موقعة البويب: «ريمونتادا» فتح فارس
تغيَّر لونُ مياه الفرات إلى أحمرَ داكنٍ حزين، بينما انتثرت على ضفتيه في تلك البقعة من أرض العراق جثثُ المئات من المقاتلين العرب المسلمين الذين لقوا حتفهم للتوّ بسيوف الفرس. كان ذلك مشهدًا غير مألوفٍ في ساحة العراق المحتدمة منذ أشهر بصدامٍ عسكريٍّ غير مسبوق بين جيوش العرب المسلمين الغازية لعُقر دار كسرى، وجيوش الإمبراطورية الفارسية التي تحاول عبثًا الدفاع عن هيبتها ووجودها أمام جرأةٍ لم يعهدوها قرونًا طويلة من جيران الجنوب القادمين من الصحراء، والذين طالما قنعوا بالخضوع لسلطان كسرى أو غريمه قيصر الروم.
هكذا تنفَّس الفُرس الصعداء للمرة الثانية على التوالي في فترةٍ وجيزة. كانت المرة الأولى عندما خلصَّتهم الأقدار من وطأة القائد العاصف خالد بن الوليد الذي عاجلهم بسلسلةٍ من الهزائم المتتابعة التي ظنُّوا أنها لن تتوقفَ إلا مع قطف روح آخر مقاتلٍ فارسي. استدعى الخليفة أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- خالدًا على عجلٍ ليلتحق – مصطحبًا معه الآلاف من خيرة قوات الجبهة العراقية – بالجيوش الإسلامية في الشام، والتي كانت قاب قوسيْن أو أدنى من الدخول في معركةٍ فاصلة ضد الروم.
أما المرة الثانية، فكانت بعد النجاح في إلحاق تلك الهزيمة المؤثرة بالجيوش العربية في الموقعة التي دارت على ضفاف الفرات، واشتهرت تاريخيًا بموقعة الجسر، والتي قُتل وغرق خلالها الآلاف من المقاتلين العرب، بينهم قائدهم أبو عُبيد الثقفي الذي سحقه أحد الأفيال التي جلبها الفرس عندما هجم ببسالةٍ على الفيل ليقطع حبل الهودج، ليسقط راكب الفيل ويفقد السيطرة عليه.
انتعشت آمال الفُرس كثيرًا بعد الجسر في دحر العرب تمامًا عن العراق، وقلب الموازين، فحشدوا الآلاف من الجنود والفرسان، يقودهم أشرس من بقي من القادة العسكريين الفُرس، وزوَّدوهم بالدروع الثقيلة، وكذلك الأفيال التي لم يكن العرب وأفراسهم وجمالهم معتادين على مواجهة هجماتها الهائجة المائجة في ساحات القتال.
ولنفهم هذا المشهد كاملاً، سيكون علينا أن نعود إلى الوراء شهورًا حيث جذور المشهد الخطير الحالي من وقائع فتح بلاد فارس، وما سيعقبها من انعطافةٍ تاريخية كبرى.
فتوح فارس: ما قبل الهزيمة و«الريمونتادا»
في جرأةٍ استثنائية، وبذكاءٍ سياسي تاريخي تعزِّزُهُ الروح الغامرة التي بثَّها الإسلام في الجسد العربي، لم تكدِ الجزيرة العربية تبدأ في لملمة جراحها بعد حروب الردة الطاحنة التي أعقبت وفاة الرسول، عليه الصلاة والسلام، حتى كان الخليفة أبو بكر الصديق يُصدر أوامرَه إلى الجيوش الإسلامية بالاستعداد لغزو الإمبراطوريتيْن الفارسية والرومانية الخارجيتيْن لتوِّهما من الحرب الطاحنة التي ورد ذكرها في مطلع «سورة الروم».
