رحلتي إلى «بطلوع الروح»: محاولات «صناعة القلق»
في نوفمبر من عام 2013، كنت في الولايات المتحدة الأمريكية لمدة ثلاثة أسابيع ضمن فريق صحفي عربي يتلقى منحة ثقافية تقدمها الخارجية الأمريكية ومعروفة باسم «برنامج الزائر الدولي» IVLP، وتتضمن لقاءات مع صحفيين وخبراء وقيادات في مراكز الفكر والجامعات وجولة في صحف ووسائل إعلام أمريكية بارزة، حينما سمعت لأول مرة من صديق لبناني كان برفقتنا مصطلح «داعش».
كانت مصر قبيل هذه التاريخ بأشهر قليلة تقف على أطراف حرب أهلية محتملة، وتعيش تداعيات انهيار حكم الإخوان، وما صاحبه من عنف مسلح وعمليات إرهابية كبرى ضربت القاهرة وكثيرًا من مدن العمق والأطراف، وبدا الأمر وكأنه حتى لو ابتعدت آلاف الكيلو مترات وأكثر من أربع عشرة ساعة طيران عن الوطن الملتهب فإنه لا شيء أبدًا يحول عن التفكير في مستقبله الشائك، وأن التنظيمات الإرهابية «أعتقد أن هذا هو المسمى الأكثر دقة وليس المتطرف أو الجهادي» تعيش أزهى عصورها إلى حد أن واحدة منها استطاعت أن تزيل الحدود بين بلدين متجاورين «سوريا والعراق»، وأن تفتح– حرفيًا- «القُطرين على بعض»، وأن تنشأ دولة احتلال جديدة من العدم، لها نظام حكمها الداخلي وعلمها الأسود المرفرف وقوانينها الوحشية المستلهمة من العصور الوسطى المنحدرة، وتضم دواوين شبه حكومية وعملة محلية، وتتحكم في عدد من آبار النفط، ويدها طولى لدرجة أنها قادرة على تنفيذ عمليات تفجير منظمة وهجمات قتل جماعية في مدن أوروبية وسيناء وتونس في توقيت متقارب.
هل ولدت فكرة مسلسل «بطلوع الروح» في هذه اللحظة؟
أغلب الظن أن الإحساس بضرورة الغوص في هذا الجحيم المستعر واستلهام شيء منه ليقرأه أو يشاهده الناس المشغولة بالبحث عن لقمة عيش حلال ولا وقت لديها للاهتمام بلهيب يأكل الأخضر واليابس طالما أن النار تقف على حدود البيت ولم تلامس بابه، رغم استشعارهم بوهج النار وبعض ألم الحرق على أطرافهم، أغلب الظن أن ذلك الإحساس بما يمكن وصفه بـ«الواجب» قد ولد في هذه الأجواء، لكن كيف يمكن أن أفعلها؟
تحول الأمر بعد ذلك لما يشبه الهوس. صرت أقرأ بنهم شديد كل ما تقع عيناي عليه ويحمل اسم «تنظيم الدولة الإسلامية»، أتتبع غزوات «دولة الخلافة» في الشرق والغرب، أحاول أن أفهم كيف يديرون «بلدًا»، وكيف يؤسسون قواعد راسخة للبقاء طويلًا، أتابع ما ينشر عن صفقات سرية يجرونها مع شركات ودول لبيع «النفط» الذي استولوا على آباره في «الأرض المحتلة» ليشتروا بثمنه السلاح، أحاول أن أعرف كيف يعيش أهالي مدينة الرقة السورية بعدما تم إعلان مدينتهم «عاصمة لدولة الخلافة»، وأي قوانين شاذة تسري عليهم، وكيف يناورون ويقاومون ويحتفظون بإنسانيتهم، من صمد منهم ومن انهار وصار من «الآخرين»؟ كيف ولماذا يأتي كل هؤلاء المهاويس ذوي العيون الملونة التي يسكن فيها شتات وجنون، من بلاد أوروبية مستقرة وآمنة ليحملوا السلاح ويقتلوا ويفجروا ويجزوا الرقبة ويهتفوا بعربية مغتصبة «الله أكبر»؟ كيف تعيش النساء داخل هذا العالم الذي يتعامل معها باعتبارها أداة مجردة للمتعة وإخراج كل طاقة الانفلات والانحرافات، ووسيلة أساسية- وربما وحيدة- لدفن كل الرعب المحتشد من الموت غريبًا في أرض غريبة؟
ظل ذلك كله يحتشد في داخلي، حتى بعد سقوط عاصمة دولة الخلافة في أكتوبر 2017، ونهاية دولة داعش على الأرض، وإن أصبح لها في كل مكان بالعالم «دويلة» صغيرة، قد لا يزيد عدد سكانها على واحد في موضع، ويتضاعف لآلاف في مواضع أخرى، وقد أدركت أن سنوات ما بعد «سقوط دولة داعش»، ربما لن تقل شراسة وخطورة عن سنوات احتلال التنظيم لثلثي العراق وسوريا، الأمر أشبه بذئب مسعور أصابته رصاصة في رأسه من دون أن تقتله مباشرة، حينها ستتضاعف وحشيته وعنفوانه ورغبته في أن يعقر أكثر عدد ممكن من ضحاياه، وأن يضم لنفسه كثيرًا من الذئاب المسعورة بدورها، حتى إذ خمدت روحه «في ألف داهية»، فإن ذلك يحدث وقد ترك أثرًا داميًا وإرثًا يكمل مسيرته.
