معركة «الحديقة الخلفية»: روسيا والغرب في أوكرانيا
تحتل أوكرانيا أهمية استراتيجية كبيرة بالنسبة لروسيا، من حيث مساحتها الكبيرة وتضاريسها المميزة وإطلالها على المياه الدافئة، كما أنها جزء من حزام الأمان الجغرافي بالنسبة لروسيا، حيث تعتبر خط الدفاع الأول بالنسبة لها. أمّا من الناحية العسكرية فهي بلد عازل بين روسيا ودول حلف الناتو، ويعتبر احتلالها لشرق أوكرانيا تمهيدًا لخوض أي حرب برية ضد الناتو على الأرض. كل هذا وأكثر جعل روسيا تريد السيطرة على أوكرانيا بأي ثمن.
تحشد روسيا قواتها على حدود أوكرانيا بشكل غير مسبوق، فمنذ نحو شهر، عكفت روسيا على حشد قواتها في شبه جزيرة القرم الأوكرانية، التي ضمتها عام 2014، وفي مناطق كراسنودار وروستوف على الحدود الشرقية من أوكرانيا، كما عززت انتشارها في بحر أزوف، المتفرع من البحر الأسود، لمحاصرة السفن الأوكرانية العاملة هناك.
لم تكتفِ روسيا بذلك، بل أعلنت عن تنظيم مناورات برية عدة، وأرفقتها بالإعلان عن مناورات في البحر الأسود لـ «إزالة الألغام البحرية» التي وضعتها هي والبحرية الأوكرانية في عامي 2014 و2015.
وفي المفهوم العسكري، فإن إزالة الألغام تعتبر الخطوة الأخيرة التي تسبق أي عملية إنزال على الشواطئ. هنا ردت أوكرانيا على إجراء مناورات في «خاركيف»، المدينة الواقعة على الحدود مع روسيا، والبعيدة عن حوض دونباس (الذي يضم إقليمي لوغانسك ودونيتسك الانفصاليين). وتعتبر «خاركيف» خط الدفاع الأول عن أوكرانيا ضد أي اجتياح روسي من جهة فورونيش، التي عززت موسكو قواتها فيها في الأسبوعين الأخيرين.
وهنا يثار تساؤل عن أسباب التوتر بين روسيا وأوكرانيا ولماذا تصاعد هذا التوتر مؤخرًا؟
لم تكن الأزمة التي بدأت مؤخرًا حدثًا منفصلًا، بل هي امتداد لحالة عدم الاستقرار التي شهدتها أوكرانيا منذ تفكك الاتحاد السوفييتي، فمنذ استقلال أوكرانيا عام 1991، شهدت العلاقات الأوكرانية-الروسية كثيرًا من أحداث وفترات التوتر.
كانت أوكرانيا– تاريخيًا- مهد حضارة مملكة «كييف روس»، والعرق السلافي المنتشر بين أوكرانيا وروسيا وبيلاروسيا. وسياسيًا واقتصاديًا، فأوكرانيا هي جارة رئيسية بالنسبة لروسيا، وتتمتع بثروات وإمكانيات عسكرية وصناعية وزراعية واسعة وضخمة، وموقع جغرافي يفصل بينها وبين «معسكر القوى الغربية». وأمّا ثقافيًا واجتماعيًا، فيرتبط البلدان بعلاقات كبيرة، وبخاصة في المناطق الحدودية.
كل هذه الأمور جعلت من أوكرانيا «حديقة خلفية» بالنسبة لموسكو، وبالتالي ترفض التخلي عنها وتحولها إلى «وصاية الغرب» بعد عقود من التبعية لروسيا.
توتر متصاعد
وبعد أحداث 2014 وانضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا، أخذ المشهد الأوكراني بُعدًا آخر تعاظم فيه التوجه الغربي والدور القومي، على حساب تراجع التأثير الروسي. فنجد أن أحد أهم أسباب التوتر بين روسيا وأوكرانيا، يعود إلى تولي الرئيس الأوكراني الحالي فلاديمير زيلينسكي السلطة عام 2019، وهو منْ يتبنى خطابًا قوميًا قويًا ضد روسيا، ويحاول بناء القوات المسلحة الأوكرانية، ويتعهد بإعادة الأراضي المحتلة من بلاده.