ولعل الدافع الرئيس في هذا التعجيل هو أخذ زمام المبادرة قبل أن تلتفتَ هاتان القوتان العظميان للخطر الجارف الذي تمثله إعادة توحيد الجزيرة العربية في دولةٍ واحدة قويةٍ ملاصقةٍ لهما للمرة الأولى في التاريخ المنظور، إذ اعتاد الروم والفرس كما ذكرنا أن يخضع لكلٍّ منهما من في جهته من العرب الذين لا تجمعهم راية.
أمر الصديقُ خالد بن الوليد بالتوجُّهِ فورًا من اليمامة – آخر المعارك الكبرى في حروب الردَّة – إلى جنوبيّ العراق، ففتح الحيرة صُلحًا، وانضمَّ إليه المثنى بن حارثة الشيباني، أحد مشاهير فرسان العرب، والذي قدم إلى المدينة المنورة ليستأذن الصديق في غزو الفُرس، فأذن له، وأمره بالانضواء تحت لواء خالد. ثمَّ حقَّق خالد انتصارات ساحقة على جيوش الفرس أبرزها موقعة ذات السلاسل، ثم وقعتا المذار، والولجة، وبعدهما معركة أُلَّيس الكبرى.
بعد توجِّه خالدٍ إلى الشام، وتحت قيادة أبي عبيْد الثقفي، انتصر المسلمون على الفرس في موقعة النمارق ثم معركة كسكر ، ثم انتصر على أحد أشهر قادة الفرس واسمه الجالينوس، قبل أن يُهزَم في موقعة الجسر.
في تلك الأثناء، تجدَّد الصراع على السلطة في عاصمة الفرس المدائن، ووقع اقتتالٌ أهليُّ كبير، سقط خلاله العديد من كبار قادة الإمبراطورية المترنِّحة، آل العرش بعده إلى الملكة بوران، بينما أصبحت مقاليد الحرب والسياسة الفعلية في يد القائد الفارسي القوي رستم، والذي شرع على الفور في التجهز لمحاربة الجيوش العربية الإسلامية التي استولتْ على معظم أجزاء العراق الجنوبي، وأصبحت على مرمى حجرٍ من العاصمة الفارسية، وأخذ رستم يُحرض المناطق الخاضعة للمسلمين من العراق على الثورة، وأصبح موقف المسلمين في العراق في غاية الخطورة.
المثنى بن حارثة الشيباني: الإسلام يُجدّدُ روح ذي قار
مقطع من إنتاج رواة عن موقعة ذي قار بين العرب والفرس
قبل سنواتٍ عديدة من معارك الفتح الإسلامي لفارس، دارت معركة من أبرز الأيام في تاريخ العرب في الجاهلية، وهي موقعة ذي قار، والتي ثارت فيها حمية قبائل العرب شمال الجزيرة ضد الفرس انتصارًا لشرف هند ابنة النعمان بن المنذر، حاكم الحيرة – جنوبي العراق – الذي غدر به كسرى أبرويز ملك الفرس وقتله، وأراد أن يتزوج ابنتَه هند قسْرًا.
كان بنو شيبان، قوم المثنى بن حارثة، في صدارة القبائل العربية التي حاربت الفرس آنذاك وانتصرت عليهم وعلى حلفائهم من العرب في تلك المعركة المشهودة التي وصفها الرسول، عليه الصلاة والسلام، بأنها أول يومٍ انتصف فيه العرب من العجم.
بعد توجّه خالد إلى الشام، واستشهاد أبي عبيْد الثقفي في الجسر، آلت قيادة الجيوش الإسلامية على الجبهة الفارسية إلى المثنى، والذي أبلى بلاءً حسنًا في كافة معارك الفتح، وكان له دور مهم في الحفاظ على أرواح الآلاف من قوات المسلمين بعد هزيمة الجسر، عندما تولَّى القيادة بعد استشهاد سبعةٍ من القادة بالتتابع، حيث حمى ظهر المُنسحبينَ عبر الجسر فوقَ الفرات هو ونُخبةٌ من الفرسان، وتعرض لعدة إصابات أثناء تلك المهمة.
