معركة الموصل: رقعة شطرنج الصراع القادم
مع تصاعد الخلاف بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا على خلفية انهيار اتفاق الهدنة في سوريا، يبدو أن خطة تحرير الرقة من تنظيم الدولة (داعش)، قد وضعت على الرف إلى أجل غير مسمى، بينما تتحدث كل الأطراف عن معركة الموصل الوشيكة.
لطالما تطرقت مختلف الأطراف إلى معركة «تحرير» الموصل منذ سيطرة التنظيم عليها في حزيران/يونيو 2014، لكن الحديث يبدو هذه المرة أكثر جدية وواقعية؛ الأمر الذي انعكس على مواقف الأطراف التي ستشارك – أو تود المشاركة – في المعركة وتصريحاتها وعلاقاتها البينية.
لماذا الموصل؟
الموصل ثاني أكبر مدن العراق، وقد بلغ عدد سكانها مليوني نسمة، قبل أن يتراجع إلى 1.3 – 1.5 مليون شخص، حسب بعض المصادر، بعد نزوح جزء من أهلها منها (وبإضافة النازحين إليها قد يعود العدد إلى حدود المليونين)، أغلبهم من العرب السنة إضافة للأكراد والتركمان وبعض الأقليات الأخرى، وهي مركز محافظة نينوى، وتبعد عن بغداد مسافة 465 كلم.
بيد، ليست هذه هي أسباب الاهتمام المبالغ به هذه الأيام بالمدينة، ولا موقعها الجغرافي، ولا النفط والتجارة، ولا حتى تاريخها العريق أو المحطات التي مرت بها في الماضي سيما النزاع بين كل من بريطانيا وتركيا والعراق على ملكيتها، وهو الصراع الذي انتهى لصالح الأخيرة عام 1925.
فما وضَع المدينة على رأس الأجندة الدولية كان سيطرة تنظيم الدولة – داعش عليها في حزيران 2014، ثم الإعلانات المتكررة من التحالف الدولي عن قرب معركة «تحريرها» منه، ثم التقارير والخطط المتواترة مؤخرًا عن توقيت وشيك جدًا لبدئها، ربما قبل نهاية شهر تشرين الأول/أكتوبر الجاري.
ما بعد داعش
رغم التحذيرات الأمريكية السابقة والمستهجنة عن الحاجة إلى حوالي 30 عامًا لهزيمة «داعش»، ورغم التقارير التي تحدثت عن استعداداته الدؤوبة للمعركة القادمة داخل الموصل، بما في ذلك الألغام والمفخخات وإغلاق الطرق وحفر الشوارع، ورغم أن الموصل هي معقل التنظيم الأكبر -عاصمته- في العراق؛ إلا أن ما يشغل الدوائر السياسية والإعلامية ليس المعركة بحد ذاتها، وإنما مرحلة ما بعد المعركة.
ثمة ثقة مبررة بالقدرة على دحر التنظيم من الموصل بالنظر إلى الأطراف المشاركة وإمكاناتها وعديدها، بل ربما تتجاوز بعض التحليلات ذلك لترجيح انسحاب التنظيم من المدينة دون قتال، أو بالأحرى دون قتال مستميت (وإن كنت أستبعد ذلك).
وبالتالي فالنقاشات المتداولة والنزاعات القائمة حاليًا تدور حول محور واحد رئيس، وهو دور كل طرف من الأطراف في المعركة المنتظرة، باعتبار أن ذلك سيحدد إلى حد كبير دوره فيما بعد المعركة على مستويين في غاية الأهمية: التركيبة الديمغرافية في الموصل، والتوازنات السياسية في العراق ككل.
التوتر العراقي – التركي
أدت حرب الخليج الثانية (1990 – 1991) وما بعدها من سنوات إلى ضعف الدولة وسيطرتها على أطرافها، فكان من نتاج ذلك نشوء إقليم شمال (كردستان) العراق، كما كان من انعكاساته تمركز حزب العمال الكردستاني في معسكرات تدريب في جبال قنديل في شماله. بنتيجة التعاون بين تركيا والعراق، أعطيت الأولى صلاحيات «المتابعة الساخنة» لمجموعات العمال الكردستاني في شمال العراق بعد عملياتهم ضدها، وهكذا ما زالت أنقرة تقصف معسكرات الحزب منذ ذلك الوقت تبعًا لوتيرة هجماته.
