معركة “لافوربيه”.. حطين الثانية!
محمد شعبان أيوب*
كانت وفاة الناصر صلاح الدين الأيوبي (ت589هـ) –المؤسس الحقيقي للدولة الأيوبية– إيذانًا بتفسّخ الجبهة الداخلية لهذه الدولة الناشئة، صحيح أنه ظهر بعد ذلك عدد من القادة الأيوبيين المهمين مثل أخيه العادل أبي بكر بن أيوب (ت615هـ) وابن أخيه الكامل محمد (ت635هـ)، لكن تقسيم الدولة إلى فيدراليات أدى إلى ظهور التصارع فيما بينهم على بلاد الشام ومصر وشمال الجزيرة الفراتية، وكان لهذا التصارع أثره السيء على مسار المواجهة الإسلامية الصليبية، فضلاً عن تفكك البنية الداخلية للدولة الأيوبية.
أدى التصارع الأيوبي الأيوبي إلى بحث كل فريق عن آخرين يدعمونه في مواجهة صاحبه، فبينما استعان الأخوان الأشرف موسى بن العادل والمعظّم عيسى بالصليبيين في بلاد الشام ضد أخيهما الكامل محمد سلطان مصر وكبير الأيوبيين، استعان الأخيرُ في العام 626هـ بالإمبراطور الألماني فردريك الثاني، وكانت عاقبة هذا التحالف تسليمه بيت المقدس في اتفاقية مستهجنة، وكانت بنود هذه الاتفاقية تنصّ على تسليم بيت المقدس للصليبيين طواعية دون أن يُحدثوا سورًا أو قلعة أو يتعرّضوا لمصالح المسلمين ومقدساتهم فيها؛ إذ أراد الكامل من خلال هذه الاتفاقية أن يأمن جانب الصليبيين ليتفرّغ إلى الصراع الأيوبي الأيوبي، وهو الصراع الذي أدى إلى وهن المملكة الأيوبية عسكريًا وتشرذمها سياسيًا بعد وفاة صلاح الدين حتى استيلاء المغول على بلاد الشام في العام 658هـ[1].
ولم تكن وفاة الكامل في العام 635هـ عاملاً حاسمًا في إيقاف ذلك الصراع داخل البيت الأيوبي، فسرعان ما نشب الصراع ذاته بين ابني الكامل؛ العادل الثاني والصالح أيوب، وبعض أعمامهم وأولاد أعمامهم مثل الصالح عماد الدين إسماعيل، والناصر داود بن المعظّم عيسى والملك المجاهد والملك المظفّر وغيرهم؛ ولقد استغل الصليبيون هذا الصراع ليعزّزوا من وجودهم في البيت المقدس فبنوا قلعة، وبالرغم من أن المعظّم عيسى صاحب دمشق كان قد هدم معظمها إلا أن ابنه الناصر داوود اتجه في العام 637هـ وهدم البرج المتبقي منها والذي كان الصليبيون قد أسموه برج داوود، ثم أجلاهم إلى بلادهم وهو الفعل الذي حمده عليه بعض الشعراء كابن مطروح[2] وغيره[3] مستلهمًا روح جده الناصر صلاح الدين في العام 583هـ في حطين.
لكن في تصرّف مُشين عاد الناصر داوود إلى تسليم بيت المقدس للصليبيين في أواخر العام ذاته 637هـ[4]؛ نكاية في ابن عمه الصالح أيوب الذي أخلف وعده معه برد قلعة الشوبك ودمشق وبلادها إليه بعدما ساعده على خلع أخيه العادل الثاني من حكم مصر.
أما في الشام فقد نشب في أول الأمر صراع بين الصالح إسماعيل صاحب دمشق وابن أخيه الناصر داود صاحب الكرك، وطلب الصالح إسماعيل من الصليبيين مساعدته في مقابل تسليمهم جميع ما فتحه صلاح الدين الأيوبي ثم تطور ذاك الصراع إلى إقامة حلف مناهض للصالح أيوب في مصر حيث رآه المتحالفون وعلى رأسهم الصالح إسماعيل والناصر داوود -ومتناسين خلافتهما مؤقتًا- خطرًا مباشرًا يتهددهم[5].
