خطة البشير للقضاء على الحراك في السودان
بدأ الحِراك السودانيّ الحاليّ في 19 ديسمبر/ كانون الأول 2018 باحتجاجات كبيرة في عدد من مدن السودان، كاعتراض على بلوغ سعر قطعة الخبز ثلاثة جنيهات في ولاية البحر الأحمر والولايات المجاورة و2.5 جنيه في مدينة نيالا بولاية جنوب دارفور، وهو الأمر الذي لم يتحمله المواطنون في تلك الولايات فانطلقت مظاهرات في عدد من مدن ولايات السودان، مثل: عطبرة، والقضارف، وبورتسودان، والدامر، والنهود والحصاحيصا، ووقتها ظهر الوسم (الهاشتاج) «#مدن_السودان_تنتفض»، ومع أن أسباب الخروج كانت اقتصادية، لكن سرعان ما تحول الهتاف للمناداة بإسقاط النظام كنتيجة طبيعية للانهيار الاقتصادي وعدم قدرة النظام الحاكم على تحقيق أبسط مطالب الشعب مع بقائه في الحكم لقرابة الثلاثين عامًا.
بحلول 22 فبراير/ شباط 2019 أكمل الحِراك السودانيّ 65 يوماً منذ بدايته، وهو الأمر الذي لم يتوقع الكثيرون حدوثه، خصوصاً أن آخر احتجاجات شهدها السودان (والتي كانت أهمها احتجاجات سبتمبر 2013 ومظاهرات يناير 2018) لم تستمر لأكثر من شهرين. وفي يوم 22 فبراير، تم الإعلان عن خطاب مهم يقدمه رئيس الجمهوريّة للشعب السودانيّ.
وقبل الخطاب بساعات صرح رئيس جهاز الأمن والمخابرات الوطنيّ، الفريق أول صلاح عبد الله قوش، للصحف السودانيّة بأن الخطاب سيتضمن تخلي الرئيس عن فكرة الترشح في انتخابات 2020، وأنه سيتخلى كذلك عن رئاسة حزب المؤتمر الوطنيّ، وأنه سيقوم بحل حكومة الوفاق الوطنيّ وحكومة الولايات، وأنه سيعلن حالة الطوارئ في البلد. يبدو أن قوش قام بتلك التصريحات حتى يقطع الطريق على البشير (الذي عُرف عنه التراجع عن الاتفاقات) ويلزمه بألا يتراجع عن الاتفاق الذي توصل إليه النظام الحاكم قبل إعلان الخطاب.
لكن خطاب البشير جاء مخالفاً لسقف التوقعات الذي رفعه قوش بتصريحاته، فمع أن البشير أعلن حالة الطؤارئ في البلاد لمدة عام، وقام بحل الحكومة المركزيّة وحكومة الولايات إلا أنه لم يعلن تخليه عن فكرة الترشح في انتخابات 2020، وإنما طلب من البرلمان «إرجاء النظر في التعديلات الدستوريّة» التي ستسمح له بالترشح في الانتخابات، و لم يصرّح البشير بتخليه عن قيادة المؤتمر الوطنيّ، وإنما ذكر أنه «سيقف على مسافة واحدة» من جميع الموالين والمعارضين لتحريك مشروع الحوار الوطنيّ، وفي يوم 28 فبراير/ شباط قام البشير بتفويض سلطاته التنظيميّة في حزب المؤتمر الوطنيّ الحاكم إلى نائب الحزب الجديد أحمد هارون الذي كان واليًا لولاية شمال كردفان.
خطة البشير: عسكرة السياسة وتشتيت الحِراك
من الصعب حتى الآن الجزم بأن ما حدث هو انقلاب صريح على الإسلاميين أو على المؤتمر الوطني، لأن الإسلاميين المتواجدين في السلطة (جزء كبير منهم أعضاء في المؤتمر الوطنى) في الحالة السودانيّة متجذرين في مفاصل الدولة ومؤسساتها، كما أنهم يشكلون حتى الآن الحاضنة الاجتماعيّة والسياسيّة الوحيدة للنظام الحاكم لذلك يصعب جداً على البشير الانقلاب عليهم، كما أن نفوذهم ظهر في ضغط المكتب القياديّ لحزب المؤتمر الوطنى على البشير للتخلي عن فكرة التنحي عن رئاسة الحزب والوصول معه إلى تسويّة تفويض سلطاته لأحمد هارون المعين حديثاً نائبًا للحزب.
