بردة «تميم البرغوثي»: محنتنا بين يدي الرسول
يخبرنا رواة السيرة أن «كعب بن زهير» مدح الرسول عليه الصلاة والسلام بقصيدة كانت هي نجاته من استباحة دمه لهجائه الطويل للرسول وللمسلمين. ويذكرون أنه (صلى الله عليه وسلم) أعجب بالقصيدة، فخلع بردته وألبسها لكعبٍ تكريمًا له، ومن هنا، وبعد أكثر من 6 قرون، جاءت تسمية أشهر قصائد المدائح النبوية بالبردة. إنها قصيدة «الإمام البوصيري» والتي كان مطلعها «أمن تذكُّرِ جيرانٍ بذي سَلَمِ ـــــ مزجت دمعا جرى من مقلةٍ بدَمِ».
طارت هذه القصيدة في الآفاق، وأنشدها الملايين حول العالم الإسلامي، وشاعت على مدى العصور محاولات عديدة للنسج على منوالها، ولعل أكثرها نضجاً كانت معارضة أمير الشعراء لها «ريمٌ على القاعِ بين البانِ والعلمِ» والتي أسماها «نهج البردة».
معارضة تميم
والمعارضة هي إنشاء قصيدة على وزن وقافية أخرى. وفيها كما يقول «تميم البرغوثي» في تقديمه لبردته؛ «تحية من اللاحق للسابق، وهي، حتى بعد الاعتراف بالفضل للمتقدم تبقى عملا فيه قدر من المخاطرة، لأن فيها شبهة مما سماه «أحمد شوقي» نفسه «تجاوزا للقدر»، ولأنها نص يعتمد في جزء من معناه على الأقل، على نص سابق له، فلا يكتمل معناه إلا بمعرفة القارئ للنص الأول، ثم هي مخاطرة لأن كتابتها، في زمننا هذا، ربما تشكل تحديا لمنهجين سائدين في الثقافة العربية، تكون عند أولهما تمرُّدا على الحداثة، وعند الثاني تجرؤا على التراث. لذلك ربما احتجت في كتابتها إلى توضيح السياق».
تميم البرغوثي هو حالة فريدة في زماننا هذا لا بد من التوقف عندها كثيرا. هو الشاعر المجيد في عموديّ الشعر وحُرِّه. ومدرس العلوم السياسية بإحدى أرقى جامعات الولايات المتحدة. وشخصية تجمع بين حالمية الشاعر وشجونه وتحليقاته، وواقعية السياسي وخلوده إلى الأرض.
تميم هو «ابن الرومي» و«المتنبي» معًا يخاطبانِك بلسان عصرك، ويعيشان ربيعنا وخريفنا، ويطوفان معنا بالقدس الأسيرة، ودمشق الكسيرة، والقاهرة الضريرة. تميم الذي جمع جينات «مريد» ابن محنة فلسطين، و«رضوى» المصرية الجميلة كوطن محرر كما لقبها مريدُها، يستحق صولاتٍ وجولاتٍ في دنيا شعره وأفكاره.
المعارضة من الفنون الشعرية شديدة التقليدية. ومعارضة بردة البوصيري خصيصاً مرحلة شبه ثابتة في النمو الأولي لمعظم شعراء المراحل المتأخرة عن زمانها !. لكن من فنون الإبداع، أن تأتي بالجديد مما اعتاد الناس فيه الناس التقليد. ومن هنا فرادة هذه البردة التميمية.
لا يجد تميم غضاضة في الاعتراف بتقليدية ما فعل، لكن يشير إلى أنه لم يكتفِ بمحاولة التجديد في المضامين والأفكار، بل حتى في البناء الشكلي لقصيدته. فهو وإن احتفظ بوزن القصيدة على بحر البسيط، لكنه أخذ صدر -الشطر الأول- أشهر أبياتها «مولاي صلِّ وسلم دائماً أبداً»، وجعله عَجُز -الشطر الثاني- في أهم أبيات بردته:
على النبيِّ وآلِ البيت والشُّهدا … مولايَ صلِّ وسلِّم دائماً أبداً
ومن هنا جاءت قافية القصيدة بالدال بدلاً من الميم.
ما أشبه الليلة بالبارحة
ما أعجبَ ما يعيد التاريخ نفسه ! . كتب البوصيري بردته مادحاً ومستنجدًا بخير الأنام بينما خيول المغول تسحق بغداد، والعشرات من عواصمنا قبلها وبعدها. والأسبان يحصرون أندلسنا في جيب غرناطة الصغير، عدوها من أمامها، والبحر من خلفها. والصليبيون يأخذون القدس صُلحاً من «الكامل الأيوبي» ملك مصر بعد أن حررها جده العظيم. وما زال سرطانهم يتجذر في سواحل شامنا المريض. يتلاعبون بحكامنا السفهاء، ويستنصر هؤلاء بهم على بعضهم. وكتب أحمد شوقي على نهجها في زمن الاحتلال الشامل لكافة أراضينا من مستعمري الشرق والغرب، وذبول آخر رموز الوحدة بإعلان وفاة رجل الخلافة العثماني المريض.
