افتتاحية بطلها كوبريك

في عام 1968 بدأ المُخرج «ستانلي كوبريك» فيلمه Space Odyssey بواحدة من أعظم الافتتاحيات في تاريخ السينما، وفيها يستكشف قرد قطعة عظام ثم يشهد قُدرة يده على تحويلها لسلاح ليبدأ بها معركة عنيفة مع قبيلته تنتهي بإلقاء درامي للعظمة في الهواء لننتقل بمونتاج ساحر إلى سفينة فضاء متطورة تسبح في العدم.

يُخبرنا «كوبريك» بخفة عن التناقض المُتأصل في بشريتنا، تقدم الإنسان بما يكفي لاختراع القُنبلة الذرية ولغزو الفضاء، لكنها اختراعات صُنعت بالأساس لقتل الآخر المُمثل في قبيلة أخرى لا تُشبهنا، لذلك مهما تقدمنا تكنولوجيًا فغريزتنا البدائية لم تتطور إنش، لا يزال بداخلنا هذا القرد البدائي الهمجي الذي يُسخر كل شيء يصنعه لقتل أعدائه.

تستعير«غريتا غرويج» تلك البداية الملحمية لتصنع بارودي عنها يفتتح فيلمها الأخير «باربي»، نبدأ بفتيات صغيرات يلعبن بدُمى رُضع، يخبرنا الراوي أن الدُمى صُنعت منذ البداية على هيئة أطفال رُضع لتدريب الصغيرات على المُهمة الوحيدة التي تنتظرهن مُستقبلًا، الأمومة والرعاية. ثم تأتي دُمية باربي البلاستيكية العملاقة لتُحرر الفتيات من هذا الدور.

من افتتاحية فيلم Barbie – إخراج جريتا جرويج

تُلهم الدمية الجديدة الفتيات ليُحطمن دمى الرضع القديمة بُعنف في وداع للدور المجتمعي الذي يحصرهن في سجن الأمومة وحسب، لكن تقدم باربي تناقضًا جديدًا يتبدى في تكوينها الجسدي، تظهر في المشهد مثل إله جبار مُتناسق القوام، وليس دُمية يُمكن استئناسها ووضعها في مهد. تتحرر الفتيات من سجن الدمى الصغيرة التي صنعها النظام الأبوي ليحدد لهن مُهمتهن ويؤسرن لصالح دُمية جديدة، عليهم أن يكونوا على صورتها. وفي لهاثهن وراء تلك الصورة ربما يخسرن كل شيء!

دمية تُحفز الحلم وتصنع الكابوس

باربي هي أفضل مُفاوضة حدثت بين ما يجب أن تكون عليه المرأة وما هي عليه بالفعل.
غريتا غرويج

صُنعت «باربي» عام 1959 على يد «روث هاندلر» التي أسست كذلك شركة «ماتيل» الكيان الاقتصادي العملاق الذي سيروج لباربي منذ وقت صُنعها وحتى اليوم.

من ناحية قدمت «باربي» لأول مرة صورة أكثر تقدمية للأنثى خارج أطر الأمومة والزواج، ظهرت في أدوار لم تحلم بها نساء زمنها، مثل دمية رائدة الفضاء عام 1965 التي سبقت أول رائدة فضاء أمريكية -«سالي ريد»- عام 1978، وكذلك دُمية رئيسة البلاد عام 1992 بينما حتى اليوم لم تتول امرأة رياسة الولايات المُتحدة.

«روث هاندلر» صانعة باربي
دمية رائدة الفضاء

من ناحية أخرى قدمت «باربي» صورة شديدة المثالية للمظهر والجسد، كمال لا يُمكن وصاله، كلل ملايين الفتيات حول العالم بالخزي والقلق لأن مظهرهن لا يرقى للدمية بين أيديهن، التي منحتهن منذ نعومة أظافرهن كتالوج الجمال الأنثوي.

هذا هو التناقض الذي عنته «غريتا» في تقديمها لنُسختها من افتتاحية كوبريك، البشر لدى «كوبريك» مهما تقدموا يظل الحيوان الهمجي كامن بداخلهم، والفتيات مهما حطمن أدوار الأمومة والزواج التي يُباركها النظام الأبوي ويدين ما هو خارجها، لن يجدن حُريتهن بل تستعبدهن سجون جديدة مثل الكمال الجسدي للدمية التي حررتهن.