أكثر من ذلك، وتحت لافتة التحالف الدولي لمكافحة تنظيم الدولة، أقامت تركيا معسكرًا لتدريب البشمركة العراقية والسكان المحليين للموصل (من العرب والتركمان والأكراد) في بلدة بعشيقة الواقعة 12 كم شمال شرق الموصل. تقول الرواية التركية إنها أنشأت المعسكر بناء على دعوة من والي الموصل، النجيفي، وباتفاق مع قيادة إقليم شمال العراق، وبالتنسيق مع وزارة الدفاع العراقية. لكن رفع أنقرة لعدد قواتها هناك وعتادهم أدى إلى أزمة مع حكومة العراق المركزية في ديسمبر/كانون الأول الفائت، وصلت إلى مجلس الأمن كشكوى عراقية (إضافة لاقتراح روسي آخر) دون نتائج حاسمة.
وخلال الأيام القليلة الماضية عاد التوتر ليصبغ العلاقات التركية – العراقية إثر تجديد البرلمان التركي مذكرة التفويض لقواته المسلحة بالقيام بعمليات عسكرية خارج الحدود (سوريا والعراق) دون أي تغيير في القوات المتواجدة في المعسكر؛ الأمر الذي يمكن تفسيره في إطار الضغط على تركيا لعدم المشاركة في معركة الموصل.
هدد العبادي بـ«حرب إقليمية» ورفع شكوى لمجلس الأمن الدولي ما لم تسحب تركيا قواتها، كما عبر بوضوح أنه «لن نسمح لتركيا أبدًا بالمشاركة في معركة الموصل»، بينما ارتفعت حدة الردود التركية بعد محاولات الاحتواء الأولى على لسان رئيس الوزراء الذي نصح نظيره العراقي بالعمل على حقن دماء العراقيين وأن يتعلم «كيف تكونون دولة قبل أن تنتقدوا تركيا» كي لا تتحول تصريحاته إلى «فكاهة».
تدرب حتى الآن في معسكر بعشيقة على أيدي المدربين الأتراك ألفان من البشمركة وثلاثة آلاف من أبناء المنطقة الذين تسموا بـ «الحشد الوطني»، ولهؤلاء أهمية كبيرة – إضافة لغيرهم – في إستراتيجية التحالف المحتاجة إلى عناصر محلية ميدانية تواجه التنظيم برًا، وتريد تركيا معهم أن تعيد تجربة الجيش السوري الحر في «درع الفرات»، بحيث يكونون هم أساس القوات البرية المحلية؛ بما يقلل من الاعتماد الأمريكي – الدولي على الميليشات الكردية و«الشيعية» في العراق.
تتلخص المحددات التركية لمشاركتها إلى جانب البشمركة والحشد الوطني مع التحالف الدولي لدحر داعش من المدينة بالحفاظ على وحدة الأراضي العراقية، وسلامة الحدود التركية، ومنع حدوث موجات كبيرة من اللاجئين، وإيواء من ينزح أو يهجر منهم، بينما يبدو أن لها ثلاثة أهداف رئيسة من هذه المشاركة:
الأول، ستتيح مشاركة أنقرة في المعركة لها إدامة وتجديد مشروعية تواجدها على الأراضي العراقية، وستعطيها كلمة ودورًا في مستقبل العراق، سيما فيما يتعلق بالبنية السكانية (عرقيًا ومذهبيًا) للموصل.
الثاني، ستكون مشاركة القوى «السنية» التي دربتها أنقرة في المعركة عامل استقرار في المدينة من خلال منعها الاحتكاك/الاحتقان الطائفي الذي رافق عمليات الحشد الشعبي سابقًا وورقة توازن بالنسبة لأنقرة في تنافسها مع إيران في العراق، ذلك أن كل دور تضطلع به أي قوة محلية ينعكس على الطرف الإقليمي الداعم لها بطبيعة الحال.
الثالث، سد الطريق أمام كسب حزب العمال الكردستاني مشروعية إقليمية – دولية عبر المشاركة في المعركة وفق نفس السيناريو الذي اتبعه نظيره السوري حزب الاتحاد الديمقراطي، سيما وأنه شارك في معركة سنجار ويستعد للمساهمة في الموصل في ظل إشارات إيجابية من واشنطن، لكنها – أي أنقرة – لم تضع استثناءه من المعركة شرطًا لمشاركتها فيها كما حصل في سوريا.
