«الزعماء جلودهم خشنة»: معركة الغنوشي وخصومه في النهضة
بينما كان الجميع خارج قاعة المؤتمر العاشر للحزب الأكبر في تونس منشغلين بأهم النقاط المطروحة فيه، وهي فصل الدعوي عن السياسي والتفرد بصفة الحزب في خطوة أخرى نحو تحقيق مدنيتها، كان الخلاف على أشده داخل قاعة المؤتمر حول القانون الأساسي للحركة.
لم تكن نقطة الخلاف الرئيسية في ذلك اليوم، وهي آلية اختيار المكتب التنفيذي، المشكلة الوحيدة المختلف حولها داخل الحركة، فقد أخفى الخلاف حول تلك النقطة تاريخًا من الخلافات الماضية التي كانت مستعرة خلف الستار، بين فريق يقوده السيد راشد الغنوشي يرى أن أعضاء المكتب يجب اختيارهم من قبل رئيس الحركة «لضمان الانسجام في العمل»، وفريق ثانٍ يقوده قيادات تاريخية يرى أن الأعضاء يجب انتخابهم من قبل مجلس الشورى المنتخب من المؤتمر العام للحزب.
انتهى المؤتمر دون الكشف إلى الآن عما دار داخله من خلافات كثرت الشائعات والأقاويل حولها، بصورة يحضن فيها راشد الغنوشي الذي جُدّد له كرئيس لحركة النهضة، السيد عبد الحميد الجلاصي، في مشهد دراماتيكي يسوّق لوحدة النهضة آنذاك، قبل أن تصبح هذه الصورة انعكاسًا حقيقيًا لبداية التصدع داخل الحركة ذات الأربعين عامًا.
المؤتمر العاشر: صراع لي الذراع
في شهر مايو/أيار 2016، كانت الأنظار في تونس متجهة نحو مدينة الحمامات حيث يعقد مؤتمر حركة النهضة العاشر، والذي كان يحمل تغييرًا جذريًا في مرجعية الحركة التاريخية قد ينهي علاقتها مع مصطلح «الإسلام السياسي» عبر فصلها كيانها الحزبي عن المرجعية الدعوية.
لم يُخفِ هذا الحدث «التاريخي» الذي أعدته لجنة الإعداد المضموني للمؤتمر، أصوات قيادات بارزة في الحركة تنادي بأمرين رئيسيين قبل مناقشة المضامين: تقييم تجربة الحكم والتوافق مع حزب نداء تونس بعد انتخابات 2014، وتعديل القانون الأساسي للحركة في آلية اختيار مؤسساتها ووظيفة المؤسسة.
كانت مرحلة ما بعد 2014 مرحلة مفصلية داخل حركة النهضة التي اختارت أن تكون حليفة في الحكم مع خصمها الأول وقتها، نداء تونس. الغنوشي متهم من قبل خصومه داخل الحزب بأنه اتخذ تلك الخطوة بمفرده نتيجة لما يعرف بـ«لقاء باريس». ففي صيف 2013، وبينما كان الشارع التونسي منقسمًا بين ساحة باردو المنادية بـ«إسقاط الحكومة» التي تتزعهما حركة النهضة، وبين ساحة «القصبة» الداعمة للشرعية، وفي ظل الأحداث المتسارعة في مصر آنذاك، اختار راشد الغنوشي كرمز لللإسلاميين والباجي قائد السبسي كرمز لمعارضيهم اللقاء في باريس في أغسطس/آب من السنة ذاتها. اتفق الطرفان فيه عن خارطة طريق للحور الوطني الذي بموجبها سلمت النهضة الحكم للتكنوقراط مقابل المصادقة على الدستور والمضي للانتخابات، كان اللقاء بمثابة فتح قناة حوار ستستمر بعدها لسنوات بين ما عرف بتحالف «الشيخان».
جاء المؤتمر كمحطة كبرى لتقييم هذه التجربة الغريبة عن جسم الحزب الذي لا يزال يعاني من كدمات «الماضي»، وبما أن حزب «نداء تونس» وزعيمه الباجي قائد السبسي كانا يمثلان لجسم الحزب هذا «الماضي»، فقد حمل المؤتمر أصوات المعترضين على هذا التوافق وما يصفونه بتفويت فرصة تاريخية عن البلاد، إذ يرى معارضو الغنوشي أن إدارته للتوافق لم تكن في مصلحة الحركة، والتنازلات التي قدمها – خاصة من حيث المشاركة في الحكم – ليست بقدر تنازل الطرف المقابل، كما أن هذه الإدارة لم تقدم للبلاد شيئًا سوى المزيد من تردي الوضع الاقتصادي خاصة.
