معارك التحرر والاستقلال: من فلسطين إلى العلوم الاجتماعية والإنسانية
هذه أيام مباركة، تسري فيها روح المقاومة وتتمدد من فلسطين إلى الأمة بكاملها فتحييها بالقرآن. وستبلغ غايتها وتحقق هدفها -بإذن الله- في إزاحة هذا الكابوس المتمثل في الكيان السرطاني الاستيطاني في أرض فلسطين المقدسة، وفي أرجاء مختلفة من أمتنا.
معركة التحرر والتخلص من الاحتلال الصهيوني البغيض لها رجالها الذين يخوضونها في سوح الوغى بقوة العقيدة، وقوة الوحدة، وقوة الساعد والسلاح. وثمة معركة -بل معارك- أخرى مفتوحة في عديد من الجبهات، ويتعين أن يتصدى لها رجالها في سوحها أيضاً، وبأقوى ما يملكون.
وأقصد هنا معركة واحدة منها: معركة التحرر والاستقلال عن العلوم الاجتماعية والإنسانية التي تحتل عقول طلاب العلم وأغلبية أساتذتهم في بلادنا منذ أكثر من مائة سنة. أقصد بها: معركة النضال لكنس كل العلوم الاجتماعية والإنسانية والأدبية والفنية الوافدة من حضارة الغرب معدوم الضمير والأخلاق والإنسانية؛ وتطهير جامعاتنا منها؛ لأنها علوم تفصلنا عن انتمائنا، وتخيفنا من أنفسنا، وتزرع الشك في ذاتنا الحضارية، وتربي روح الانسحاق للآخر الغربي ولقوته اللاإنسانية المتوحشة، لدرجة وصلت بنا إلى وقوف 56 دولة (عربية وإسلامية) موقف المتفرجين على ما ترتكبه قوى التحضر والمدنية و«العالم الحر» من مذابح يندى لها الجبين بحق الأطفال والنساء والشيوخ. مذابح لا تكاد تتوقف واحدة منها حتى تبدأ واحدة أنكى منها وأشد شراسة وهمجية في حق شعوب أمتنا.
هي علوم ثبت أنها تحرس تخلفنا، وترسِّخُ ضعفنا، وتقضي على كل عناصر القوة لدينا؛ عنصراً عنصراً، وتقنعنا بأننا كم مهمل، ما بيدنا حيلة، وبأننا لا نملك ولن نملك من أمرنا شيئاً. هي ضد هويتنا، وضد نهضتنا، وضد مصالح أمتنا على مختلف الصعد، كانت كذلك، ومازالت، وستظل.
هذه العلوم فاشلة، يحملها فاشلون، خائفون طول الوقت أن يفقدوا الحظوة عند أساتذتهم الأجانب الذين علموهم، ويدينون لهم بالولاء، ولا يتركون فرصة إلا ويتمالحون بذكر أسمائهم الأجنبية، ويرددون عناوين كتبهم ومؤلفاتهم. أو هم خائفون طول الوقت –أيضاً- أن يفتحوا فمهم بكلمة (قد) تغضب أولياء نعمتهم في الداخل، ولا صلة لهم في الحالين بأبناء أمتنا ولا بسوادها الأعظم، ولا بمشكلاتهم ولا بآمالهم أو طموحاتهم في مستقبل أفضل لهم ولأبنائهم. ما يعلمه كل منهم لا تتجاوز فائدته فائدة المشروع العائلي أو الأسري، يشبهه صاحب دكان البقالة، أو كشك الخردوات في انكفائه على تدبير لقمة العيش لأسرته وكان الله يحب المحسنين.
قصة وفود هذه العلوم مأساوية من أولها إلى آخرها. قصتها ألخصها في ست كلمات هي: (البداية، البناية، الحكاية، الشكاية، النكاية، النهاية).
«البداية»؛ أعني بها موجة التقليد والترجمة واستيراد الأساتذة الأجانب بشحمهم ولحمهم أول الأمر في مطلع القرن الماضي، عندما تأسست معاهد التعليم العالي والجامعات في بلادنا العربية والإسلامية. والحجة كانت مقبولة آنذاك -إلى حد ما- وهي: أننا يجب أن نلحق بالركب المتقدم، ولا بأس من الترجمة والتقليد ريثما تتبين ملامح الطريق التي سلكها هذا الركب، وعندما تتبين سنسير فيه وحدنا، ونبدع إبداعاتنا.
و«البناية»؛ أعني بها أن تلك عملية الترجمة استمرت ولم تتوقف، والتقليد ترسخ ولم يخف؛ وبدلاً من أن تكون الترجمة مجرد تمهيد وتدريب على اللحاق بالركب المتقدم؛ تكاثرت حتى أضحت بناية العلوم الاجتماعية والإنسانية بأكملها عبارة عن «تقليد وترجمة»، ينتهي أحدهم من ترجمة كتاب، ليهرع إلى ترجمة آخر، مع لهاث لا يتوقف تحت وهم متابعة الجديد في جامعات الغرب ومدارسه.