تستعير «غريتا» ذلك التوازي بين الدُمى والأدوار النسوية من طفولتها نفسها التي دارت حول الدُمى، وفيها كانت الطفلة هي إلهة دميتها، تختار لها ثيابها وأدواتها، لكن مع الانتقال للمُراهقة وتحول الطفلة لأنثى، تمتلك قوامًا يُمكن مقارنته أخيرًا بقوام الدمية، تتحول الدمية من حيوان أليف لرمز مُخيف يُذكر المراهقة بكل ما هي ليست عليه.

لذلك تخلق «غريتا» في فيلمها يوتوبيا خيالية تحيا فيها دُمى «باربي» بسلام، يؤدين كل وظائف المجتمع العقلية مثل الرياسة والعلوم والفنون والآداب، كل دمية في اليوتوبيا الخيالية تُعادلها طفلة سعيدة تلعب بها في عالم الواقع، وبين العالمين بوابات مُغلقة بعناية.

باربي رئيسة للبلاد في عالمها – من فيلم Barbie – إخراج جريتا جرويج

نرى نُسخة غرائبية من باربي، أكثر بوهيمية وأقل عناية بمظهرها، نُدرك أنها كانت ضحية لطفلة مارست عليها عدوانيتها في إفساد كمال مظهرها ثم إلقائها في حاوية تضم ألعابها المعطوبة. في إشارة للتمرد الأنثوي على جمال باربي عندما تُدرك كل طفلة أنها ليست سيدة دميتها بل عبدة صورتها.

نسخة باربي الغرائبية من فيلم Barbie – إخراج جريتا جرويج

يتحطم سلام يوتوبيا «باربي» عندما تسأل نُسخة أخرى من باربي وهي النسخة الأكثر شعبية ووفاءً لكتالوج صنعها بصوت مرتفع: هل فكرتم يومًا في الموت؟

تزلزل تلك العبارة سلام اليوتوبيا، لأنها عبارة تنتمي للبشر، للظرف الإنساني، الذي يُكلل حياتنا بالقلق من الموت وفقدان المعنى والملل، بينما تؤسس «غريتا» منذ البداية لليوتوبيا خاصتها باعتبارها عالمًا بلاستيكيًا، نرى ذلك في استهلاك باربي للطعام والشراب والاستحمام، هي تتظاهر بملء طبقها وبتشغيل صمامات المياه لكن لا شيء يحدث لأنها ببساطة دمية، مصنوعة لأفعال المُحاكاة لا أكثر. بينما منازل اليوتوبيا شفافة والجميع يرى الجميع، لا أحد يمتلك حياة داخلية لأن الدمى لا تحتاج لخصوصية ووجدان داخلي.

لذلك نُدرك من تعبيرها إنها تشعر بخوف إنساني لا يخصها إنما يخص الفتاة التي تُعادلها في العالم الواقعي والتي تُفكر في الموت. فندرك أن فتحة ما بين بوابات العالمين سربت الوعي الإنساني للدمية من مالكتها.

كتالوج نسوي للمرأة الخارقة

أحيانًا أعتقد أنني لم أكن لأصير نسوية أبدًا لو امتلكت ثديين أكبر.
Fleabag

يقدم الفيلم في البداية تأسيس بديع لباربي كرمزية لقدرة النساء على تحرير أنفسهن من سجن الأدوار التقليدية ولكن بدفع ثمن باهظ وهو الانتقال لسجون جديدة لم يصنعها الرجل تلك المرة.

في الآونة الأخيرة ظهرت أعمال فنية ناجحة تدور حول الفكرة ذاتها مثل Fleabag للكاتبة «فيبي والتر بريدج» الذي يدور حول فتاة نسوية، مُستقلة، تمتلك متجرها الخاص. لكنها تعترف بسُخرية أنها لو امتلكت القوام المثالي ربما لم تكن لتفكر في أن تكون نسوية، وفي أشهر مشاهد العمل، تجلس البطلة في حُجرة اعتراف كنسية لتقول:

أريد رجلًا يُخبرني ماذا أرتدي كل صباح؟ ماذا أحب وماذا أكره؟ ما الفرقة الموسيقية التي أسمعها وما ينبغي أن أثور بشأنه؟ رجل يُخبرني كيف أحيا حياتي لأنني أحياها بشكل خطأ ومروع.
من مسلسل Fleabag

بينما تظهر «يوليا» في دراما «يواكيم ترير» «أسوأ فتاة في العالم» كفتاة نسوية تُحطم قلوب الرجال واحدًا بعض الآخر في خضم سعيها لاكتشاف ذاتها، وتبدأ شهرتها بكتابتها مقال جريء عنوانه: «هل يمكن أن تكوني نسوية وتُحبين الجنس الفموي؟».