أما النقطة التي أفاضت الكأس فكانت آلية اختيار المكتب التنفيذي، إذ ينادي قيادات تاريخية في حركة النهضة بضرورة فصل المؤسسات القيادية عن إدارة الفرد، والمعني هنا رئيس الحركة، إذ اقترحوا اختيار أعضاء «المكتب السياسي» بالثلثين من قبل مجلس الشورى المنتخب مباشرة من المؤتمر العام (أعلى سلطة)، والثلث يختاره رئيس الحركة. وبخصوص المكتب التنفيذي، فيرأسه من يشغل منصب الكاتب العام، ويتكوّن المكتب من منظوريه في الجهات.
تقول الروايات من الشق المعارض لراشد الغنوشي إن تصويت المؤتمرين ذهب نحو اقتراح ذلك الفريق -وهو ما جاء في نص استقالة عبد الحميد الجلاصي فيما بعد- إلا أن هذا التصويت أُلغي بطريقة ما لم تكشف تفاصيلها وأُعيد بسبب «ترهيب معنوي»، إذ تقول الكواليس حينها أن السيد راشد الغنوشي هدّد بمغادرة المؤتمر إذا مُرّر هذا التعديل، وهو ما أجبر المؤتمرين على إعادة التصويت نحو اختيار أعضاء المكتب التنفيذي من قبل رئيس الحركة.
خرجت الصورة في بيان النهضة الختامي مُثلى بأن المؤتمر سار على أحسن وجه، عبر بنود تؤكد الالتزام بالتوافق ووحدة الصف القيادي، إلا أن هذه البنود سرعان ما ظهرت هشاشتها بعد سنوات قليلة، إذ اختارت الحركة بعد سنتين إنهاء التوافق مع حزب «نداء تونس»، كما ظهرت حركة الانشقاقات داخل الحركة بعد أشهر، وحملت أسماء ثقيلة في التنظيم.
المتساقطون على طريق التمديد
على بعد شهرين من الانتخابات التشريعية 2019 في تونس، وتحديدًا في شهر يوليو/حزيران، أعلن المكتب التنفيذي لحركة النهضة عن قوائم الحزب المرشحة لخوض الانتخابات التشريعية المقررة في 6 أكتوبر/تشرين الأول. كان هذا الإعلان بمثابة شرارة الحرب داخل الحزب.
اختارت حركة النهضة طريقًا طويلًا من أجل تشكيل قوائمها الانتخابية المرشّحة في 33 دائرة انتخابية، إذ ينصّ النظام الأساسي لها في فصوله المنظِّمة لطريقة اختيار المرشحين على قوائمها، أن يتم ترشيحهم من الهياكل الجهوية والمحلية على أن يتم تزكيتهم من المكتب التنفيذي.
ينص الفصل 112 من القانون الأساسي على منح المكتب التنفيذي صلاحية اختيار عضو إضافي وتغيير الترتيب: «يتولى المكتب التنفيذي المصادقة النهائية على القوائم، وللمكتب التنفيذي صلاحية تغيير الترتيب، وله استثنائيًا إضافة عضو للقائمة، وله استثنائيًا جدًا إضافة رئيس للقائمة».
بناءً على ذلك، أحدث المكتب التنفيذي تغييرًا جذريًا في القوائم الانتخابية في عملية بانت وكأنها تصفية لكل معارضي الغنوشي منذ المؤتمر العاشر، إذ تم إقصاء العديد من القيادات من رؤوس القوائم، وهو ما أثار حفيظة كثير منهم.
على رأس هؤلاء، كان عبد الحميد الجلاصي أحد المقصيين من القوائم، الأمر الذي بدا كإشارة ظاهرة للحرب الباردة بين قيادات النهضة، وهو ما سيدفعه بعد فترة، مع أسباب أخرى إدارية، وسياسية إلى تقديم استقالته من الحركة التي عاش فيها ما يقارب 40 عامًا.
لم يكن الجلاصي وحده المستقيل، إذ قدّم زياد العذاري استقالته من الأمانة العامة لحركة النهضة، ومن كل الهياكل القيادية فيها، وذلك بعد استقالة القيادي لطفي زيتون من منصب المستشار السياسي لرئيس الحركة الشيخ راشد الغنوشي. وتلتها بعد أسابيع استقالة القيادي زبير الشهودي من الهياكل القيادية للحركة، وهو الذي شغل منصب مدير مكتب رئيس الحركة لأكثر من ثلاث سنوات. وتعد استقالة العذاري الثانية من الأمانة العامة لحركة النهضة بعد الثورة، إذا أخذنا بالاعتبار استقالة حمادي الجبالي منها، ومن الحركة برمتها، أواخر سنة 2013.
