معركة تطبيق الشريعة تعيد رسم ماليزيا السياسية
قبل استقلال ماليزيا، وفي 14 مارس/آذار 1948 تأسس «الحزب الإسلامي في ماليزيا»[1]. وعند وضع دستور البلاد كان النص واضحًا على «علمانية الدولة» و«في حال تعارضت سلطات المحاكم الدينية مع المدنية فإن الحكم يصدر من المحاكم المدنية»، ما جعل الحزب يجعل تطبيق الشريعة هدفاً له عبر تغيير الدستور [2].
بهذه الكلمات يمكن تلخيص خلفيات دعوة تثير الكثير من الجدل في ماليزيا اليوم. ففي مسعى قديم متجدد يخوض الحزب، جولة جديدة في معركة تطبيق أحكام الشريعة، وإن كانت هذه المرة بصورة أكثر إثارة وقوة؛ فبإطلاق الحزب حملته لحشد التأييد للقضية في العام الماضي وتخليه عن براجماتيته المعهودة، حدثت اهتزازات وتصدعات أعادت رسم خريطة التحالفات السياسية في البلاد.
الخلافات عصفت بالتحالف المعارض بعد رفض الحزب الإسلامي دخول أي تحالف انتخابي ما لم يقم على أسس إسلامية، حيث صرح رئيس الحزب عبد الهادي أوانج أنه سيعمل فقط مع الأطراف التي تؤيد تطبيق الشريعة. ويسعى الحزب لتطبيق أحكام الشريعة في ولاية كلنتن التي يحكمها منذ 1990، وضمن ذلك تطبيق بعض الحدود.
عام الحسم.. أي الانشقاق!
وبسبب هذه المساعي تفكك التحالف، وتشكل مؤخراً تحالف معارض جديد، أسهمت بتأسيسه مجموعة منشقة من «الحزب الإسلامي» لديهم ميول ليبرالية. وانشقت تلك المجموعة العام الماضي بعد تصاعد النزاع حول ضرورة السعي لفرض الأحكام الشرعية، حيث شكل عام 2015، منعطفاً حاسماً في مسيرة الحركة الإسلامية عموماً، والحزب الإسلامي خصوصاً.
شهد الحزب موجة انشقاقات داخله، وخرج ما يطلق عليه: «الجناح التقدمي» بعد هزيمتهم في الانتخابات الداخلية يونيو/حزيران 2015، وسيطر ما يسمى بـ «جناح العلماء» على الحزب، وكوّن المنشقون «حركة الأمل الجديد» وأعلنوا أن عضوية الحركة مفتوحة لكل الماليزيين بغض النظر عن ديانتهم، وكان عماد الحركة الجديدة القادة الحركيين الذين لم يكونوا من الكوادر الشرعية.
وحاول المنشقون تسجيل حزب سياسي باسم «تقدم الإسلام»، لكن وزارة الداخلية لم توافق على إنشائه، فسيطروا على حزب صغير هو «حزب العمال»، وأعلنوه حزبًا إسلاميًا في 16 سبتمبر/أيلول 2015، وغيروا اسمه إلى «حزب الأمانة» ولهم ستة أعضاء حاليين في البرلمان.
جدل الشريعة
وقد أثارت مساعي تطبيق الحدود الشرعية بولاية «كلنتن» بشمال البلاد، عاصفة جدل وبخاصة ولايتي: «صباح» و«سراواك» واللتان تضمان نسبة كبيرة من المسيحيين والوثنيين. بينما يلقي اقتراح تطبيق الحدود تأييدًا كبيرًا من السكان في الولايات الشمالية، لاسيما ولايتا «كلنتن» و«ترينجانو» اللتان يحكمهما الحزب الإسلامي.