وسرعان ما طالب الصالح إسماعيل الصليبيين أن ينضموا إلى أيوبيي الشام في حلفهم الجديد بل ووعدهم بتسليمهم جزءًا من مصر بعد هزيمة الصالح أيوب، لكن الصليبيين لم يرضوا إلا بمنح الصالح إسماعيل لهم – على سبيل المبادرة – صفد وشقيف ونصف صيدا وطبرية وسائر بلاد الساحل في الشام فأذعنَ، كما سمح لهم بدخول دمشق وشراء السلاح منها، مما أغضب المسلمين، فأفتى الشيخ عز الدين بن عبد السلام وكان قاضي المدينة وخطيب جامع دمشق بتحريم بيع السلاح للصليبيين، وقطعَ الدعاء للصالح إسماعيل في جامع دمشق، فعزله الصالح، فلم يجد العزّ بدا من المسير إلى مصر حيث ولاه السلطان نجم الدين أيوب الخطابة بـجامع عمرو بن العاص وقلّده قضاء مصر “الفسطاط” والوجه القبلي[6].
وبالرغم من محاولات للصلح بين الصالح أيوب وعمه الصالح إسماعيل والتي نجحت في أول الأمر، إلا أنه سرعان ما دبّ الشقاق بين الجانبين، وعاد الصالح إسماعيل واتفق مع ابن أخيه الناصر داود وانضم إليهما صاحب حلب وصاحب حمص الأيوبيين ضد الصالح أيوب، ولم يكتف الصالح إسماعيل بزعامة هذا الحلف الأيوبي ضد ابن أخيه الصالح نجم الدين في مصر، بل اتصل بالصليبيين مرة أخرى في عام 641هـ بعد أن علم بمراسلة الصالح نجم الدين لبقايا الخوارزمية في جنوب شرقي الأناضول وكانوا بمثابة المرتزقة آنذاك عقب سقوط دولتهم[7].
ولم يكتف بهذا؛ إذ سلّم إسماعيل عدة مناطق جديدة للصليبيين منها بيت المقدس وطبريا وعسقلان، ويروي المؤرخ ابن واصل الحموي أثناء مروره بمدينة القدس سنة 641هـ فيقول: “فرأيتُ الرهبان والقسوس على الصخرة المقدسة، وعليها قناني الخمر برسم القربان، ودخلتُ الجامع الأقصى وفيه جرس معلّق، وأُبطل بالحرم الشريف الآذان والإقامة، وأُعلن فيه بالكفر“[8]، ولم يكتف الصالح إسماعيل بذلك بل وعدهم بأنهم إذا استولوا على البلاد المصرية فسوف يُعطيهم كافة المناطق الساحلية[9].
كان الرد الطبيعي لهذا الفعل المخزي الذي قام به الصالح إسماعيل أن قام الصالح أيوب في مصر بطلب مساعدة الخوارزمية بجانب قواته العسكرية من المماليك، والقوات الخوارزمية هي القوات التي قبلت أن تدخل في حلف مع الصالح أيوب بعدما سقطت الدولة الخوارزمية في عام 628هـ، وقد صاروا بمثابة المرتزقة، ولطالما هدّدوا الحدود الشمالية الشرقية للدولة الأيوبية واستطاعوا أن يستولوا على بعض أهم مدنها مثل خِلاط، وكان الصالح أيوب قد استعان بخدماتهم مذ كان نائبًا لأبيه الكامل على مدينة سنجار في بلاد الجزيرة الفراتية شمال العراق، ولذلك كانت العلاقات بينهم طيبة منذ ذلك الحين[10].
استطاعت القوات الخوارزمية المقدرة بعشرة آلاف فارس أن تصل إلى فلسطين، ولم يجسر أيوبيو الشام أن يخرجوا لدفع هذه القوة التي هاجمت كل ما وصلت يدها إليه، حتى هرب كثير من الصليبيين من بيت المقدس، فدخلت هذه القوات القدس “وبذلوا السيف فيمن كان فيه من النصارى (الصليبيين)، ولم يُبقوا على أحد منهم … ثم وصلوا إلى غزة فنزلوا بها، ووردت رسلهم إلى السلطان الملك الصالح [أيوب] يخبرونه بقدومهم لنصرته، ويطلبون منه تسيير العساكر إليهم ليحاربوا عمّه الملك الصالح والملك المنصور صاحب حمص، ويأخذوا بلادهما له، فخَلع الصالح على رسلهم، وبعث الخِلَع والتُّحف للمقدمين منهم، واهتم في إنفاذ العساكر إليهم“[11].