وما زاد من حدة التوتر هو قلق روسيا بشأن مصير خط أنابيب الغاز «نورد ستريم 2» (السيل الشمالي 2) إلى ألمانيا، والذي تريد كييف وواشنطن إيقافه. ففي أوائل عام 2020، كانت روسيا على وشك الانتهاء من خط أنابيب «نورد ستريم 2»، وهو خط أنابيب غاز يمر عبر بحر البلطيق، ولكن حذر البعض من أنه قد يحرم أوكرانيا من الإيرادات الأساسية للغاز الروسي، ومع ذلك، تعاقدت روسيا لمواصلة نقل الغاز عبر أوكرانيا لعدة سنوات أخرى. وقد اكتسبت الحملة ضد هذا الخط- الذي كانت ألمانيا أكثر بلدان أوروبا حماسًا له- زخمًا بعد وصول بايدن للسلطة.
أمّا التصعيد الأخير، فجاء نتيجة مباشرة لما شهدته الأشهر الأخيرة من تفاقم حدة الاشتباكات بين القوات الأوكرانية والمتمردين الذين تدعمهم موسكو داخل منطقة «دونباس». حيث يخوض الجيش الأوكراني معارك في مواجهة انفصاليين موالين لروسيا في منطقتي دونيتسك ولوجانسك شرقًا منذ عام 2014، بعد ضم موسكو شبه جزيرة القرم في أعقاب انتفاضة أطاحت بالرئيس الأوكراني «فيكتور يانوكوفيتش».
تبادلت موسكو وكييف الاتهامات بالوقوف وراء ارتفاع منسوب العنف عند الخطوط الأمامية، ما قوّض اتفاقًا لوقف إطلاق النار تم التوصل إليه في يوليو/تموز الماضي (2020). وهنا اتهمت الاستخبارات العسكرية الأوكرانية روسيا بالتحضير لـ«توسيع تواجدها العسكري» في المناطق الخاضعة لسيطرة الانفصاليين. وأفاد رئيس هيئة الأركان العامة الأوكراني روسلان خومشاك بأن أكثر من ألفي مدرب ومستشار روسي يتمركزون حاليًا في شرق أوكرانيا.
«الناتو» خط أحمر، و«بيرقدار» هي الأقوى
لا يخفى أن التوتر بين روسيا وأوكرانيا يأتي في إطار التنافس الروسي-الغربي على مناطق النفوذ. وتُعد الأزمة الأوكرانية من الأزمات ذات الاهتمام الكبير، وهذا لأهمية كييف الكبيرة للغرب وروسيا، سواء كان ذلك من الناحية الاقتصادية أو السياسية أو الاستراتيجية. لذلك حاولت أوروبا عدم السماح لدولة قارية مركزية– كروسيا- أن تسيطر على هذه المنطقة.
ويرى كثير من المحللين أن سبب ما تقوم به روسيا من تصعيد، يعود إلى حقيقة أنها لم تعد (بعد 2014) قادرة على إبقاء أوكرانيا في صفها سياسيًا، وشعورها أن ميل أوكرانيا المتعاظم نحو الغرب بات يُشكِّل خطرًا عليها، وبخاصة أن كييف تخلت عن صفة عدم الانحياز، وتسعى علنًا إلى عضوية الناتو.
وما رسّخ التباعد الروسي-الأوكراني هو تراجع الرغبة الأوكرانية الشعبية بالعودة إلى علاقات الماضي مع روسيا، وغياب الحنين إلى فترات الوحدة معها (في ظل الاتحاد السوفياتي)، وتسعى موسكو لمحارية هذا الاتجاه السياسي والشعبي، حتى لا يُشكل «عدوى» بين الدول الأعضاء في الاتحاد الروسي أيضًا.
