فيلم Barry Lyndon: كيف يساعدنا كوبريك على فهم الفن
يقف باري متأملًا في مآلات أموره المتدهورة، يفكر في أفعاله وما أدت إليه، في حظه السيئ وقدره الخارج عن إرادته، نرى كل ذلك على وجهه في لقطة مقربة لا يظهر فيها إلا ذلك الوجه بثبات مربك، يتغير ذلك الثبات لصالح حركة منظمة وبطيئة فائقة الدقة، يأخذ وجه باري في الابتعاد ببطء حتى يصبح ضئيلًا لا يرى وسط عمارة هائلة وشجيرات وبركة مياه ساكنة ومناظر طبيعية متنوعة، تذكرنا ضخامة الخلفية وتذكره بمكانه في هذا العالم وسيطرته المحدودة على كل ما حوله.
على الرغم من سمعة فيلم باري ليندون Barry Lyndon المدوية كواحد من أعظم ما أنتجت السينما خاصة على المستوى الفني، فإن صناعته لم تكن خطة مخرجه ستانلي كوبريك الأصلية، أراد كوبريك صناعة فيلم ملحمي عن نابليون بونابرت قبل أن يتعطل المشروع بسبب الميزانية المتضخمة، عوضًا عن ذلك اقتبس رواية تدور أحداثها في القرن الثامن عشر وصدر الفيلم في عام 1975. يحكي الفيلم قصة رجل يصعب التعاطف معه أو محبته لكن تسهل الشفقة على حاله، لكن قصة الرجل -باري ليندون- ليست هي ما رسخ لمكانة الفيلم كتحفة فنية، لكن كيفية تناول كوبريك للفترة الزمنية بصريًا وصوتيًا وسياسيًا، فيلمه ليس الأول الذي يتناول تاريخًا بعيدًا، لكن ما يجعله استثنائيًا هو تطوير كوبريك لأساليب التناول بشكل يستحيل فيه فصل الجماليات البصرية عن الموضوع، لم يصنع فيلمًا جميلاً بشكل مجرد أو منغمس في هوس إعادة بناء الصور الماضية بل مزج أكثر الفنون حداثة أي السينما بأحد أعرقها وهو التصوير الزيتي لصناعة منتج مفعم بالتناقض والتناغم في آن واحد.
دمج كوبريك بين ثبات التصوير الزيتي وحركة الكاميرا فصنع ذلك مزيجًا بين التناقض والتناغم، تلك العلاقة بين الثبات والحركة، بين عراقة الصورة المرسومة وحداثة حركة الكاميرا والعدسات وكيف يساهم كلاهما في خلق المعاني والتعبير عن المشاعر، حتى وإن ظهر ذلك باردًا وهندسيًا كما يوصف كوبريك غالبًا هو ما جعل الفيلم إنجازًا غير مسبوق، من خلال باري ليندون يمكن تناول تأثير الفنون الأخرى على فن السينما وكيف يمكن أن يخرج ذلك التأثير من مجرد خلق مرجعيات جمالية إلى إعادة تعريف علاقة الفنون ببعضها البعض.
الكاميرا كبديل للفرشاة
يقفز الكثيرون لوصف أي مشهد سينمائي غني معقد التفاصيل يصور حقبة زمنية فائتة بكونه يشبه لوحات «عصر النهضة»، يمثل ذلك التعبير أقصى درجات المدح بغض النظر عن صحته، ينطبق ذلك على الأوصاف التي تلتصق بباري ليندون، لكن الفيلم يأخذ إلهامه الرئيسي من مدرسة فنية عاصرت الحقبة التي يتناولها وهي مدرسة لحقت عصر النهضة بأعوام تسمى «الروكوكو Rococo» أو الباروك المتأخر، لفهم الروكوكو يمكن العودة سريعًا إلى الباروك Baroque، اشتهرت مدرسة الباروك في الفن التشكيلي بتركيز على الدراما المكثفة، مسرحية استعراضية وحركة تشبه حركة الممثلين، ديناميكية واضحة تجعل من كل لوحة مشهدًا تم إيقافه من صورة متحركة، امتازت أيضًا بنزعة نحو المبالغة في الإضاءة وخاصة التباين الشديد بين الظلام والنور أو ما يعرف بالكياروسكورو Chiaroscuro.