معركة الحربية واسترداد بيت المقدس
بعد طرد بقايا الصليبيين من القدس على يد الخوارزمية اتجهوا إلى غزة، ومن ثم التحقت بهم القوات الأيوبية المصرية المكونة من المماليك بقيادة ركن الدين بيبرس[12] ومجموعة من الأمراء القيمُرية[13] في منطقة الحربية شمال مدينة غزة ووضعوا خطة محكمة لمواجهة الحلف الأيوبي الشامي والصليبي، ووقعت موقعة فاصلة ومهمة في التاريخ العسكري الأيوبي والإسلامي هي موقعة الحربية أو كما يُطلق عليها الصليبيون موقعة “لافوربيه” في 12 جمادى الأولى 642هـ/ 17 أكتوبر 1244م.
لم يرض الصليبيون بما حاق بهم في القدس، وخشي الأيوبيون في الشام من هذا التهديد المباشر الذي جاء لاستئصالهم، لذا كان من الطبيعي أن يحشد الطرفان كل ما يقدران عليه من عدد وعتاد لمواجهة التحالف الخوارزمي الأيوبي المصري، لقد “شرعت القوات المتحالفة في المسير صوب الجنوب في 4 أكتوبر سنة 1244م وقد سلكت الطريق الساحلي، ومع أن الناصر داود [صاحب الكرك] وجيشه من البدو حرصوا على أن يكونوا في عزلة عن سائر القوات المتحالفة، فالواقع أن الزمالة الكاملة التي قامت بين الفرنج والمنصور إبراهيم [صاحب حمص] ورجاله، على أن الجيش المسيحي يُعتبر أضخم جيش قذف به الشرق الفرنجي في ساحة القتال منذ يوم حطين الذي قرر مصير الفرنج“[14].
لم تُغن كثرة أعداد الصليبيين والشاميين عن مصيرها شيئًا، لقد كانت معركة الحربية من أهم وأخطر معارك الإسلام، ليس لأن المؤرخ الانجليزي رانسيمان قد شبهها بمعركة بحطين، ولكن لأنها لأول مرة أخّرت مجيء الحملات الصليبية على القدس لمدة سبعة قرون تالية.
لقد “وقع المصاف بين الفريقين بظاهر غزة، فكُسر الملك المنصور ومن معه كسرة عظيمة وأخذت الفرنجَ سيوفُ المسلمين فأفنوهم قتلاً وسبيًا، ولم يفلت منهم إلا الشارد النادر، وأسر من عسكر دمشق وعسكر الكرك جماعة مقدمون وغيرهم، ونُهبت جميع أثقال الدمشقيين، وحُكي عن الملك المنصور أنه قال: والله لقد حضرتُ الحرب ذلك اليوم وأوقع الله تعالى في قلبي إنا لا ننتصر لانتصارنا بالكفّار على المسلمين“[15].
وقد قتل من الصليبيين عدد قُدّر بأكثر من خمسة آلاف قتيل، وزاد بعض المؤرخين فجعل عدد القتلى ثلاثين ألفاً، بينما تم أسر حوالي ثمانمائة أسير، وقد وصف سبط ابن الجوزي هذه المعركة -وهو المعاصر لها- بقوله: “كان يومًا عظيًما لم يجرِ في الإسلام مثله، ولا في زمان نور الدين وصلاح الدين“[16].
سياسيًا وإستراتيجياً استغل الصالح أيوب هذا النصر، فاستولى على معظم فلسطين وبيت المقدس، وأرسل وزيره معين الدين بن شيخ الشيوخ لمحاصرة دمشق وتمكن من افتكاكها من عمه الصالح إسماعيل، وما لبثت قوات المرتزقة الخوارزمية بعد هذه الانتصارات أن طالبوا الصالح أيوب باقتسام البلاد بينهم، لكنه رفض، الأمر الذي جعلهم ينقلبون عليه ويتحالفون مع الناصر داود في الكرك والصالح إسماعيل في بعلبك، لكن سرعان ما استطاع الصالح أيوب أن يهزمهم بتحالفه مع الملك المنصور صاحب حمص وصاحب حلب وذلك في معركة القصب في حمص سنة 644هـ، وبذلك استتب الأمر للصالح أيوب في مصر والشام.