واشنطن وبغداد وطهران والأكراد
في ظل غياب أي قوات برية للتحالف الدولي والحاجة الملحة لقوات برية محلية، تتحول معركة الموصل إلى أشبه بلعبة الشطرنج الحذرة والبطيئة التي تتعقد فيها التحالفات والمواجهات باعتبار أن لكل طرف أكثر من خصم وحليف، وتعتمد كل خطوة بشكل كبير على خطوات الخصم السابقة عليها.
تريد إيران، عبر حكومة العبادي، أن تدور المعركة تحت قيادة التحالف والحكومة المركزية حصرًا، وبحيث تشترك بها قوات الحشد الشعبي و«قوات حماية شنكال» الإزيدية التي شاركت قبلاً في معركة سنجار، دون دور كبير لتركيا وقوات البارزاني. مؤخرًا، وفي السياق ذاته، تحدثت الغارديان البريطانية عن رغبة إيرانية بدمج مسلحي حزب العمال الكردستاني مع قوات الحشد الشعبي، وافق عليها مستشار الأمن القومي العراقي فالح الفياض؛ لضمان مشاركة الحزب في العملية.
يدير البارزاني – رئيس إقليم شمال العراق – حسابات دقيقة بخصوص شبكة تحالفاته ومنافساته، فيرغب بالمشاركة في المعركة بقواته المتواجدة على مقربة من الموصل، ويبدو أقرب إلى تركيا من الحكومة المركزية في بغداد وداعمًا لمشاركة من تدربهم أنقرة من بشمركة وحشد وطني في المعركة، ومتعاونًا مع منافسه الطالباني في مواجهة حزب العمال الكردستاني وحركة التغيير الكردية (غوران).
من جهته، يريد حزب العمال الكردستاني أن يستثمر وجوده في سنجار غربي الموصل (شارك في «تحريرها» على تحفظ من البارزاني) بحيث يكسب مشروعية ما ويخرج نفسه من تصنيف قوائم الإرهاب، مستغلاً الحاجة الدولية لطرف قوي وصاحب خبرة عريضة في حرب العصابات مثله في المعركة، وبما سيقوي من موقفه في مواجهة كل من تركيا والبارزاني عسكريًا والولايات المتحدة ومختلف الأطراف سياسيًا فيما يتعلق بمستقبل الأكراد في المنطقة ككل.
أما الولايات المتحدة الأمريكية، فما زالت مصرة على إستراتيجيتها المتمحورة حول أقل تورط ميداني ممكن لجنودها والاكتفاء بالإدارة من الصفوف الخلفية، وبالتالي فهي بحاجة نظريًا لمشاركة كل الأطراف، وفي حاجة أكبر لمنع الاحتكاكات والتنافس والمواجهات – السياسية والعسكرية – بينهم. لا تبدو واشنطن متحمسة لدور تركي كبير في العراق على غرار ما حصل في سوريا، وربما يفسر ذلك تصريح الناطق باسم التحالف الدولي العقيد جون دوريان حول «عدم مشروعية» تواجد القوات التركية في العراق، وهي التصريحات التي تنصلت منها واشنطن واعتبرتها محرفة.
إذن، تريد الولايات المتحدة مشاركة الجميع لكن بحسابات خاصة ودقيقة. فالموصل ذات أغلبية عربية سنية في بلد غارق في الاستقطاب الطائفي والعرقي وتقوده حكومة مهمشة للسنة، ولم يمر سوى أسابيع قليلة على اتهامات للحشد الشعبي بممارسات طائفية. ولذلك تميل واشنطن لمشاركة الحشد الشعبي والبشمركة في محيط المدينة فقط، بينما يتفرد الجيش العراقي والمجموعات السنية المرافقة له بالمركز، وهي وجهة نظر توافق عليها أنقرة وتماطل بغداد في قبولها. الأطرف في الموقف الأمريكي أن حرصه على إشراك الجميع قد يمتد – وفقًا لبعض التقارير وحتى في آراء هيلاري كلينتون الديمقراطية في المناظرات – إلى حزب العمال الكردستاني المصنف إرهابيًا لديها، وبذلك قد يكون دمجه مع الحشد الشعبي فكرة سديدة بالنسبة لها.