كنت أفكر في تتبع رحلة قيام وانهيار وتمدد داعش في كتاب، ثم وجدت أن ذلك يستوجب مجهودًا كبيرًا، وعادة فإن هذه الكتب لن تصل للجمهور الذي أريد، جمهور البيوت المطمئن، يجب أن أقلق هؤلاء، القلق فعل إيجابي بالضرورة، لأنه يحفز بداخل المرء كثيرًا من المهارات الخامدة، يجعله واعيًا متحفزًا مفكرًا، وربما فاعلًا. التحريض على القلق ربما يكون هو الهدف الأهم وراء أي كتابة أو عمل فني.
ظل هاجس الكتابة عن داعش إذن حاضرًا بداخلي حتى لو توارى في جانب خفي، وأنا أدخل عالم كتابة السيناريو عام 2016، كنت في هذه الفترة تطبيقًا مثاليًا لمقولة تبدو مستهلكة لكنها حقيقة تمامًا، مقولة يعتاد الممثلون قولها عن بدايتهم، أرغب في الانتشار واكتساب المهارات والخبرة، ولا ألتفت إلى طموحاتي، وما أريد أن أقوله، تركت الصحافة أيضًا مضطرًا أو مجبرًا، ولا مصدر دخل لي حينها سوى المشاركة في كتابة السيناريو عبر ورش كتابة جماعية، كنت سعيد الحظ أن وضع الله في طريقي معلمين وملهمين سيناريو جدعان، وأعمالًا شاركت في كتابتها بعضها مهم ولافت وبعضها يحتوي على الحد الأدنى من الجودة والفن، لم أشارك في عمل أخجل من وضع اسمي عليه ولو بخط رفيع غير مقروء في تتر النهاية، لكن بقيت الرغبة في أن أكتب ما أريد لا أن أكتب ما هو متاح، هاجس ملح وأرق مستديم.
في أوائل عام 2020 تلقيت اتصالًا من المخرجة مريم أحمدي، كانت تريد أن أتعاون معها في كتابة مسلسل يتحدث عن «المرأة»، ولديها تصور عام للأحداث، قبلها كنت شاركت في كتابة مسلسل «كل أسبوع يوم جمعة» برفقة إياد إبراهيم وسمر عبد الناصر وإخراج محمد شاكر خضير، وحقق المسلسل صدى طيبًا، وقدم شكلًا مختلفًا نوعًا عن الدراما السائدة، بعد كتابة عدة حلقات منفردًا في المسلسل القصير الجديد هذا، اكتشفت أنا ومريم أن المسلسل تقليدي وعادي، ولا يوجد فيه ما يميزه، كنت أفكر بطريقة مرتعشة بعض الشيء ووفقًا للكتالوج، لأن ذلك أول مسلسل أنفرد فيه بالكتابة والأمر فيه مخاطرة كبيرة، بعد كتابة أربع حلقات قررنا أن نقطعها تمامًا وأن نبدأ من أول جديد، حدث هذا مع وفاة مفاجئة لأبي. كانت العلامات كلها لا توحي بأن هناك ضوء نهار في الأفق.
ما علاقة كل هذا بطلوع الروح؟
العلاقة أعتقد في أن المنتج الذي يظهر على الشاشة، أو للدقة المنتج الجيد أو الذي يتطلع للجودة، لا يمكن أن يكون وليد لحظة نادرة أو فكرة تنبع من العدم، في الأغلب فإن ذلك يحدث تراكميًا وعبر حشد لسنوات، بناء يحدث داخليًا بطريقة لا واعية ومن دون تدخل كبير من إرادة صاحبه. قد يبدو ذلك كلامًا كبيرًا، وهو كذلك فعلا، لكنه أيضًا فيه شيء من حقيقة وقائع ما جرى قبل «بطلوع الروح».