لم ينس الصليبيون مرارة هزيمة الحربية أو لافوربيه سنة 642هـ، تلك المعركة التي أسموها “حطين الثانية”؛ لأنها “سلبت الفرنج كل ما أحرزته لهم الدبلوماسية من مكاسب طارئة في عشرات السنين الأخيرة؛ إذ ليس من الراجح أن تصمد بيت المقدس والجليل لهجوم إسلامي خطير، غير أن الخسارة في القوة البشرية جعلت الشرق الفرنجي من العجز ما لم يجعله يدافع إلا عن المناطق الساحلية وبعض القلاع الداخلية المنيعة، ولم يفُق معركة غزّة في كثرة الخسائر سوى معركة حطين“[17].
وقد كانت الحملة الصليبية السابعة على دمياط والمنصورة في مصر بزعامة الملك الفرنسي لويس التاسع سنة 647هـ، نتيجة مباشرة لهزيمة الصليبيين في معركة لافوربيه في شمال غزة؛ فقد أراد لويس أن يثأر لشرف الصليبين، لكن الهزيمة كانت من نصيبه أيضًا!
*باحث في التاريخ والتراث
[1] للتفصيل حول الحملة الصليبية السادسة: راجع سلسلة مقالاتنا الخمس “بيت المقدس من الاسترداد إلى التسليم” على مدونة ابن أيوب: ibnayob.blogspot.com.
[2] هو يحيى بن عيسى بن إبراهيم (592 – 649هـ)، جمال الدين، ابن مطروح: شاعر أديب مصري. ولد بأسيوط، وتوفي بالقاهرة. خدم الملك الصالح أيوب، وتنقل معه في البلاد، فأقامه الصالح ناظرا على الخزانة بمصرَ (سنة 639) ثم نقله إلى دمشق. واستمر في الأعمال السلطانية إلى أن مات الملك الصالح، فعاد إلى مصر. وأعرض عنه خلفاء الصالح، فأقام مخمولا – كما يقول سبط ابن الجوزي – إلى أن مات. له ” ديوان شعر” مطبوع. الزركلي: الأعلام 8/ 162.
[3] ابن واصل: مفرّج الكروب 5/ 247- 249.
[4] ابن أيبك الدوداري: كنز الدرر وجامع الغُرر 7/ 340.
[5] تاريخ ابن الوردي 2/ 167.
[6] أبو الفدا: المختصر في أخبار البشر 3/ 169، والذهبي: تاريخ الإسلام 48/ 417.
[7] تاريخ ابن الوردي 2/169، واليونيني: ذيل مرآة الزمان 2/332.
[8] ابن واصل: مفرج الكروب 5/333.
[9] فريد وحيد صيدم: رسالة ماجستير بعنوان “جهاد السلطان الصالح نجم الدين أيوب وجهوده في توحيد مصر والشام، 638- 647هـ”. كلية الآداب، الجامعة الإسلامية – غزة، 2010م.
[10] حسين كاظم خيون: الخوارزمية في بلاد الشام والجزيرة. مجلة ديالى، العدد الثالث والخمسون – العراق، 2011م.
[11] ابن واصل: مفرج الكروب 5/ 337.
[12] من مماليك الصالح نجم الدين، وكان من أكبر مماليكه وقد سُجن معه في الكرك، وهو غير ركن الدين بيبرس البندقدار الأمير والسلطان المملوكي المعروف. انظر: أبو الفدا: المختصر في أخبار البشر 3/ 172.
[13] القيمرية نسبة إلى قَيمُر، وكانت قلعة في الجبال بين الموصل وخلاط، وكان أهلها من الأكراد. انظر: التاريخ المنصوري ص202، و ياقوت: معجم البلدان 4/ 424.
[14] ستيفن رانسيمان: تاريخ الحروب الصليبية 3/ 393، 394.
[15] ابن واصل: مفرج الكروب 5/ 338، 339.
[16] سبط ابن الجوزي: مرآة الزمان 8/ 494.
[17] رانسيمان: تاريخ الحروب الصليبية 3/ 397.