في المقابل، يمكننا القول، إن التكتيكات التي تضمنها خطاب البشير وممارسات النظام الحاكم بعد 22 فبراير/ شباط تتلخص في أمرين: عسكرة السياسة، وامتصاص الحِراك الحاليّ عن طريق تشتيت القيادة. فقد غازل البشير في خطابه الجيش السودانيّ ووصفه بأنه حامي وضامن الاستقرار في البلد، كما قام بتعيين وزير الدفاع عوض محمد أحمد بن عوف نائباً أول لرئيس الجمهوريّة، ثم قام بتعيين ولاة الولايات من كبار الضباط وقادة الجيش السودانيّ.
ومع أن أغلب المتابعين للشأن السوداني لاحظوا التكتيك السابق للبشير وكيف أنه يقوم على إقحام الجيش ليكون في مواجهة الحراك، إلا أن القليلين لاحظوا أن البشير كان يدندن كثيراً حول الحوار الوطني كـ«آلية وحيدة لحل الخلافات السياسية». وهذا الكلام يوضح التكتيك الثاني الذي ينوي النظام اتباعه لتفكيك الحراك وهو امتصاص الحراك وتشتيته عن طريق تحييد مجموعات المعارضة ورموزها الداعمة للحراك. بل إن قرار إقحام الجيش في السياسة، ومحاولة البشير لفك الارتباط بينه وبين المؤتمر الوطني، يمكن أن تفهم كمحاولة من البشير لتوصيل رسالة مفادها «لقد قمنا بتغيير النظام وإبعاد المفسدين، ونريد أن نبدأ بداية صادقة جديدة لذلك اجلسوا معنا في طاولة الحوار، وأن الذين يرفضون هذا الحوار عليهم مواجهة الجيش السودانيّ».
ونقصد هنا المعارضة المشاركة في الحراك بمعناها العام، وليس فقط القوى الموقعة على إعلان الحرية والتغيير. وسبب هذا التكتيك هو أن الحراك الحالي اكتسب زخمًا كبيرًا بسبب تأييد عدد من الرموز الدينيّة (عدد من المشايخ مثل الشيخ عبدالحي يوسف ومهران ماهر وغيرهما، ومشايخ الطرق الصوفية، وغيرهم)، والمجموعات المجتمعية والوظيفيّة، على سبيل المثال، ففي 30 يناير/ كانون الثاني 2019 نسق أكثر من 300 من أساتذة جامعة الخرطوم وقفة احتجاجيّة طالبوا فيها برحيل النظام، كما قام 531 أستاذاً من الجامعة بالتوقيع على «مبادرة جامعة الخرطوم» التي تدعو لقيام حكومة انتقالية، كما قام عدد من منسوبي الشركات الخاصة الكبيرة بتنفيذ وقفات احتجاجيّة داعمة للحِراك (مثل بنك الخرطوم، وشركة زين للاتصالات، وشركة صافولا للزيوت، وشركة إم تي إن للاتصالات وغيرها).
الهدف من التكتيك الجديد الذي انتهجه البشير امتصاص هذا الزخم عن طريق تحييد عدد من المجموعات والرموز التي كانت داعمة للحراك ولو على مستوى قواعدها. وهو بذلك يمهد لتحويل تمركز الاستقطاب من «مع الحراك أو ضده» لـ«مع الحوار أو ضده»، لأنه يعلم أن سيخسر في الاستقطاب الأول، لكنه يمكن أن يتحرك ويكسب المزيد من الوقت في الاستقطاب الثاني مثلما فعل بعد احتجاجات سبتمبر/ أيلول 2013، عندما قام البشير بإطلاق «مشروع الحوار الوطني» في يناير/ كانون الثاني 2014.