ما يجعل مناقشة الباروك أساسية هو تأثيرها الواضح على التصوير الفوتوغرافي والسينمائي، فذلك التباين الشديد يصنع دراما دون مجهود، يؤطر العناصر المهمة ويغيب تلك التي في الخلفية، ربما أكثر تأثيراتها شهرة تقع في تصوير فيلم الأب الروحي The Godfather 1972 الذي اتخذ من أسلوبها منهجًا على الرغم من أن أحداثه تقع في أربعينيات القرن الماضي وليست في القرن السابع عشر، لكن تأثير الباروك جعل منه أحد أكثر الأفلام المؤثرة بصريًا على ما قدم بعده، وساعد مصوره جوردن ويليس على تصوير التناقضات والتحولات الدرامية باستخدام الأضواء والظلال، لكن كوبريك لم يختر التأثير الأشهر الذي يخلص صور درامية جميلة، ربما لجأ له عند تصوير المشاهد الداخلية على أضواء الشموع لكنه فضل التأثير المهتز لذلك الضوء على التباين الحاد، وركز أكثر على الإخلاص للفترة التي يتناولها وصاحب ذلك ارتباط حقيقي بين ما يريد التعبير عنه وما تعبر عنه بصريات تلك الفترة.
يحكي باري ليندون قصة صعود وهبوط أحد نبلاء القرن الثامن عشر ومحاولاته في الارتقاء الاجتماعي ومأساته الحياتية، يعتبر باري ليندون واحدًا من أكثر الأفلام التي يتم الإشادة بجمالها البصري وتقنيات الإضاءة والتكوين وتصميم الأزياء والإنتاج، يوصف كوبريك دائمًا بأنه مهووس بالتفاصيل والدقة فعندما أراد صنع دراما فترة، اختار مرجعية شكلية وموضوعية تسمح له بالإبداع وفي نفس الوقت بنقل سمات حقبة بعينها بحرص وأمانة تجعلها تنبض حية أمامنا على الشاشة، فلجأ لفنون فترة الروكوكو التي أخذت منحى أكثر بذخًا من الباروك، يعكس الواقع الذي اختار الفنانون وقتها تصويره، حياة الملوك والنبلاء، الملابس المخملية المزركشة الناعمة وتسريحات الشعر المتطرفة، الأثاث المزخرف والبيوت ذات الأسقف العالية، راقب كوبريك كل تلك التفاصيل بحرص فأصبح فيلمه أشبه بتتابع لمدة ثلاث ساعات للوحات عصر الروكوكو، لكن لم يكن هذا خيارًا شكليًا وجماليًا فقط، امتلأ فن ذلك العصر بزيف المظاهر والمغالاة في الجماليات المادية وهو ما يمكن اعتباره مجازًا للزيف الذي صوره كوبريك في حياة النبلاء في الفيلم وفي سعي باري الحثيث للادعاء والتنكر وعيش حياة مختلفة عن حياته البسيطة.
اختار كوبريك لوحات «ويليام هوجارث William Hogarth» من العصر كإلهام له أكثر من غيره، أحد رواد الروكوكو، خاصة مجموعة لوحاته «الزواج على الطريقة الحديثة Marriage A La Mode» وهي سلسلة من اللوحات تحكي قصة واحدة وكأنها تتابع مونتاجي، وهو رابط آخر بين العالمين الفنيين، تشبه سلسلة زواج على الطريقة الحديثة حكاية تحذيرية من مساوئ الزواج المبني على علاقات مادية بحتة وهي تيمة مشتركة في الفيلم أيضًا، بجانب التشابهات الموضوعية توجد اقتباسات شبه مباشرة لشكل وتكوين لوحات هوجارث داخل الفيلم، لم يقتبس كوبريك بشكل حصري من هوجارث لكنه كان الأكثر حضورًا نظرًا للارتباط الموضوعي بين العملين، كلاهما يقص قصة زواج خالٍ من الحب منظم فقط للمصلحة والاستغلال، كما أن هوجارث اتسم بروح ساخرة تشابه سخرية كوبريك المعاصرة في سياق مختلف.
كلا من هوجارث وكوبريك يتبنى وسيطًا فنيًا كلاسيكيًا أنيقًا، جديًا ومليئًا بالمشاعر لعرض أفكار تتراوح بين الصدق والتهكم، الصدق في إظهار المشاعر الحقيقية لأبطال تلك الأعمال والسخرية من الطبقات البرجوازية وطبيعتها الزائفة والمبهرجة، ربما أكثر التشابهات شهرة بينهما هي بين لوحة هوجارث الثانية في سلسلة زواج على الطريقة الحديثة التي يتمثل الزوج في حالة خمول وعدم اهتمام، تمثل اللوحة الانهيار البطيء للزواج بينما يتناول كوبريك المشهد المشابه لها في مرحلة بعد انهيار الزواج وانهيار باري شخصيًا بعدما انهمك في الشرب والمقامرة، يظهر بذلك الشكل الخامل المنكسر في مشهد أكثر حدة وتأثيرًا حتى من لوحة هوجارث التي تتسم بخفة أكبر.
