واقعة كربلاء: قراءة في التاريخ والمتخيل
مثلت واقعة كربلاء حدثاً مفصلياً في تاريخ الشيعة عموماً- والإمامية منهم على وجه الخصوص- إذ ظلت أصداء تلك الحادثة تتردد بين جنبات العقل الشيعي الجمعي منذ وقعت في العاشر من محرم من عام 61هـ وحتى اللحظة الراهنة.
كربلاء، مثلت اللحظة التاريخية الأخيرة التي شهدت محاولة من جانب أحد الأئمة الاثنا عشر للعمل على إعادة الدمج ما بين منصبي الخلافة والإمامة، إذ إن الخط الشيعي الإمامي بعدها، ظل محافظاً على منهجه الداعي لترك السياسة والبعد عن شؤون الحكم والسلطان والاكتفاء بالجانب الدعوي والروحي فحسب.
الباحث في الروايات الخاصة بموقعة كربلاء، سيلاحظ أن هناك اختلافاً كبيراً بين السياقين الروائيين السني والشيعي، وذلك فيما يخص المسائل المتعلقة بدوافع خروج حفيد الرسول من مكة إلى العراق، وموقفه من القتال، وتقدير حجم الجيشين المتحاربين، فضلاً عن الاعتقاد بمجموعة من الوقائع الأسطورية التي ارتبطت بتلك المعركة.
ما قبل المعركة
في سنة 60هـ توفي الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان، وبويع لابنه وولي عهده يزيد ليصبح ثاني خلفاء الدولة الأموية. الحسين بن علي بن أبي طالب كان واحداً من الرجال القلائل الذين جاهروا برفضهم لبيعة يزيد، وأمام تضييق الخناق عليه من قِبل الأمويين في المدينة المنورة، سافر حفيد الرسول إلى مكة عائذاً بالبيت الحرام، وظل مجاوراً له حتى أتته رسائل شيعته من أهل الكوفة يطالبونه فيها بالقدوم عليهم لمبايعته بدلاً من يزيد.
الحسين استجاب لدعوة الكوفيين، فأرسل لهم بابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب ليتأكد من حقيقة رسائلهم، ولما وصلته رسالة مسلم المؤكدة لحقيقة نصرة الكوفيين إياه، عزم على السفر للكوفة واصطحب معه مجموعة من أهله وأبنائه.
تحرك الحسين نحو الكوفة، وكان في أول مسيره لا يعرف ما استجد من أخبار شيعته هناك، وأنهم قد تراجعوا عن نصرته بعد ما ضيَّق الوالي الأموي عبيد الله بن زياد الخناق عليهم، ولكنه- أي الحسين- لما دخل أرض العراق واقترب من الكوفة، ترامت إلى مسامعه أخبارها، وعرف بمقتل مسلم وانفضاض الشيعة وتفرقهم.
في تلك المرحلة، قابل حفيد الرسول عدداً من المسافرين الذين خرجوا من الكوفة، ومنهم الشاعر الفرزدق الذي نصح الحسين بالرجوع، وأخبره أن أهل الكوفة «قلوبهم معك وسيوفهم عليك»، ووصف له الوضع المضطرب في هذا المصر، وكيف أن ابن زياد قد تمكن بواسطة الترغيب والترهيب من إخضاع الشيعة وإخراج فكرة الثورة من عقولهم، وذلك بحسب ما يذكر أبو حنيفة الدينوري في كتابه «الأخبار الطوال».
تحمل المصادر التاريخية الكثير من التفصيلات الدقيقة حول الأحداث التي مرت بمسيرة الحسين حتى وصولها إلى أرض كربلاء، تلك التي شهدت خاتمة مؤسفة وحزينة لتلك المسيرة، ففي يوم العاشر من محرم عام 61ه/ التاسع من أكتوبر عام 690م، وقع القتال في كربلاء ما بين الحسين ومن معه من أهله وأنصاره القلائل من جهة، والجيش الأموي من جهة أخرى، وتمخضت تلك الواقعة عن استشهاد الحسين والكثير من أبنائه وإخوته، واقتيدت البقية الباقية من أهله كأسرى حرب، حيث حُملوا إلى والي الكوفة عُبيد الله بن زياد، ثم تم إرسالهم بعد ذلك إلى الخليفة يزيد بن معاوية في دمشق.
دوافع الخروج والموقف من القتال
من النقاط المهمة التي ينبغي ملاحظتها على قصة خروج الحسين إلى الكوفة، أن هناك اختلافاً كبيراً ما بين السياقين الروائيين السني والشيعي فيما يتعلق بمسألة دوافع خروج الحسين إلى كربلاء، الأمر الذي ترتب عليه حدوث اختلاف عميق وجذري في الحكم على نتائج تلك الحركة الثورية المعارضة للحكم الأموي.
على سبيل المثال، تؤكد الكثير من المصادر التاريخية السنية – ومنها على سبيل المثال كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري- أن الحسين لما عرف بمقتل مسلم بن عقيل، فإنه قد همَّ بالقفول عائداً إلى مكة، وإن ما منعه عن ذلك، هو أن إخوة مسلم بن عقيل قد ألحوا عليه في استكمال المسير ودخول الكوفة، بغية أخذ ثأر أخيهم المقتول من عُبيد الله بن زياد.