يزداد الأمر حساسية بالنسبة لبوتين كلما اقتربت أوكرانيا من الانضمام إلى حلف الناتو، وهي مسألة تمثل خطًا أحمر بالنسبة لروسيا. وقد أوضح بوتين مرارًا أنه يرى طموح أوكرانيا للانضمام إلى الناتو باعتباره تهديدًا وجوديًا، ولا يرى أي سبب لتقديم تنازلات الآن، بعد سنوات من الضغط الأمريكي والأوروبي بشأن هذه القضية.
استنادا إلى ما سبق، ترفض روسيا عضوية أوكرانيا في أي تكتل غربي، وبخاصة حلف الناتو، وتعتبر ذلك تهديدًا مباشرًا لأمنها. ولهذا- بحسب خبراء كُثر- تسعى روسيا إلى عرقلة مساعي أوكرانيا في ذلك الاتجاه، والإبقاء عليها منطقةً رمادية فاصلة مع القوى الغربية كأقصى ما يمكن، بعد أن بات خيار «عودة الولاء» مُستبعدًا. ويرى الخبراء أيضًا أن ذلك جعل أوكرانيا ساحة حرب غير معلنة بين روسيا والغرب، لا تزال في مرحلة البرودة والجمود حتى يومنا هذا.
وكنتيجة غير مباشرة لكل هذه التفاعلات، حدث تحول كبير في العلاقات العسكرية بين أوكرانيا وتركيا، حيث باتت الأخيرة مصدرًا رئيسيًا للطائرات المسيرة بالنسبة للجيش الأوكراني. وينظر المراقبون باهتمام إلى تطور موقف أنقرة من الأزمة، وهي المعنية أيضًا بالحد من تنامي النفوذ الروسي شمالًا وجنوبًا، في البحر الأسود وسوريا. وقد صار دعم أنقرة لأوكرانيا بالطائرات المسيرة التركية «بيرقدار» أمرًا مؤرقًا لموسكو، بخاصة مع تفوق تلك الطائرات في معارك سابقة، وهو أمر سيُشكِّل ضررًا لروسيا وسلاحها، لا سيما مع الدعم الأمريكي والأوروبي لأوكرانيا ضد الغزو الروسي المحتمل.
أوكرانيا: «نقطة ضعف لاستعراض العضلات»
مع وصول العلاقات الروسية-الأمريكية لأسوأ مستوى لها عقب وصول بايدن للسلطة ووصفه لبوتين بأنه قاتل، وتوجهه لتعزيز المواقف الأمريكية ضد روسيا، جاء تشدد واشنطن مع موسكو فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية الأخيرة، وبدأ التصعيد الأخير كنوع من استعراض للعضلات بين موسكو وواشنطن، وهو ما يُفسِّر حجم التصريحات وتبادل الاتهامات بين الجانبين، إلى جانب التصريحات الأوكرانية. وهناك اتفاق بين المحللين على أن أوكرانيا هي إحدى نقاط الضعف التي يمكن أن تستغلها روسيا ضد الغرب.
ورغم وجود أسباب قديمة تدفع روسيا للتصعيد في أوكرانيا، سبق الإشارة إليها، فإنه مع مجيء بايدن ازدادت الرغبة لدى بوتين للعب بالورقة الأوكرانية، بخاصة بعد توعد أمريكا بالثأر من التدخل الروسي الأخير في انتخاباتها الرئاسية. وهو ما عزّز مخاوف بوتين من محاولة الغرب فرض مزيد من العقوبات على موسكو والتلاعب بورقة المعارضة الروسية الداخلية.
فعلى خلفية الأزمة الأوكرانية منذ عام 2014، فرضت دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكندا وغيرها، كثيرًا من العقوبات السياسية والاقتصادية على روسيا، التي أُبعدت بدايةً عن مجموعة «الثماني الكبار»، ثم عن المشاركة في أروقة «البرلمان الأوروبي». وقدم الغرب دعمًا ماليًا كبيرًا لأوكرانيا، استهدف بشكل رئيسي إجراء الإصلاحات المرتبطة بتطبيق معايير العضوية في الاتحاد الأوروبي والناتو، وكذلك تم توجيه ذلك الدعم نحو مجال مساعدة النازحين عن مناطق الحرب والتوتر. ولعل أكبر هذه المساعدات وأكثرها قوة، كانت من الولايات المتحدة، وجاءت على شكل مساعدات عسكرية ونظم أسلحة وصواريخ (جافلين) وتدريبات مشتركة، بحجم بلغ نحو ملياري دولار، وفق السفارة الأمريكية لدى أوكرانيا.