ثم ثبُت المثَنَّى وتحت قيادته أقل من ثلاثة آلاف مقاتل – بعد أن فرَّ ألفان من الناجين من الجسر – تحسُّبًا لعبور الفرس النهرَ لمطاردة المسلمين، لكن خشي بهمن جاذويْه قائد الفرس من التوغل خلف المسلمين، والابتعاد عن عاصمة الفرس المدائن التي كانت تموجُ بصراعات الحكم وبوادر الانقلابات، فتنفَّس المُثنى والمسلمون الصعداء.
بعدئذٍ تصرَّف المثنى القائد بحكمةٍ أمام المشهد الجديد حتى يستعيدَ المسلمون التوازن الذي اختلَّ، فأرسل إلى المدينة، وإلى من جواره من قبائل العرب يطلب المدَد العاجل، وانسحبَ بمن بقي معه من القوات إلى مقربةٍ من صحراء شمال الجزيرة العربية، حتى يتسنَّى له الفرار إلى الصحراء التي يعرفها جيدًا إن تكاثرت عليه جموع الفرس، وحتى يكون قريبًا من التعزيزات القادمة من الجزيرة.
موقعة البويب
كان الاختلال في الجبهة الفارسية من أوائل الملفات الخطيرة التي تصدّى لها عمر بن الخطاب في أيام خلافتِه الأولى، فأمر بحشد وتعبئة ما استطاع إليه سبيلًا من قبائل العرب للجهاد في العراق، لكن واجهته بعض الصعوبات لعزوف كثيرين عن تلك الجبهة الشرسة قليلة الغنائم بالمقارنة بحرب الروم على الجبهة الشامية، حتى أوشكَ أن يخرج بنفسه في قيادة الجيش إلى العراق.
نجح عُمر في نهاية المطاف في توجيه الآلاف لدعم المجهود الحربي هناك، بعد أن وعد قبيلة بُجيلة العربية بربع خمس الغنائم تشجيعًا لهم للانضمام إلى الجبهة الفارسية، فوافقوا. كما قبل مشاركة التائبين من أهل الردة، وكان المسلمون من عهد أبي بكر قد تجنَّبوا إشراكهم في المعارك الفاصلة حتى يثبت صدق عودته للإسلام.
علم المثنى بن حارثة بإرسال الفرس جيشًا كبيرًا لمحاربته بقيادة القائد الفارسي مهران، فحشد كل ما توفّر لديه من قواتٍ وإمداداتٍ استعدادًا لمواجهة فاصلة مع القوات الفارسية، وانضمَّ إليه الآلافُ من بُجيْلة وغيرِها من قبائل العرب التي استنفرها الخليفة عمر، وكذلك لجق به المئات من نصارى العرب من النمريين أخذتهم الحمية العربية بعد الهزيمة في الجسر.
تراءى الجمعان في منطقةٍ تُسمَّى البويْب على الفرات، قرب موضع مدينة الكوفة حاليًا، وكان النهر حائلًا بين الجيشيْن.
أرسل الفرس إلى المثنى رسولًا يطلبون منه أن يعبر إليهم الفرات، فرفض أن يُكرِّر ما فعله أبو عبيد الثقفي في موقعة الجسر، حيث أسهم عبور الفرات في إجهاد جيش المسلمين آنذاك. رضخ الفرس هذه المرة، وعبروا النهر في ثلاثة فيالق كبرى، أمام كل فيلق فيلٌ ضخم، وقدرَّ البلاذري في (فتوح البلدان) جيش الفرس بأكثر من 12 ألف مقاتل.