خلافات ما قبل وما بعد
في ظل إصرار بغداد على عدم مشاركة أنقرة ومطالبتها بإخراج قواتها تمامًا ونهائيًا وإصرار الأخيرة على إبقاء قواتها في بعشيقة والمشاركة في معركة الموصل، أين تبدو طريق الحل؟
لا يبدو سيناريو الحرب الإقليمية التي هدد بها العبادي مرغوبًا من أحد رغم أنه ليس مستحيلًا في ظل حالة السيولة وسرعة التطورات غير المحسوبة، ولا يبدو التلميح التركي للمشاركة عبر بوابة إقليم شمال العراق وبدعوة منه عمليًا جدًا إذ تصر واشنطن على ضرورة الحصول على موافقة بغداد كدولة/حكومة ذات سيادة وتمثل العراق، كما لا يمكن تصور استثناء الآلاف من الجنود المدربين والمسلحين من أبناء المنطقة من المعركة وهم على بعد كيلومترات قليلة منها.
وأخيرًا، من الصعب توقع خروج تركيا تمامًا من شمال العراق بقرار من مجلس الأمن رغم أن صدور قرار من الأخير بات أوفر حظًا من الأزمة السابقة بعد تغير التحالفات والعلاقات في المنطقة، إثر تقارب أنقرة مع موسكو، وتوترها مع واشنطن.
وإذن فالحلول الوسطى هي المتاحة، وهي ديدن السياسة الأمريكية مع حلفائها وخصومها على حد سواء، ويبدو أن أنقرة ليست معترضة على ذلك. الصحافي التركي محرم صاري كايا كتب منذ أيام في عموده اليومي عن «مقترح تركي» مرر للحكومة العراقية عبر واشنطن تقبل أنقرة فيه بإشراف بغداد على معسكر بعشيقة ومشاركة القوات التي دربتها في المعركة تحت إمرتها بل واستعدادها لتدريب من تختارهم بغداد (ثمة اعتراض ضمني منها على تدريب البشمركة)، في مقابل بقاء المعسكر والقوات التركية على الأرض العراقية، ومشاركة تركيا في معركة الموصل.
هذا المقترح التركي كان موضوع مفاوضات بين الطرفين التركي والعراقي وفق مصادر دبلوماسية نقل عنها موقع الجزيرة ترك، وكان الاتفاق حوله وشيكًا قبل أن تتدخل طهران – مع قرب معركة الموصل – لإفشاله، وهو ما يعني أنه ما زال ممكنًا بوساطة أمريكية، أو ربما روسية باعتبار أن الأخيرة باتت مؤخرًا مقربة من الطرفين.
بيد أن حل خلافات ما قبل المعركة، التي يعتقد أنها ستطول وربما تتأجل ساعة صفرها، لا يعني انتفاءها في مرحلة ما بعد داعش. بالعكس تمامًا، فثمة الكثير من مساحات التنافس والمواجهة والاختلاف على «الرقعة» العراقية، أولًا في مرحلة ملء فراغ داعش، وثانيًا بخصوص النظام السياسي في العراق بعد استتباب الأمر للحكومة، وثالثًا فيما يتعلق بالمصالح الاقتصادية التركية في العراق – سيما شماله – في ظل الخصومة الشديدة مع الميليشات الكردية والشيعية، ورابعًا فيما يختص بمعسكر بعشيقة ومستقبله وإدارته وأهدافه.
كما أن هناك هواجس عراقية حول مطامع تركية مفترضة في الموصل التي ترى تركيا أنها «أُخذت» منها فيما بعد الحرب العالمية الأولى بدون وجه حق، وما زال لها حق فيها وفق اتفاقية أنقرة 1925 (بأخذ رأيها في أي نظام يُختار لها)، وباعتبار التواجد التركماني فيها وفي جوارها.
ورغم أننا نتوقع جدلًا كبيرًا حول مستقبل معسكر بعشيقة بعد زوال مسوغاته المحصورة بمواجهة داعش، إلا أن سيناريو المطالبات التركية بالموصل يبقى مستبعدًا جدًا في ظل الظروف الحالية، لكن الأحداث التي شهدناها في السنوات الأخيرة أثبتت مرة تلو المرة أنه لا مستحيل ولا حدود للمفاجآت في هذه المنطقة التي يعاد تشكلها وتشكيلها من جديد.