ويوجد العديد من الباحثين الشيعة المعاصرين- ومنهم على سبيل المثال الباحث الإيراني الدكتور رسول جعفريان في كتابه «الحياة الفكرية والسياسية لأئمة آل البيت»- الذين رفضوا تلك الروايات وضعفوها، واعترضوا على صحتها، وذكروا أن تلك الرواية قد اختُلقت في العصر العباسي، عندما حاول مخترعوها أن يرفعوا الحرج عن عبد الله بن العباس، لكونه لم يشارك في المسير إلى كربلاء مع الحسين، ذلك أن الرواية بينت أن المسير إلى كربلاء كان مجرد ثأر شخصي لإخوة مسلم بن عقيل، وأنه لم يكن يحمل أبعاداً سياسية أو دينية أخرى.
اختار السياق الروائي السني إذن، أن يظهر حركة الحسين بن علي على كونها استجابة لدوافع سياسية زمنية حدثت في الدولة الإسلامية عقب وفاة معاوية واستخلاف يزيد، ومن هنا فإن ثورة الحسين كانت– في العقل السني- مشابهة في الكثير من النقاط لعدد من الثورات التي حدثت من بعده، والتي قامت على أساس نفس الدوافع، مثل حركة عبد الله بن الزبير في مكة على سبيل المثال، ولهذا لم تحظ حركة الحسين بقدسية كبيرة في الفكر السني الجمعي، فقد تم النظر لها على كونها مجرد محاولة فاشلة للخروج على الحاكم، بل إن هناك عدداً من العلماء السنة، قد أعلنوا صراحةً عن خطأ الحسين في اجتهاده ورأيه في الخروج، حتى قال بعضهم «إنما قُتل الحسين بسيف جده»، في إشارة للكثير من الأحاديث النبوية التي تدعو للسمع والطاعة للسلطان والخليفة.
ويحق لنا أن نتساءل عن تقييم علماء السنة لتلك الثورة، في حالة أن كان قد قُدر لها النجاح، إذ كان من المؤكد أنهم كانوا سوف يعترفون بها ويشرعنوا لها، وذلك وفق القواعد السياسية الحاكمة عند أهل السنة، تلك التي ترى شرعية الحاكم المتغلب.
على الجانب الآخر، فإننا نجد أن السياق الروائي الشيعي، لا يجعل خروج الحسين مربوطاً بظروف وقتية، فلا يتم تبرير الخروج برفض الحسين لولاية يزيد، بل يجعل ذلك أمراً متعلقاً وموقوفاً على وفاة معاوية، وأن ثورة الحسين كانت أمراً مقدراً في سابق العلم الإلهي، وأن الهدف الأسمى لها قد تمثل في المقام الأول في إقامة الحجة على المسلمين وإظهار طريق الحق والعدل لهم.
لتوضيح تلك النقطة، يقول العالم الشيعي محمد بن محمد بن النعمان العكبري، المشهور بالشيخ المفيد:
بموجب تلك النظرة، فإن خروج الحسين وثورته ضد الدولة الأموية، كان قدراً حتمياً لا يمكن تغييره أو تبديله بحسب ما يقول بعض الباحثين الشيعة المعاصرين، ومما يؤكد على ذلك، أن الكثير من الروايات الواردة في المصادر الشيعية، تؤكد أن الحسين كان يعرف ويوقن بأنه سوف يُقتل في منطقة كربلاء تحديداً، وأنه كان متأكداً من أن أهل الكوفة سوف يخذلونه ويخونونه ويتركونه وحيداً أمام جحافل الأمويين المتعطشة لدمائه.
هذا الخلاف يظهر مرة أخرى في مسألة رد فعل الحسين عندما تيقن من تخلي الكوفيين عنه. فقد أكدت الروايات السنية، مفاجأة الحسين من تخلي أهل الكوفة عنه، وعلى تفكيره في الرجوع إلى مكة، بل أن هناك مجموعة من الروايات التي أكدت أن حفيد الرسول قد طلب الرجوع من قائد مقدمة الجيش الأموي الحر بن يزيد الرياحي، وأنه بالفعل قد غير طريقه وقفل راجعاً إلى الحجاز، إلا أن الأمويين قد أجبروه على العودة إلى طريق الكوفة مرة أخرى، وذلك بحسب ما يذكر ابن صباغ المالكي في كتابه «الفصول المهمة».
في السياق نفسه، ذكرت الكثير من الروايات السنية أن الحسين لما أيقن بحتمية هزيمته، فإنه قد عرض ثلاثة أمور على قائد الجيش الأموي عمر بن سعد، وهي أن يتركه ليرجع إلى مكة أو أن يدعه يذهب لأحد ثغور الجهاد، فيقضي به ما تبقى من عمره في قتال الروم أو أن يدعه يذهب إلى دمشق لمقابلة يزيد بن معاوية، وأن عمر بن سعد قد أرسل تلك العروض الثلاثة إلى والي الكوفة عُبيد الله بن زياد، غير أنه رفضها كلها، الأمر الذي أجبر الحسين على خوض تلك المعركة الخاسرة.