أمر المُثنَّى المقاتلينَ المسلمين بكسر صيامهم، وبدأ بنفسه فأفطرَ أمامهم. وأخذ يمر على وحدات الجيش جميعها يخطب فيهم، ويرفع من روحهم المعنوية، وجعل أفراد كل قبيلةٍ يحاربون معًا لتتسابقَ القبائلُ في نيل الشرف في المعركة، وتُحاذرُ ألا تُختَرق صفوف المسلمون من جهتها.
ما كاد المثنى يصيح بأول تكبيرة، حتى بدأ الفرس هجومًا شاملًا، واحتدم القتال، وأخذ المُثني يراقب عن كثب أي اختلالٍ في صفوفِ المسلمين، فيوجِّه بإصلاحه. ظلَّت المعركة في حالة التعادل لساعات، فأراد المثنى أن يقلب الموازين بتركيز جُهدِه على قائد الفرس مهران وقتله، فانتقى صفوة من فرسانه، وضمَّ إليه أنس بن هلال النِّمري النصراني، وكان من صناديد الفرسان، واتفقا أن يخترقا معًا صفوف الفرس الفاصلة عن مكان تمركز مهران وحرسه، ونجحا بالفعل في عزله عن القلب إلى جهة الميمنة.
ومع احتدام القتال في تلك الجهة، استُشهِدَ مسعود بن حارثة، أخو المُثنَّى بعد أن أبلى في المعركة بلاءً استثنائيًا، وكادت صفوف المسلمين تختلّ، فصاح بهم المُثنَى:
أحدثت الخطبة فعلَها في نفوس المقاتلين المسلمين، فشنُّوا هجومًا عامًا كاسحًا، تضعضعَ تحتَ وطأتِهِ قلب الجيش الفارسي، وتمكن فتىً نصراني من قبيلة تغلب العربية من تحيُّن الفرصة وقتل قائد الفرس مهران، فانهارت عزائم الفُرس، واندفعت ميمنة وميسرة جيش المسلمين ضاغطةً على نظيرتيْهما، حتى بدأ الفرس يلوذون بالفرار، ليجدوا المثنى وفرسانه قد التفوا حول مؤخرة الجيش الفارسي، وأغلقوا عليهم طريق الجسر، لتتحول ساحة المعركة إلى مقتلة عامة للفرس.
بعد الانتصار الكبير في البويْب، أرسل المثنَّى العديد من السرايا لتشنَّ الغارات على مختلف المناطق القريبة في جنوبيّ العراق وأوسطه، وذلك لاستغلال حالة التخبُّط التي أصبح عليها الفرس وحلفاؤهم من عرب العراق، وغنم المسلمون غنائم لا تعد ولا تحصى في تلك الغارات.
ارتجَّت المدائن- عاصمة الفرس الواقعة في وسط العراق- من أنباء الهزيمة الساحقة، وثارت ثائرة أهلها ونخبتها، فاضطر رستم وبوران لتهدئة الأمور بالبحث عن ذكرٍ من نسل كسرى ليتولى العرش في تلك الظروف العصيبة، فوقع الاختيار على يزدجرد بن شهريار بن كسرى، وكان شابًا في العشرين ليس له خبرة سياسية أو حربية، لكن تنصيبه على العرش أعاد بعض الروح المعنوية للفرس، واستقرت الأحوال نسبيًا، وبدأ رستم في حشد عشرات الآلاف من الجند لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
جديرٌ بالذكر أن المُثَنَّى بن حارثة قد توفاه اللهُ بعد أشهرٍ قليلة من هذا الانتصار الكبير، وقيل إن وفاته كانت من أثر الإصابة التي عانى منها في موقعة الجسر، فانتدب الخليفة عمر بن الخطاب سعدًا بن أبي وقاص – رضي الله عنهما – ليحلَّ محلَّ المُثنى في قيادة فتوح فارس، ليكون ذلك إيذانًا بالفصل الأشهر في تاريخ تلك الفتوح، فصل ملحمة القادسية الفاصلة. ولكن لهذا مقامٌ آخر.