ورغم أن نواب ولايتي: «صباح» و«سراواك» الذين يشغلون 55 مقعدًا لا يمكنهم منع القوانين المقترحة وحدهم، فإن أصواتهم تلعب دورًا هامًا في المساهمة في تجميع الـ 148 صوتًا المطلوبة لتمرير القانون، ولا يملك الحزب الإسلامي منها سوى 14 نائبًا بالبرلمان، ويسعى لإقناع الأحزاب الأخرى بدعمه في هذا المقترح، إذ أن أي تعديل دستوري يتطلب موافقة ثلثي أعضاء البرلمان البالغ عددهم 222 نائبًا.
قادة الحزب الإسلامي ومتحدثيه، يؤكدون دائماً – من أجل طمأنة مخاوف أهالي ولايتي «صباح» و«سراواك» من المسيحيين والوثنيين الخائفين من وقوعهم تحت طائلة الحدود، إنها لن تطبق عليهم، ويؤكدون حق المسلمين في التحاكم إلى دينهم ما دام ذلك يتم بطريقة ديمقراطية وفي إطار دستوري سليم، وأنه في حالة ما إذا كان أحد طرفي أي نزاع يدين بدين غير الإسلام، فإن من الممكن أن تتم المحاكمة أمام محاكم مدنية.
في المقابل يؤكد المعارضون أن تطبيق الشريعة يتعارض مع مبدأ «العلمانية» الذي على أساسه تم انضمام الولايتين للاتحاد الماليزي، في تهديد مبطن بالمطالبة بالانفصال عن البلاد حال تم إقرار القانون، حيث تردد أن تطبيق الشريعة في ولاية كلنتن لن تكون سوى البداية لمشروع «أسلمة» الدولة الماليزية.
من ناحية أخرى، أثار تقديم القانون ردود فهل متباينة في الأوساط الإسلامية، فعلى سبيل المثال، طالب مفتي ولاية «بيراك»، الشيخ هاروساني زكريا، بتعديل القانون ليشمل جميع الولايات بلا استثناء. ففي حديثه مع صحيفة «فري ماليزيا توداي» في منتصف الشهر الجاري دعا لتعميم القانون مبيناً أنه ليس سياسياً وليس من مؤيدي «الحزب الإسلامي»، لكنه أمر شرعي يجب دعمه، ودعا النواب المسلمين في البرلمان للتصويت للقانون.
وأصدر حزب التحرير الإسلامي في ماليزيا بياناً أوضح فيه أن مشروع القانون «ليس جزءًا من الشريعة، فهو ليس أكثر من قانون برلماني آخر يجب أن يخضع لعملية إيداعه ومناقشته وإقراره من قبل الأغلبية، بينما الشريعة الإسلامية لا تخضع لموافقة الناس، لأنها قانون من عند الله سبحانه وتعالى، ويجب أن يطبقها البشر بغض النظر عن موافقة غالبية الناس من عدمها».
وسبقت تلك الخطوة محاولات خجولة للحزب لتطبيق الشعائر الإسلامية كان منها محاولة مسئوليه في ولاية «سيلانجور» وعضو المجلس التنفيذي للولاية، داتوك حسن علي، فرض حظر على بيع المشروبات الكحولية في المتاجر منافذ التجزئة في المناطق ذات الأغلبية المسلمة، إلا أن الحظر لم ينفذ بشكل كامل، برغم استجابة بعض أصحاب المحلات للقرار.
وفي عام 2011، أصدر المجلس البلدي في بلدة جايا سوبانج، توجيها لجميع منافذ تقديم الكحول بعدم توظيف العمال المسلمين وإلا فلن يتم تجديد تراخيص العمل السنوية، إلا أن القانون ألغي بعد اعتراضات غاضبة من السياسيين.
قانون 355
ينص مشروع القانون المقترح على تعديل قانون المحاكم الشرعية الصادر عام 1965، المعروف باسم «قانون 355»، لتمكين المحاكم الإسلامية من فرض أية عقوبة – عدا عقوبة الإعدام – على الجرائم التي تخالف الشريعة والمدرجة تحت اختصاص الدولة في الدستور الاتحادي، وتختص هذه الصلاحيات بولاية كلنتن فقط، ولا تطبق إلا على المسلمين فقط في الولاية. واتخذت حكومة الولاية التي يسيطر عليها الحزب هذا القرار منذ 1993، لكنه لم يدخل حيز التنفيذ حتى الآن بسبب اعتراض الحكومة الفيدرالية.