السياق السني إذن، يعتقد أن الحسين وحتى اللحظة الأخيرة- كان يعمل على تجنب القتال، وأنه كان يحاول الوصول لحل وسط مع الأمويين.
أما السياق الشيعي، فإنه يرفض بشكل قاطع كل الروايات التي تحدثت عن محاولة الحسين للوصول لحلول وسط مع الجانب الأموي، بل ويؤكد أنه كان موفَّقاً ومصيباً في مسألة إصراره على القتال ضد الأمويين، بغض النظر عن تيقنه من الهزيمة.
وقد يظهر سؤال مهم يتعلق بتلك النظرة الشيعية للموقف، وهو لماذا سار الحسين إلى العراق وهو يعرف أن أهل العراق لن ينصروه، وأنه سوف يُقتل في كربلاء، وما ثمن تلك التضحية التي قدمها؟
تجيب بعض الأصوات الشيعية على هذا السؤال، بأن ثورة الحسين «كان لا بد منها لكونها السبيل الوحيد لطمس البدع ولإحياء معالم السنة النبوية وكسر طوق الصمت الذي برر تجاوزات الحكم الأموي»، وذلك بحسب ما تذكر الباحثة العراقية الدكتورة نغم الكنعاني في كتابها «المواقف السياسية لأئمة آل البيت».
ومن هنا نستطيع أن نلاحظ كيف حمل كلٌّ من السياقين رؤية مختلفة لأحداث كربلاء، فبينما قيّم السياق السني نتائجها على أسس مادية عملية مجردة، فإن السياق الشيعي قد تعاطى معها بشكل معنوي ومثالي.
البُعد الأسطوري في معركة كربلاء
من النقاط المهمة التي ينبغي الالتفات إليها فيما يخص أحداث معركة كربلاء، أن الروايات الشيعية قد رسمت صورة أسطورية لقتال الحسين وأنصاره في تلك المعركة، فجعلت منهم أبطالاً خارقين لا يُشق لهم غبار، وبالغت في إظهار بطولاتهم وشجاعتهم وإقدامهم على الموت والاستشهاد بقلوب ثابتة لا تعرف الخوف أو التردد. وقد خصت الروايات بعضاً من أصحاب الحسين بتفصيلات دقيقة لكيفية وظروف قتالهم، ومن هؤلاء كل من الحر بن يزيد الرياحي، وزهير بن القين، وأبي الفضل العباس بن علي بن أبي طالب، وبالطبع كان الحسين بن علي على رأس تلك القائمة.
في السياق نفسه، حاولت الروايات الشيعية أن تؤكد عظم بطولة الحسين وأتباعه، من خلال ذكر أعداد غير منطقية للقوات المتحاربة في المعركة. فبالنسبة لعدد أنصار الحسين، فإن الروايات تحصرهم فيما بين 70 و150 مقاتلاً ما بين فارس وراجل، وهو عدد نراه منطقياً في ظل اجتماع الأخبار على أن الحسين لم يكن قد تجهّز للقتال، وأن غرضه الرئيس من المسير كان مجرد الوصول لمعقل شيعته في الكوفة.
أما بالنسبة لعدد مقاتلي الجيش الأموي، فالروايات الشيعية تؤكد على تراوحه ما بين 20 و30 ألفًا، وهو عدد ضخم جداً، لا يتفق مع القدرات التعبوية التي كان في مقدرة الكوفة حشدها في ذلك الوقت القصير من جهة، كما أنه لا يتماشى مع الروايات المتواترة بخصوص طول فترة القتال الذي حدث ما بين أنصار الحسين والأمويين في كربلاء، إذ إنه لو صدقنا أن الأمويين كانوا يزيدون على العشرين ألفاً، فمن المؤكد أن المعركة لم تكن لتأخذ أكثر من دقائق معدودة ليس أكثر.
في السياق نفسه، ارتبطت معركة كربلاء بالكثير من المعجزات والخوارق التي انتشرت بشكل كثيف في المصادر القديمة، والتي قصد من ورائها التأكيد على أهمية تلك الواقعة في المِخيال الإسلامي، ذلك أن هناك الكثير من المعجزات التي ارتبطت بقصة مقتل الحسين بن علي في كربلاء، ولم يقتصر ذكر تلك المعجزات والخوارق على المصادر الشيعية فحسب، بل إن الكثير منها قد وجد طريقه إلى المصادر السنية كذلك.
من تلك الروايات أن مقتل الحسين في كربلاء كان أمراً مقدوراً، وأن الرسول قد أخبر عنه أصحابه في حياته، كما أن التربة التي كان الرسول قد أعطاها لأم سلمة قد تحولت دماً ساعة مقتل الحسين، ويضاف إلى ذلك ما ورد عن تفجر الأرض بالدماء واحمرار الشمس، وغير ذلك من الخوارق التي زاد فيها المؤرخون على مر القرون في محاولة لإثبات الأهمية البالغة لتلك الحادثة المفصلية في تاريخ المسلمين.