته. يبحث الأب عن الابن، يبحث الابن عن عالم الميث الملون. يعود الابن ثم ينتكس فيسقط مرة أخرى.
نرى نيك وحيدًا في رحلته، كمعظم أبناء جيله، حتى أنه يتعاطى الميث وحيدًا، ولا يجد شريكًا للتعاطي غير قرب النهاية. الجديد في رحلة نيك أن المدمن هنا شاب طيب من أسرة متوسطة، بعيد تمامًا عن كليشيهات الشكل السينمائي للمدمن. يجسده تيموثي بأداء هادئ ومنعزل، كلماته هادئه وبطيئة، تشبه الهمهمات، وحس ساخر من النفس ومن قيمة الحياة، كمعظم شباب جيله.
الإدمان يقتل: دائرة الصواب والخطأ
معالجة فان جرونيجن تصحبنا في رحلة من الصواب والخطأ، الامتناع والانتكاس. لا يحبذ جرونيجن النهايات السعيدة، يجدها هوليوودية تضعف المعنى، وتجهض النقاشات والأسئلة عن الفيلم قبل أن تبدأ.
يمكننا رؤية معالجته كرحلة إنسانية جديدة، عن الأب والابن والإدمان، حيث الميث هو بديل الروح في هذا العصر. رحلة اكتشاف لوحش جديد، قاتل شرس، يخاطب من خلالها الفيلم كل من عاين الإدمان أو عانى منه، يخبرنا بأن الرحلة طويلة والمحاولة يجب أن تتكرر، والامتناع ينجح خطوة بخطوة، يحتاج للكثير من الصبر والكثير من المثابرة، والإرادة الشخصية قبل كل شيء. رحلة عاطفية نراها ونشعر بالألفة معها، حيث الفقد جزء من الرحلة، لا مفر منه.