و«الحكاية»؛ أعني بها أنَّ الاستمرار في تشييد البناية بكاملها عبر آليتي: الترجمة والتقليد، لم يعد مستهجناً، بل أصبح مادة لنسج الحكايات والحواديت الشيقة عمن سبق غيره في ترجمة هذا الكتاب، أو في تبني تلك المدرسة، أو في تقليد ذلك الأستاذ؛ في سباق محموم ومستمرٍّ لعقود متطاولة؛ ظلوا خلالها يرددون نظريات علماء غربيين دون خجل، ولم يسأل أحدهم نفسه إذا كانت هذه نظرية فلان وتلك نظرية فلان، فأين نظريتي أنا أو نظرية زملائي من الأساتذة أبناء مجتمعي وثقافتي وحضارتي؟ لم يسأل أحدهم نفسه مثل هذا السؤال، وظل ـ ولا يزال كثيرون منهم ـ يتمالحون بذكر أسماء وعناوين أستاذتهم من العلماء الأجانب، ويتسابقون أيهم أكثر تبعية لهم، وأيهم أغزر ترجمة لأعمالهم. وبدلاً من أن تنتهي الفترة الانتقالية الأولى، تحولت إلى تقليد دائم، و”حكاية” تبعث على الاستعلاء والشعور بأن هذا المترجم أو ذلك المقلد من طينة أخرى.
و«الشكاية»؛ أعني بها بعض الانتقادات والصرخات التي شرع في إعلانها بعض المخلصين من الأساتذة الذين صدقوا أن «اللحاق بالغرب» هو الحل لمشكلات مجتمعاتنا. وقد تعالت هذه الأصوات بين الحين والآخر، وتكاثرت بدءاً من ثمانينيات القرن الماضي، وبعضهم أعلن صراحة أنه ضيع عمره الأكاديمي في ما سماه: «الترجمة من أجل التدريس، والتدريس من أجل الترجمة»، وآخر قال صراحة «العلوم الاجتماعية التي حصلت على أعلى الدرجات العلمية فيها من أعرق الجامعات البريطانية ليست سوى وهم في وهم، لا فائدة منها لنا، ولا نفع فيها لمجتمعاتنا»، وهكذا بدأت مرحلة الشكاية، ولم تتوقف حتى اليوم.
و«النِّكاية»؛ أعنى بها أنْ تلك العلوم الاجتماعية والإنسانية التي اقتحمت مجتمعاتنا لم تكن ساكنة أو مجرد ثقافة للثقافة، أو علم للعلم؛ وإنما أسهمت في تخريب مجتمعاتنا. وجردة حساب لمائة سنة وبضعة عقود تكشفت لنا عن أن الوظيفة الأساسية التي أدتها هذه العلوم هي النيل من مجتمعاتنا وأنظمتها الحياتية دون أن تحل محلها أبنية وأنظمة حديثة وفعالة. وتجلى ذلك: إما بإلحاق ضرر مباشر عبر مشاركة فئات من أبناء مجتمعاتنا في تمكين الغزو الأجنبي من مفاصل حياتنا وأنظمتنا، وإما بتفويت فرصة للتقدم الذاتي وصنع علومنا الخاصة بنا من واقعنا ومن تراثها على نحو يسهم في تحقيق مصالحنا.
و«النهاية»؛ أعني بها حالة التردي التي وصلت إليها أمتنا، وما ألحقته هذه العلوم بها من كوارث متتالية -أسهمت فيها عوامل أخرى كثيرة بطبيعة الحال ولا مجال للتفصيل فيها هنا- هذه النهاية البائسة تراها ماثلة أمامك على كل المستويات، وتتلخص في «الانتكاس» اللامنطقي، من الأفضل إلى السيء إلى الأسوأ؛ بعكس وعود اللحاق بالغرب عبر تقليد مدارسه التي كانت تبشر بالنشوء المتواضع من خلال «مرحلة انتقالية» يسودها التقليد، ثم الارتقاء للأفضل عبر الإبداع والتفوق الذاتي. ولم يحدث سوى العكس. انظر مثلاً، إلى أحوال «الدراسات العليا» اليوم في أي جامعة من جامعات العرب، وقارنها بما كانت عليه قبل نصف قرن أو أكثر، ترى الانتكاس مُتجسداً ولا يحتاج إلى دليل أو برهان.
