معركة باب الشزري: فرنسا تغزو الأندلس
ما قبل الإمبراطور
لم يكن شارلمان فعليًّا بحاجة لذلك اللقب الإمبراطوري الذي منحه إياه البابا في العام 800 من الميلاد، فمنذ تولى العرش على مملكة الفرنج في باريس في العام 768م جعل همه الأكبر محاربة أعداء الكنيسة الكاثوليكية بكل الطرق الممكنة، سواء كانوا من السكسون الوثنيين أو المسلمين الأندلسيين. فشارلمان هو حفيد ذلك القائد شارل مارتل الذي أوقف سيل المسلمين الجارف وهزم عبد الرحمن الغافقي وجيشه في بواتييه قرب باريس، وأنقذ المسيحية الأوروبية من زحف الإسلام، وعلى ذلك اعتبرت الدولة الفرنجية في فرنسا أن من حقوقها الأصيلة مواجهة أعداء المسيحية أينما كانوا، وعلى رأسهم الأندلس المجاورة.
السفارات قبل الحروب
لم تكن دولة الفرنج في خضم حروبها المتصلة مع السكسونيين لتهمل جارتها الجنوبية حيث يفصل بينهما جبال البيرينيه فقط، فبالرغم من أنه أثناء الحرب الأهلية بين القبائل في الأندلس وسقوط الخلافة الأموية في الشرق قد استعاد الفرنج جميع ممتلكاتهم التي حصل عليها المسلمون أثناء الفتح، وعاد الجنوب الفرنسي الذي كان المسلمون قد استولوا عليه سابقًا، إلا أنه من يضمن عدم تجديد المحاولة وخاصة بعدما وحد الأندلس ذلك الفتى الأموي عبد الرحمن بن معاوية صقر قريش؟ بهذا كانت السفارات المتصلة بين ملوك الفرنجة والخلفاء العباسيين، خاصة أبا جعفر المنصور وحفيده هارون الرشيد، لتجدد الود والصداقة بين الدولتين على عدوهما الأموي المستقر في بلاد الأندلس.
كيف بدأت القصة؟
نتيجة لكل ما سبق؛ لبث شارلمان يترصد بعين صقر كل الحوادث في الأندلس ويتأهب للتدخل فيها حين الحاجة، وقد برزت هذه الحاجة بقدوم والي برشلونة الأندلسية سليمان بن يقظان الأعرابي عليه لطلب النجدة.
البداية كانت حينما اتحد كل من والي برشلونة سليمان بن يقظان الأعرابي مع والي سرقسطة الحسين بن يحيى الأنصاري على خلع طاعة الأمير الأموي عبد الرحمن والاستقلال عن دولته، وذلك أثناء انشغال الأخير بقتال الداعي الفاطمي شقنة بن عبد الواحد. وبالرغم من ذلك لم يغفل عبد الرحمن عنهما، وأرسل إليهما قائده الأثير ثعلبة بن عبيد، وباستخدام الحيلة استطاع سليمان أن يأخذه أسيرًا عنده[2]. ولكن حتى مع انشغال عبد الرحمن بقتال الفاطمي فلا بد أنه سيتفرغ لهما يومًا ما، ولا طاقة لكليهما بقتاله ولا انتقامه، ولهذا اتفق الشريكان على الاستعانة بملك الفرنج شارلمان، بل على الدخول تحت حكمه.
وهكذا تمت الدعوة لملك الفرنج ليغزو الأندلس، وكعنوان لحسن النوايا سلم سليمان القائد ثعلبة بن عبيد إليه وهو من كبار قادة الأمير الأموي وخاصته، فتم سجنه في إحدى القلاع الفرنسية.
كانت تلك الدعوة في وقتها المناسب، فقد انتهى شارلمان لتوه من قبائل السكسون وأجبرهم على اعتناق المسيحية، وقد حان دور المسلمين الأندلسيين، والظروف مواتية بخيانة مفاتيح الشمال الأندلسي وانشغال أميرها الأموي في حربه مع الثائر الفاطمي، فجمع ملك الفرنج عدته وتحركت الجيوش لتعبر جبال البيرينيه صوب الأندلس.