«ينصّ تعديل دستوري أضيف سنة 1988 على استبعاد الولاية القضائية للمحكمة العليا في مسائل الشريعة. فللمحاكم الشرعية سلطة قضائية حصرية على مسائل الشريعة، والمسائل التي تخصّ المسلمين. ويعني ذلك – ضمناً – أن القرارات التي تتخذها المحكمة الشرعية محمية من التماسات العمليات القضائية المدنية ومراجعاتها. كما يُسمح للولايات ومجالسها التشريعية بوضع قوانينها الخاصة المتعلّقة بمسائل الشريعة»، «ونتيجة لذلك، تفسَّر الشريعة الإسلامية تفسيراً مختلفاً في كل ولاية، مما يؤدّي إلى عدم توافق الأحكام»[3].
وللحصول على الموافقة لمشروع القانون، يحتاج الحزب الإسلامي لإجراء تعديل دستوري في مجلس النواب، ودون إقرار هذا التعديل قد لا يستطيع الحزب تطبيق الشريعة في كلنتن، حيث تنص اللائحة التاسعة من الدستور على أن نظام العدالة الجنائية بأكمله يبقى اختصاصًا فيدرالياً لا يختلف من ولاية لأخرى.
تتبع ماليزيا النظام الفيدرالي والذي يعطي لحكومات وبرلمانات الولايات بعض الصلاحيات المحدودة، إلا أن مسألة التشريعات العقابية تحتاج إلى موافقة من البرلمان الاتحادي قبل تطبيقها في الولاية. وتقتصر سلطة المحاكم الشرعية حالياً على المعاقبة بالسجن لمدة لا تزيد على ثلاث سنوات والجلد بما لا يزيد على ستة ضربات بالسوط، أو غرامة لا تزيد على 5 آلاف رينجت ماليزي.
وتعد ولاية «كلنتن» معقل «الحزب الإسلامي» منذ تأسيسه، وتنتشر المدارس الإسلامية بعاصمته (كوتابارو) ويأتيها الطلاب من الولايات البعيدة والدول المجاورة لدراسة علوم الشريعة، وتدير حكومة الحزب الإسلامي في كلنتن «المؤسسة الإسلامية الكلنتنية»، وتتبعها حوالي 90 مدرسة في أنحاء البلاد.
و«بدأ السياسيون الملايويون ذوو الآراء العلمانية استخدام اللغة السياسية للإسلام؛ من أجل كسب الشعبية السياسية والبقاء». و«سعت حركات الانبعاث بقيادة أنور إبراهيم إلى أسلمة النظام من داخل الحكومة. فانضمّ عدد من الناشطين الحداثيين الرئيسين إلى الحكومة»[4].
ويبقى الانتقال من نظام مدني/علماني إلى «نظام إسلامي» معضلة نظرية وتطبيقية تواجه الإسلاميين في مختلف المجتمعات المسلمة بوتيرة متكررة.. والآن فإن الدور على ماليزيا.
[1] الحركة الإسلامية في ماليزيا (نشأتها، منهجها، تطورها) – محمد نوري الأمين بن إندوت – دار البيارق – الأردن – 2000 – ص 60.[2] الحركة الإسلامية في ماليزيا (نشأتها، منهجها، تطورها) – مصدر سبق ذكره – ص 108.[3] ماليزيا.. إضفاء البيروقراطية على الدين – 5/ 8/ 2016 – خلاصة من بحث: نواب عثمان، إضفاء البيروقراطية على الدِّين في ماليزيا، ضمن الكتاب 111 (مارس/آذار 2016) «الشرطة الدينية»، الجزء الثَّاني، مركز المسبار للدراسات والبحوث – دبي. نقلًا عن موقع ميدل ايست أونلاين.[4] ماليزيا.. إضفاء البيروقراطية على الدِّين – مصدر سبق ذكره.