هذه العلوم الاجتماعية والإنسانية التي غزتنا منذ مائة سنة أو يزيد، هي علوم تخريبية لا تعميرية؛ ومن أين لها أن تعمِّر وأغلبيتُها لا تتناسب مع أحوالنا، فضلاً عن أن أغلبية الأساتذة في جامعاتنا العربية والإسلامية لا يفهمونها، ثم لا يفهمها طلابهم، ولا يجدون لها صدى في حياتهم اليومية، أو في حياة أحيائهم السكنية، أو في بلداتهم أو أحيائهم العشوائية، أو في مدنهم وقراهم وبواديهم التي تتدهور يومياً أمام أعينهم منذ مائة سنة أو يزيد، وهم لا يستطيعون فعل أي شيء، ولا تدفعهم هذه العلوم إلى فعل أي شيءٍ. (هناك أحياء عشوائية متردية في جميع خدماتها رغم أنها متاخمة لأعرق الجامعات العربية منذ أكثر من مائة سنة، وكل يوم تتدهور، وتكثر فيها معدلات الجرائم، وتتدنى فيها نوعية الحياة؛ من تعليم وصحة وسكن، حتى باتت وصمة عار لمن يسكنها أو يعمل فيها. وكل هذا يحدث في أحياء لا يفصلها إلا شارع، أو قنطرة، عن هذه الجامعة أو تلك!).
هذه علوم هي والعدم سواء؛ لا هي حلت مشكلة، ولا دفعت مفسدة، ولا أتت بمصلحة عامة، ولا بنَت ثقة في الأجيال المتعاقبة، ولا استردت حقاً مسلوباً، ولا فتحت باباً واحداً نحو الحرية، ولا عززت كرامة ولا حافظت عليها؛ بل يمكن الذهاب دون استثناءات كبيرة على امتداد عالم العرب والمسلمين إلى أنها فعلت العكس. وافحص أنت بنفسك أسماء أساتذة الاجتماع والسياسة والفلسفة وعلم النفس والتاريخ والجغرافيا، وانظر أين يقفون ـ في أغلبيتهم ـ من المآسي التي ترزح تحتها شعوب أمتنا من هيمنة الأجنبي عليها من الخارج، واستبداد أنظمتها في الداخل.
هذه العلوم تحدثُنا عن أننا نعاني النقص في كل شيءِ؛ نقصاً في حقوق المرأة. نقصاً في التنمية. نقصاً في المعرفة. نقصاً في نوعية الحياة… إلخ، ولا تحدثنا عن زيادة لدينا إلا في: النفط، والغاز، والسكان! أمّا السكان فيجب تقليلهم لكي يحصل النقص فيهم، وأما النفط فهو سلعة يحتاجها السوق الأوربي والأمريكي، وكذلك الغاز!
أرأيت «علم الاقتصاد» الوافد إلى جامعاتنا مثلاً منذ بدايات القرن العشرين الماضي، إنهم يحدثوننا فيه عن تخلفنا ونقص كفاءتنا في استغلال الموارد، ولا يمضي وقت طويل حتى يردد هذه الترهات أبناء جلدتنا، وبدلاً من معالجة مشكلات مجتمعاتنا يروجون لفقرها، وما هي بفقيرة، ويسبونها ويتنكرون لذواتهم، وهي صاحبة الفضل عليهم.
أرأيت علم الفلسفة ورواد التنوير؛ إنهم يحدثوننا فيه عن: العقل، والمنطق، والحرية، والنقد، والقانون، ودولة الإنسان والرفق بالحيوان، ثم يرسلون بوارجهم الحربية لقتل أطفال فلسطين، والعراق، وأفغانستان، ولبنان، وليبيا، وسنكيانج، والروهنجا، ومن قبلهم الصومال… وهلم جراً.
أرأيت علم الاجتماع أيضاً، إنهم يحدثوننا فيه عن الانتماءات الأولية (الأسرة والعائلة والقبيلة) ويصفونها بأنها من عوامل تخلف المجتمع وأسباب عجزه عن الدخول في عصر الحداثة، وعليه يجب تفكيكها والتخلص منها، وتشجيع الأسرة ذات العائل الواحد(!!!) والأسرة المثلية(!!!)، وحقوق الشواذ… إلخ، ومن بني جلدتنا من يصدقونهم ويمشون وراءهم، ويخربون بيوتهم وبيوت مجتمعنا بأيديهم.
أرأيت علم اللغة وآدابها -حتى علم اللغة- يحدثوننا فيه عن البنيوية والتفكيكية، وما بعد الحداثة، واللا معنى، ويهرع بعض أساتذة جامعاتنا لتقليد هذا النهج وترجمته، وكل منهم يظن أنه يشتغل بالعلم، وربما ظن أنه «عالم»؛ بينما هم يرسبون في أوحال التبعية، ويسهمون في تدمير الثقة بالنفس في تراثنا وعلومنا الأصيلة، ولا يكادون يفقهون حديثاً فيها.
كل هذا الهراء يجب وضع حد له، ويجب شطبه من اهتماماتنا، ويجب أن نعيد ترتيب أولوياتنا العلمية والتعليمية وفق بوصلة واحدة واضحة لا عوج فيها؛ هي بوصلة بناء الذات الحضارية المستقلة، الواثقة من نفسها، المعتزة بعلمائها وبانتمائها.