العاطفة والتهكم
في كل أفلامه يوازن ستانلي كوبريك بين التهكم والرومانسية، يقف على مساحة مربكة بين ما هو جلي وجميل وبين التعالي على كل ذلك بالوعي الذاتي والسخرية، لذلك ليس من الغريب أن يستقي إلهامه بجانب فنان ساخر مثل هوجارث من فناني فترة أخرى وهي الرومانتيكية التي تتسم بالإغراق الكامل في الجماليات خاصة جماليات الطبيعة، تتجلى في أعمالهم الطبيعة كمجاز للكمال على الأرض، يتم تصوير تلك العاطفة تجاه ما هو جميل بحرص ودقة شديدين، باختيار كل لون وكل لمسة بحيث يصبح الشجر أكثر خضارًا والسماء أكثر زرقة.
يمكن اعتبار فناني العصور المقبلة التي اخترعت فيها السينما أكثر حظًا من ذلك لأنهم ليسوا مضطرين لخلق تلك المشاهد من البداية بل عليهم التقاطها، لكن لا يكفي أن تعرف كيف تلتقط صورة ثابتة أو متحركة لكي تظهر الطبيعة ببهائها في ضغطة زر عوضًا عن الرسم بالألوان، لكن يجب أن تملك عينًا جيدة لما يمثله المشهد الطبيعي وكيف تلتقطه، يملك كل من كوبريك ومدير تصويره جون ألكوت العين القادرة على إعادة إنتاج لوحات الرومانتيكيين في صورة فيلم، فبعدما نخرج من الغرف الفسيحة المغلقة المضاءة بالشموع على طريقة الباروك أو المملوءة بشخصيات تتحرك وتبدو مثل شخصيات الروكوكو فإننا نصبح أمام مساحات مضاءة بنور الشمس الطبيعي بها طبقات متعددة من الظواهر الطبيعية من جبال وتلال وشجيرات بأحجام مختلفة.
يمكن التقاط تأثر كوبريك بأحد أشهر المصورين الرومانتيكيين جون كونستابل John Constable الذي تجمع أعماله بين الجمال الطبيعي والمعماري، في مناظره الطبيعية تتصدر الطبيعة المشهد لكن ربما نجد مبنى على بعد كبير يشي بالوجود الآدمي، كذلك تأخذ الطبيعة في باري ليندون شكلين، إما تظهر كما خلقت أو بعدما أجريت عليها تعديلات تشي بالثروة، أشجار مهذبة بشكل هندسي وبرك سباحة ونافورات فارهة. يظهر النوع الأول في الفيلم قبل أن تتغير حياة باري، في رحلته نحو الترقي المجتمعي حيث تنقله رحلته عبر طرق متعددة تغير مصيره، لكن ذلك كله يحدث على مرأى من مشاهد طبيعية لا يضاهى جمالها يصورها كوبريك برومانتيكية واضحة متأثرة بجون كونستابل دون تهكم، تبدأ تلك الطبيعة في الاختلاط بالعمارة عندما تتغير حالة باري الاجتماعية ويصبح مقيدًا بالمنزل وزوجته الجديدة وابنه وفواتيره وديونه الطائلة، يظهر ذلك في الحدائق المشذبة والقصور والمباني الضخمة التي تحيطها الأشجار والبحيرات، يستخدم كوبريك إرث الرومانتيكيين في تصوير الطبيعة لصالح صورة كبرى يرغب في رسمها تصور صعود وسقوط شخصيته سيئة الحظ، وكيف يمثل عنصر أساسي مثل الجغرافيا والطبيعة تباينًا بين حالته السابقة واللاحقة.
باري ليندون هو أحد أكثر أفلامه شهرة فيما يخص الجمال الشكلي واستخدام المرجعيات البصرية، لكنه وعلى عكس الكثير من الأفلام التي تأثرت به، لا يكتفي باقتباس لوحات قديمة تصقل جودة فيلمه أو تصبح وسيلة سهلة للوصول للإبهار التقني بل تصبح الاقتباسات أداة أخرى من أدوات كوبريك للوصل بين الماضي والحاضر للتلاعب بالمرجعيات التاريخية وتشكيلها لإخراج منتج جديد.