هنا يلقي تميم البرغوثي بردته إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، بينما أمته مقبلة على ربيع منتظر لم يلبث أن تحوَّل إلى صيف محرق. و من وهن إلى وهن، ومن تمزق إلى تشرذم وتفتت. ومن دول وأشباه دول إلى دويلات متصارعة، وتفترش الدول الكبرى أجسادها ودماءها في حلبة صراعها على المصالح والنفوذ والأيديولوجيا.
وتميم يرى أن المأساة واحدة. وأنه لا جديد تحت الشمس. وأن مكمن الداء هو هو لم تمتد له يدُ طبيب. نفس العدو المتربص، نفس الحكام المستبدين المُذلين، نفس الشعوب المقهورة سواءً قامت أو استكانت
بين يدي خير البشر
يرفع تميم شكوانا إلى المصطفى، نحنُ المنفيون في أراضينا، الغريبون في أوطاننا. دماؤنا تفيضُ هدراً من صميم قلبنا في العراق والشام. ولا نملك في أكثر الأحوال إلا عجزنا ودموعنا. فلا بأس أن نستنجد بجذرِ هذه الأمة، محمدنا عليه الصلاة والسلام. الذي أقامنا الله به من العدم، وأودع في وحيه إليه سر حياتنا ووجدانها.
يكرِّس تميم القسم الأكبر من بردته في مدح الإنسان النبي قبل النبي الإنسان. نعم هو آخر صلة الوحي بين الأرض والسماء، لكنه كان معنا في هذه الأرض، وتحيط بروحه الكريمة نفس اللحم والدم. رسول الله خير البشر، الذي حمل همَّنا من قبل أن نوجد، بل شاركنا فيه. وكان مخاض الدعوة عسيراً عليه، منذ أول ضمة لجبريل في حراء وهو يقرئُه أول آي القرآن.
يدفعنا تميم في أبياتٍ كُثُر أن نتوحد شعوريا مع النبي الكريم في مراحل الجُهد والشدة. إنها رسالة واضحة من تميم إلى هذه الأمة المنكوبة، تحملوا واصبروا وصابروا مهما ضاقت علينا الدنيا والتاريخ بما رحُبوا، فحتي المبعوث من رب العالمين ليكون خاتم الأنبياء وآخر عنقود الوحي الرباني، كان بشراً تضيق به الدنيا وتميد، ولولا أن ثبته الله لكان في الأمور أمور. فكانت بشرية المصطفى هي أميز ما يريدنا تميم أن نلتفت إليه في أيامنا هذه.
وكذلك الرعيل الأول من المسلمين، كانوا نماذج في الصبر على البلاء والعذاب في سبيل اعتقادهم، وكان النبي الكريم قدوة في صبره على بلائهم أمام ناظريه، وهو المحب الشفيق الرقيق.
واستشعر قلقه – عليه الصلاة والسلام – على ابن عمه عليٍّ الذي افتداه بجسده ونام في سريره ليلة تربص به أعداء السماء والضياء والإنسان وقد استحق عليٌّ الذكر الخالد لشجاعته وفدائه وإخلاصه، ونعم القدوة الحسنة لنا هو ومن على دربه
وشاهد ثباته محصوراً في غار ثور، وتثبيته لرفيق هجرته وليس بينهما وبين أنصال المشركين إلا أوهن البيوت .. وحمامتين !
وفي هذا السياق يضرب تميم في صميم ما يريد، فيشير بجلاء إلى أن جوهر رسالة المصطفى عليه الصلاة والسلام هو تكسير كل القيود على القلوب والعقول والأجساد، وتثبيت حرية الناس، مهما كلفتهم هذه الغاية النبيلة من جهدٍ وصبر .. وهذه الفكرة مركزية في بردة تميم، وستكون هي أساس الجزء القادم من رحلتنا من البردة، وتصلح أن تكون هي عنوانها الفكري الأبرز.
ورسالة طمأنة عزيزة مهما كان ما يعصف بنا، إن الرسول الكريم معنا، ويعرفنا فرداً فرداً، فانتظروا الشفاعة جزاء البذل والشجاعة. إنه معنا روحاً ونهجاً في كل تفصيل من حياتنا الإنسانية. وهي أيضًا صيحة للاجئين والمستضعفين والقابضين على جمر الحرية والحياة .. قدوتكم مبعوث السماء ذاق ما تذوقون، وجالد ما تجالدون، فاثبتوا، واعملوا في سبيل ما تستحقون.
نكتفي في هذا الجزء بهذا القدر .. لكن ما زال في البردة التميمية غيوثاً لا تنقطع. علي أن تكون هذه السداسية بمثابة «تتر» النهاية لهذا الجزء.