وعلى صعيد الأحداث الأخيرة، أكد بيان صادر عن البنتاغون أنه «في حالة تصعيد العدوان الروسي، فإن الولايات المتحدة لن تترك أوكرانيا وحدها». وعلى الرغم من الاتصال الأمريكي-الروسي، فإن الأمور استمرت بالتصاعد، مع استدعاء موسكو للسفير الأمريكي هناك «جون سوليفان»، إلى مكتب يوري أوشاكوف، مساعد بوتين. ووفقاً لوكالة «نوفوستي»، فقد تم إبلاغ السفير أن «موسكو سترد بشكل حاسم إذا فرضت واشنطن عقوبات جديدة على روسيا». وهو ما تنوي الولايات المتحدة فعله للرد على الحشد العسكري الروسي قرب أوكرانيا.
«بداية النهاية» أم رصاصة في الساق؟
في تقريرها السنوي حول أبرز التهديدات التي تتعرّض لها الولايات المتحدة، أكدت أجهزة الاستخبارات الأمريكية أن روسيا «لا تريد نزاعًا مباشرًا» مع واشنطن، رغم أنها «ستواصل جهودها لزعزعة الاستقرار ضد أوكرانيا». وأن موسكو ستواصل اعتماد تكتيكات مختلفة هذا عام (2021)، في إطار سعيها لتقليص نفوذ الولايات المتحدة، وإقامة شراكات جديدة، وزرع الشقاق في المعسكر الغربي.
وهو ما أكده «ميخايلو ساموس»، الباحث في «مركز كييف لدراسات الجيش والتحول ونزع السلاح»، فهو لا يعتقد أن بوتين سوف يجرؤ على الانخراط في تصعيد مفتوح، بل إن الرئيس الروسي يُفضِّل استفزاز الغرب من خلال «القوات الهجينة بالوكالة»، أي من خلال الحلفاء أو عبر الهجمات الإلكترونية أو الدعائية.
وقد اعتبرت الاستخبارات الأمريكية أن موسكو في موقع يُمكِّنها من تعزيز دورها في القوقاز والتدخل في بيلاروسيا إذا اعتبرت ذلك ضروريًا، ومواصلة جهودها لزعزعة الاستقرار في أوكرانيا، فيما تظل المفاوضات مكانها، وتتواصل المواجهات المحدودة. ويتوقع الخبراء زيادة الدعم الأمريكي لأوكرانيا، في حال تفاقم الوضع في «دونباس»، ولكن دون المخاطرة بضمها إلى الناتو، الأمر الذي ربما يفتح أبواب جهنم.
وربما تتذرع روسيا بوجود قوات أمريكية داخل أوكرانيا للدخول في حرب معها، بعد تحذيرها من هذا الأمر أكثر من مرة، ما يفتح الباب أمام توقعات بنشوب صراع جديد في إقليم دونباس، الذي ربما تسعى موسكو لضمه إلى أراضيها على غرار جزيرة القرم.
وقد حذر تقرير Bloomberg من أن مصدر القلق الرئيسي هو أنه إذ أخطأ أحد الأطراف في الحسابات، سيؤدي إلى نوع من القتال المفتوح. وهو ما أكده «ديمتري كوزاك»، المسئول في الرئاسة الروسية، من أن أي تصعيد يمكن أن يمثل «بداية النهاية» لأوكرانيا، و«ليس رصاصة في الساق، لكن في الوجه»، بحسب تعبيره.
ولكن على الرغم من تعهدات الغرب لأوكرانيا بدعمها، فإنه لا يمكن تخيل أن أي دولة غربية سوف تدخل في مواجهة مع روسيا، قد تتطور لحرب نووية، فقط من أجل أوكرانيا.