بدا من تجهيزات الجيش الذي أعده شارلمان أنه أكبر من أن يكون مجرد نصرة لبرشلونة وسرقسطة فقط، بل يبدو أن ملك الفرنج كان يطمح لما هو أكبر من ذلك ليضمن عدم تدفق أي جيش إسلامي من الأندلس إلى فرنسا كما حدث في بلاط الشهداء، وهكذا عبر شارلمان جبال البيرينيه وأول ما قابل كانت المملكة المسيحية الصغيرة للبشكنش أو النافاريين في أقصى شمال الجزيرة الأندلسية.
حرب الدين أم حرب السياسة؟
كان تحرك شارلمان في ظاهره لحماية المسيحية من الإسلام، ولكن بدخوله إلى الأراضي الأندلسية اصطدم بمملكة البشكنش الصغيرة التي طالما رغبت في الاستقلال، سواء عن حكومة فرنسا أو حكومة قرطبة أو حكومة القوط من قبلهما[3]، ولكن شارلمان جاء للغزو والتوسع، فهو يغزو بلادهم ويدخل عاصمتهم بنبلونة بمنتهى العنف، حتى وإن كانوا وإياه على دين واحد وملة واحدة.
نقطة التحول
وفي يوليو من عام 778م وصلت جيوش شارلمان إلى مشارف سرقسطة، ولكنها وجدت المدينة العظيمة ممتنعة عليه ومغلقة لأبوابها في وجهه، وعلى أتم استعداد للحرب والقتال بالرغم من الاتفاق، وهنا كانت المفاجأة.. كان ذلك الخلاف راجعًا إلى الحسين بن يحيى الأنصاري والي سرقسطة، الذي يبدو أنه ندم على ما دخل فيه من ذلك التحالف ومن اتفاقه مع سليمان والي برشلونة، فاتخذ موقف الدفاع حتى يجد لنفسه عذرًا أمام غضب عبد الرحمن وانتقامه، وبهذا انقلب حال شارلمان ومعه والي برشلونة سليمان بن يقظان إلى موقف لا يحسدان عليه.
فهل يكون الرجوع حلًّا، وهل طريق العودة آمن؟
ولما رأى ملك الفرنج الحال قد انقلب؛ خاف على ما بيده وشك أنها الخديعة ليتم استدراجه بعيدًا عن بلاده فينقض عليه عبد الرحمن في أي وقت مستغلًّا انشغاله بحصار سرقسطة المنيعة، خاصة أن جيش الأمير الأموي من الضخامة في التجهيز وآلات الحصار التي بلغت ما يزيد عن الـ 36 منجنيقًا لم تكن في حسبانه[4]، أضف إلى هذا ما وصل إليه من نقض السكسون لعهودهم معه واستغلالهم لغيابه في الأندلس بعيدًا عن فرنسا.
ونتيجة لكل ذلك قرر أن يعود إلى بلاده، ولكنه لن يعود خالي اليدين، فقبض على رأس الأمر ومدبره سليمان بن يقظان والي برشلونة وأخذه معه في طريق عودته. على طرق العودة كان لا بد لجيش الفرنج من العبور على بلاد البشكنش للمرة الثانية، والتي امتنع أهلها عليه مرة أخرى وعاونهم في ذلك جيرانهم من المسلمين، ولكن جيش شارلمان دك حصونهم تلك ودخل بنبلونة عاصمتهم وهدم أسوارها حتى لا تمتنع عليه في أي وقت، ثم واصل شارلمان عودته إلى فرنسا.
الفخ والخسارة الفادحة
أثناء عبور الجيش الضخم من ممرات جبال البيرينيه كان الكمين متربصًا لهم بين الصخور الوعرة، فقد عاد ولدا الوالي المأسور (مطروح وعيشون) واتفقا مع حليف أبيهما القديم والي سرقسطة الحسين بن يحيى على قتال الفرنج، وتربصوا جميعًا لشارلمان وجيشه أثناء العبور.