ويبدو أن هذه الاستراتيجيّة قد بدأت في التأثير في الحِراك فقد قام حزب الموتمر الشعبي بدعم القرارات الأخيرة (باستثناء حالة الطوارئ)، وقام الشيخ عبدالحي يوسف في خطبته الأخيرة بدعم التعيينات الأخيرة، كما صرّحت ميادرة سوار الذهب (رئيس الحزب الديمقراطيّ الليبراليّ) وقالت، إن الحكومة تسير في خط التصحيح. وربما سينضم المزيد من الأحزاب والشخصيات لمساندة النظام في قراراته الأخيرة.
تحديات الحِراك في ظل استراتيجيّة النظام الحاكم الجديدة
هذا التكتيك الجديد للنظام يضع الحِراك السودانيّ وقيادته أمام تحد جديد، وتجاوز هذا التكتيك الجديد لا يكون فقط برفض الحوار مع النظام الحاكم، وإنما بالسعي الجاد لتكوين جبهة أكبر تضم مثلاً، تنسيقية الإسلاميين ومجموعة السلام والإصلاح (ما يعرف بحركة 52) مع باقي القوى الموقعة على إعلان الحرية والتغيير والتي تمثل قيادة الحِراك الحاليّة وهي: تجمع المهنيين السودانيين، تحالف نداء السودان، وقوى الإجماع الوطني، والتجمع الاتحادي المُعارض.
وهذه مسؤولية مشتركة بين هذه الأطراف، يجب أن يسعوا لها جميعًا وألا يكتفوا بالواقع الحالي. من الجدير بالذكر هنا أن مبادرة الإصلاح والسلام (حركة الـ52) تواصلت مع تجمع المهنيين السودانيين للمقابلة والتفاكر حول الوضع الحاليّ والقيام بعمل مشترك، لكن كان رد تجمع المهنيين بأن الدعوة لمقابلة أي كيان أو جهة تتخذ القرار فيها هيئات التجمع، ولم يرد التجمع بعد ذلك على مبادرة الإصلاح والسلام وهو ما يعني، في رأيي، عدم اهتمام القوى الموقعة على إعلان الحريّة والتغيير بتكوين هذه الجبهة العريضة التي تحدثنا عنها.
الأمر الثاني، تحتاج قيادة الحِراك الحاليّ إلى تفعيل دور القوى المعارضة المشاركة في الحراك، مثلاً، رجل مؤثر مثل الصادق المهدي، زعيم حزب الأمة القوميّ، حتى الآن لم يشارك مشاركة حقيقية وفاعلة في الحراك واكتفى بتصريحاته الداعمة للحِراك، وقس على ذلك باقي الأحزاب المُعارضة.
إن تكوين هذه الجبهات العريضة ومشاركة الجميع فيها ليس أمراً مهماً فقط في نجاح الثورة بل هو حماية لها من الثورات المضادة التي يمكن أن تحدث في الفترات الانتقاليّة بعد الانتصار الأول للثورة. فمن الملاحظات المهمة التي ذكرها البرفيسور حسن الحاج علي عن أحد الأسباب الرئيسيّة في نجاح ثورة تونس في تحقيق أهدافها في المرحلة الانتقاليّة وفشلها في مصر هو أن المجتمع السياسيّ في تونس كان أكثر تطوراً من مصر. ونعني بالمجتمع السياسيّ هنا قدرة الأحزاب السياسيّة المختلفة على الاتفاق، والمساومة والتفاوض على أهداف معينة والدفاع عنها.
ففي مصر، بدأ التفاعل بين الإسلاميين والليبراليين بعد الثورة لا قبلها. أما في تونس، فقد بدأت القوى الإسلاميّة والليبراليّة لقاءاتها ونقاشاتها قبل ثمانيّ سنوات من إسقاط النظام. وقد أفرزت هذه اللقاءات نداء تونس الذي صدر في 25 مايو/ آيار 2003 والذي يتضمن المطالبة بدستور جديد يكفل قيام نظام سياسيّ ديمقراطيّ ويقوم على بناء دولة القانون والمؤسسات والحريات ويحترم هوية الشعب ومقدساته ويتمسك بعروبة تونس وإسلامها. وبعد الثورة شكلت القوى السياسيّة في تونس الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة.