بعد تجاوز صدمة وفاة الأب وإعادة كتابة المسلسل من جديد، وتعثرات إنتاجية معتادة، خرج المسلسل أخيرًا في أغسطس 2021، تحت اسم «60 دقيقة»، ورغم أنه عرض على منصة مدفوعة الأجر وليس على شاشات التلفزيون فإن القضية الطازجة التي كانت يتناولها «الاستغلال الجنسي»، جعلته يصل إلى قاعدة جماهيرية معقولة لحد كبير، كنت أتلقى بعض الرسائل من سيدات لا تجمعني بهن أي صلة، يروين لي كيف أنهن تعرضن لمشاهد بعينها في المسلسل، وكيف أنهن تصورن بأن الأحداث مستوحاة من واقعة تعرضن لها، فأندهش وأرتبك، وأستشعر قوة أثر الدراما وقدرتها على «صناعة القلق».
بعد عرض 60 دقيقة، تكونت رابطة ثقة ما بيني وبين المنتج الشاب الواعي «أنور صادق الصباح»، وقد طلب مني البحث عن فكرة لمسلسل رمضاني يكون من بطولة منة شلبي، بعد أسابيع قدمت معالجة لمسلسل لم تلق حماسًا كافيًا، قررت أن ذلك خير، لأني منهك في الأساس لأسباب عدة، ولا أحب خوض «مطحنة» الكتابة لرمضان، خصوصًا مع مجهود كبير وساعات كثيرة من العمل استغرقها عمل قصير من تسع حلقات «60 دقيقة» فما بالك بثلاثين؟
أبلغت المنتج اعتذاري، وعدت إلى قواعدي سالماً مرتاح الضمير، فهناك دومًا راحة في الاعتذار عن صعود الجبل. ثم كنت أتصفح الصحف وأتابع أخبار داعش مجددًا كأي مهووس قديم، عندما سقطت عيني على تحقيق صحفي في جريدة «الشرق الأوسط» يتحدث عن مخيم «روج» الخاضع لسيطرة القوات الكردية في شمال سوريا، والذي يضم أكثر من 2500 سيدة من 60 دولة في العالم، وهن جميعهن زوجات أو أرامل لرجال من داعش قتلوا في المعارك، أو ألقي القبض عليهن، ويعيشن في ظروف قاسية داخل المخيم الذي بلا صفة قانونية وبالتالي فهو محروم من أي دعم دولي، كما أنه أقرب إلى قنبلة فتيلها على قرب الانتزاع، لأنه مع مرور نحو أربع سنوات بعد سقوط «دولة داعش»، ومع رفض كل الدول تقريبًا لاسترداد نسائهن في هذا المخيم لاعتبارات أمنية، تحول المخيم إلى «إمارة داعشية نسائية»، حتى إن أعمالًا مثل القتل والسرقة وحرق الخيم «لأسباب دينية» صار طقسًا أساسيًا.
في التحقيق ذاته، وجدت سيدة مصرية تعيش في المخيم برفقة ولديها تتحدث عن رغبتها في العودة لمصر وعن كيف أنها جاءت إلى داعش برفقة زوجها، لكنها أدركت جرم ما فعلوا وتريد أن تعود لبلدها، هنا قفز كل مخزون ما قراءت عن داعش طوال سنين، وتفاعل مع عقل كاتب السيناريو في داخلي ليطرح السؤال الذي يفتح دومًا باب الخيال والأحلام: ماذا لو؟ ماذا لو أرادت هذه السيدة الهروب من المخيم «ومحاولات الهروب الناجحة والفاشلة هناك كثيرة»، ما خطتها؟ من سيساعدها؟ وما الثمن؟ وكيف لذلك أن يكون مدخلًا لأن نروي قصة عن عالم داعش من الداخل؟
لو شاهدت المسلسل فأنت حتمًا تعرف ما جرى بعد ذلك، ولو لم تشاهده، فهذه فرصة لأن تفعل ذلك الآن وفورًا.
قد لا تكون هذه السطور كشفت كواليس «بطلوع الروح» وقد صار كثير منها معلنًا بالفعل، لكنها قد تكون محاولة للحديث عما «قبل الكواليس» إذا صح القول.
الأكيد أني لم أقل كل ما كنت أريد قوله في «بطلوع الروح» عن داعش لاعتبارات كثيرة تتعلق بطبيعة ومحددات الدراما، والعقبات التي تعرض لها المسلسل، والصعوبات الميدانية، ومداهمة وقت العرض الرمضاني المقدس، ولعل هذا يعني أن القلق بداخلي لم يهدأ تمامًا، وربما يكون ذلك أفضل شيء يمكن أن يحدث لكاتب.
فلنبق على قيد القلق دائمًا.