وفي ممر باب الشزري أو ممر رونسفال أحد ممرات البيرينيه التي عبر منها الفرنج كان تحالف المسلمين مستعينًا بمعرفة البشكنش بتلك الجبال على أتم استعداد لمفاجأة العدو[6]، وهناك في الممر كانت النكبة على جيش شارلمان. فالهجوم على مؤخرة جيش الفرنج في الممر الضيق أسفر عن خسائر فادحة نتيجة لعجز الجيش عن الدفاع عن نفسه في الممر، فأخذتهم المفاجأة واختل نظامهم حتى انفصلت المؤخرة عن باقي الجيش، وتحرك الملك لينجو من هذا السيل المفاجئ وإن كان الثمن ضياع الخزانة الملكية بما فيها ومعها أكابر الفرسان والعتاد في خضم ذلك الكمين المهلِك.
نجا شارلمان من ذلك الهجوم الأندلسي على جيشه في الممر نعم، ولكن بخسائر عظيمة بعدما ضاعت الخزانة الملكية، وقُتل الكثير من قادته وأمرائه وعلى رأسهم إيجهارد رئيس خاصة القصر وكثير من رجال الحاشية والقصر، والأهم منهم قائده المشهور رولان، والذي تم نظم الأنشودة الشهيرة في فقدانه، وفوق كل من فقدهم استطاع مطروح وعيشون تحرير أبيهما سليمان بن يقظان والي برشلونة والعودة به مع غيره من الرهائن.
لوحة تمثل القائد رولان مقتولًا مع رجاله في معركة باب الشزري/ ممر رونسفال
وبالرغم من الهزيمة لم يلتفت شارلمان، فقد كان بين المطرقة والسندان ولا وقت عنده للرجوع، ففرنسا تناديه وهجمات السكسون قد وصلت إلى عقر أرضه، والمكوث في أرض الأندلس بعد تلك الهزيمة منذر بفقدان كل شيء إن وصل أميرها عبد الرحمن، ومن هنا كان لا بد من العودة إلى فرنسا بأي ثمن.
مصير الخيانة
بالرغم من عودة سليمان بن يقظان والحسين بن سعيد إلى ولايتيهما في برشلونة وسرقسطة بعد طرد الفرنج فإن الخيانة لا تعرف صاحبًا ولا تنكر عدوًّا، فها هو سليمان بن يقظان يتفاهم مع ثائر آخر قدم من وراء البحر رافعًا علم الطاعة للخليفة العباسي وهو عبد الرحمن بن حبيب الفهري الملقب بالصقلبي، والذي وصل إلى الأندلس وجمع الجموع للانقضاض على الأمير الأموي، ولكن اختلف الشركاء حتى هزم والي برشلونة حليفه السابق شر هزيمة وأسلمه لقمة سائغة إلى عبد الرحمن الأموي.
لكن دائمًا ما تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد وصل الشريكان إلى الاختلاف التام لدرجة أن الحسين بن يحيى دس على سليمان والي برشلونة من يقتله ليصفو له أمر الشمال الأندلسي وحده[7]، وعلى الجانب الآخر لم يكن صقر قريش ليترك ثأره مع أحد، فاستمر في التضييق على الحسين وحصاره المرة بعد المرة حتى استطاع أخيرًا القبض عليه وإعدامه، فعادت الخيانة على أهلها بالموت واستقر للدولة التي يؤسسها عبد الرحمن أمرها.
ولكن بعيدًا هناك في فرنسا كان شارلمان وبالرغم من المراسلات والهدنة بينه وبين عبد الرحمن فإنه ما زال يتربص وينظر للأندلس بعين الخوف والتوجس والطمع[8]، فهل تأتي له الفرصة يومًا بعد وفاة ذلك الصقر الأموي؟
- تاريخ أوروبا في العصور الوسطى – د. سعيد عبد الفتاح عاشور
- الكامل في التاريخ – ابن الأثير
- دولة الإسلام في الأندلس – محمد عبد الله عنان
- تاريخ بلد الأندلس في العصر الإسلامي – د. محمد بشير العامري
- الكامل في التاريخ – ابن الأثير
- دولة الإسلام في الأندلس – محمد عبد الله عنان
- كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر – ابن خلدون
- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب – المقري التلمساني