كما قامت النخبة التونسيّة في سبيل توحيد جهود الشعب (حتى أفراد الحكومة السابقة) انتهجت نهجاً وسطاً في التعامل مع السياسيين الذين تعاونوا مع نظام ابن علي. فقد اتّبع التونسيون أسلوب الفرز، لا التطهير، فسمحوا للذين لم يرتكبوا جرائم بالمشاركة السياسية في العهد الجديد، أما كبار المسؤولين السابقين فيسمح لهم بالمشاركة بعد خمس سنوات. كل ذلك لتحقيق هدف وحيد وهو توحيد كل الجهود لمنع المؤسسة العسكريّة من إعادة إنتاج نفسها وإنجاح الانتقال الديمقراطيّ، على اعتبار أن تحقيق هذا الهدف المحوري سيمكن قوى التغيير ومؤسسات النظام الديمقراطي من تحقيق الأهداف الأخرى تباعًا. لذلك فتكوين جبهة عريضة تضم الجميع لن يساعد فقط في منع امتصاص الحِراك من قبل البشير، بل سيقدم ضمانًا كذلك على انتصار الثورة في مرحلتها الانتقالية وسيقطع الطريق على الثورات المُضادة.
تكوين هذه الجبهة العريضة لا يعني أبداً أن يترك الناس خلافاتهم الفكريّة والأيديولوجيّة، وإنما يعني أن يتفقوا على هدف استراتيجيّ هو «إبعاد المؤسسة العسكريّة تماماً عن السياسة» وأن يعطوا هذا الهدف أهمية قصوى لديهم، ومتى ما حققوا هذا الهدف يمكنهم العودة إلى صراعاتهم الفكريّة والسياسيّة من دون إقحام العسكر فيها.
ومن أفضل ما يمكن أن يوضح هذا الأمر هو تجربة البرازيل في ثورتها، وذلك أن كل كتل المعارضة السياسيّة في البرازيل (حزب العُمال البرازيليّ، والحزب الديمقراطيّ الاشتراكيّ، والحزب المسيحيّ الديمقراطيّ، الأحزاب الليبراليّة المحافظة، والحزب الشيوعيّ البرازيليّ) جلست مع بعضها واتفقت على تشكيل حزبٍ سياسيٍّ جديدٍ، هو الحركة الديمقراطية البرازيلية (The Brazilian Democratic Movement – MDB) وهو حزب سياسي عابر للأيديولوجيات ولا يملك أي برنامج انتخابيّ ولا أي تصور حول التغيير سوى فكرة واحدة فقط، وهي إخراج العسكر من الحياة السياسيّة في البرازيل.
ولو أتيح لنا أن ننظر في نسبة التصويت لهذه الحركة منذ بدايتها في عام 1966 فستجدها 36%، أما في اللحظات الانتخابيّة الحاسمة في تاريخ الانتقال الديمقراطيّ في البرازيل مثل انتخابات 1974 و1978 و1986 فوصلت نسبة التصويت لما يقارب الـ50%، وعندما حدث انتقال ديمقراطيّ راسخ في البرازيل انخفضت نسبة التصويت لها لما يقارب الـ10%. والسبب في ذلك أن الحركة بتحقيق الانتقال الديمقراطي قد حققت هدفها الرئيسيّ وأصبح لا معنى للتصويت لها، ورجعت باقيّ الأحزاب تشارك بصورة منفردة وببرامجها الانتخابيّة المنفصلة كما هو الحال الطبيعيّ في أي عمليّة سياسيّة عادلة.
الكرة الآن في ملعب قيادة الحِراك، نعني القوى السياسيّة الموقعة على إعلان الحريّة والتغيير، لإبطال تكتيك البشير الجديد وتحقيق تصعيد غير مسبوق في الحِراك السودانيّ عن طريق تكوين جبهة عريضة وتفعيل المعارضة الداخليّة بين هذه القوى، فهل ستنجح قيادة الحِراك في ذلك؟
هذا ما ستخبرنا به الأيام المقبلة