وشملت الاستقالات أسماء أخرى ممن تقلدوا مناصب مختلفة صلب هياكل الحركة، سوى كانت شبابية أو تنفيذية، ولأسباب متفاوتة إلا أنها اتفقت كلها على سوء الإدارة وانعدام الإصلاح داخل حركة النهضة والتي باتت مظلة للكثير من الفساد والاستبداد حسب وصفهم.
على خطى هؤلاء المستقيلين،ظهرت داخل الحزب مجموعة تصف نفسها بـ«مجموعة الإصلاح»، تدعو إلى تكريس الديمقراطية داخل حركة النهضة، والتداول القيادي صلبها، وهو ما خرج للعلن بعد أيام من توقيعهم عريضة داخلية وُجهت للسيد راشد الغنوشي.
المعركة الأخيرة
كثر الجدل مؤخرًا حول هذا الفصل، إذ ظهرت مجموعة بارزة داخل الحزب تدعو إلى تنقيح هذا الفصل مما يتيح إمكانية تولي رئاسة الحزب لأكثر من دورتين، أي ما يعطي السيد راشد الغنوشي ولاية أخرى على رئاسة الحركة، وهو ما ساهم في ظهور مجموعة «الإصلاح» للعلن. إذ وجّهت المجموعة التي عُرِفت بـ«مجموعة المائة» كذلك، رسالة إلى أبناء الحركة، في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2020، يوضّحون ضمنها جملة من الخروقات التي ارتكبها الرئيس راشد الغنوشي ومساعيه لخرق النظام الداخلي للحركة.
اعتبر الموقعون على الرسالة أنّ هذا الإعلان يشدد على وجوب احترام مقتضيات الفصل 31 من النظام الداخلي، إضافة إلى تأكيد مبدأ التداول القيادي، وتوفير شروط نجاح المؤتمر الحادي عشر الذي شرعت لجنتا إعداده المضمونية والمادية في العمل استعدادًا له حيث كان من المفترض إنجازه قبل انقضاء السنة الماضية.
وتضمّنت الرسالة «تأكيدًا على وثوق الارتباط بين الشأنين الداخلي الحزبي والوطني، فبقدر ما يكون التداول القيادي، بقدر ما يكون النجاح في إعادة بناء التوافق الوطني وتهدئة المناخات المتوترة في البلاد على أسس متينة»، وذلك حسب ما ورد في الرسالة.
رد الغنوشي لم يتأخر. فبعد أيام على الرسالة المطالبة بتنحيه، عبّر في رسالة لم تخلُ من نبرة العتاب عن رفضه لما وصفه بـ«الشروط الإقصائية المسبقة»، مشددًا على أن «الزعماء جلودهم خشنة، يتحملون الصدمات، ويستوعبون تقلبات الزمان، ويقاومون عامل التهرئة».
رسالة الغنوشي حملت في أسطرها تساؤلاً إن كان من لوازم الديمقراطية الحزبية تغيير القيادات في مدد معينة بصرف النظر عن كونهم أصابوا أم أخطؤوا، مؤكدًا على وجود خطأ متعمد بين مقتضيات مجال الحزب ومجال الدولة، واعتبر أن المطالبين بعدم ترشحه لعهد جديدة «يتغطون بالديمقراطية لفرض وصايتهم على المؤتمر القادم بشروط إقصائية مسبقة لا ديمقراطية»، في سبيل «استبعاد زعيم الحركة».
وأوصى في ختام رسالته قواعده وأنصاره بالهدوء والحفاظ على «عقد الأخوة وآداب الاختلاف ووحدة صفهم وأمانة دماء الشهداء ومعاناة عشرات الآلاف من المناضلات والمناضلين»، معتبرًا أن الأمر لا يتعدى كونه «زوبعة» عابرة.
كان هذا السجال العلني بمثابة حرب بين القيادات التاريخية لحركة النهضة وزعيمهم التاريخي، والتي ستستعر في المؤتمر القادم الذي تأجل بقرار من مجلس الشورى في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بسبب أزمة فيروس كورونا، إلا أن الخلافات حول قيادة الحركة لم تتأجل.
* ينصح بالرجوع إلى عبد الحميد الجلاصي، «من الجماعة إلى الحزب السياسي: إدارة التغيير في سياق انتقالي» (تونس: دار سوتيميديا، ط1، 2021).