من فيلم The Worst Person in the World

لا تسيء الفهم وتظن أن «يوليا» و«فليباج» تٌعانيان الوهم الذكوري الطفولي أن بداخل كل امرأة رغبة في الاستسلام لسُلطان رجل قوي يقود حياتها وهي في كنفه، إنما كلتاهما تجُسدان إحدى أهم مشاكل الخطاب النسوي الحديث في بنيته الذي حول عبارة: «المرأة يُمكن أن تكون كل شيء» إلى «المرأة يجب أن تكون كل شيء».

تحولت بعض خطابات النسوية من تحرير المرأة من سجن بعينه لدوار اختيارات مُثقل على الأنثى أن تلبيها جميعًا، وأمام دوار الاختيارات ينكفئ المرء دومًا على رغبة طفولية في ألا يختار شيئًا وأن يتولى أحدهم عنه الاختيارات جميعها. وهو حنين لنسخة المرأة القديمة الأكثر بساطة التي سلمت إرادتها كليًا للرجل.

عالم ما بعد الرجال

باربي ليست نسوية، هي قصة تدور في عالم ما بعد النسوية.
مارجو روبي

يحوي فيلم «باربي» Master Scene تقوده الممثلة «أمريكا فيريرا» وتقول:

«من المُستحيل أن تكوني امرأة، يجب أن تكوني شيئًا مُميزًا، لكنك دومًا ستفعلينها بالطريقة الخطأ، كوني نحيفة لكن ليس جدًا، لا تقولي أصلًا نحيفة بل قولي بصحة جيدة، امتلكي المال لكن لا تطلبيه، كوني مُتسلطة لكن ليس لئيمة، كوني أمًا لكن لا تتحدثي عن الأطفال، كوني امرأة ناجحة مهنيًا لكن عطوفة ومهتمة بالآخرين، كوني جميلة حول الرجال لكن لا تغريهن».

أمريكا فيريرا من فيلم باربي

يظهر في الفقرة هذا التشوش الذي يكسو بعض خطابات النسوية الحديثة. وفيها المرأة كل شيء ونقيضه.

لا يوجد في حياة «فليباج» و«يوليا» رجل أبوي مُتسلط يمنعهما من الاختيار، بينما «أمريكا فيريرا» في فيلم «باربي» لا تعاني من زوج متسلط إنما يظهر زوجها بحضور سلبي مُنسحب، تُدير «فيريرا» حياتها بالكامل كأم في منتصف العمر وتعمل في وظيفة مملة لكن مرموقة.

لذلك الرجل ليس الند هنا بل الند هو الكتالوج الذي أخضعت له الأنثى نفسها بعد أن تحررت من الرجل. مثلما أن الند لم يعد دمية الرضيع التي منحها الآباء للطفلة لتتجهز للأمومة بل الدمية التي صنعتها أنثى لتحرير النساء وصنعت لهم معها سجون أخرى مثل سجن الجسد والصورة.

في خضم تأسيس الأنثى لكينونتها ككائن مُستقل عن سردية الذكر المُهيمن لا تقدم النسوية تعريفًا مُحددًا لما يجب أن تكون عليه الأنثى فيضم التعريف كل الأدوار ولا يكتفي بل يستعير أدوارًا سامة من الذكورة ذاتها.

تتسرب أمراض الذكورة نفسها، تحديدًا الرجولة السامة Toxic Masculinity أو عجز الرجال عن تقبل هشاشتهم والتعبير عن ضعفهم لكيلا يوصمون بالعاطفة والضعف.

بينما في الماضي كان يُمكن للمرأة أن تجهر باحتياجاتها العاطفية بصراحة يعجز عنها الرجل، يصمها علنًا بالهستيريا ويحسدها سرًا لقدرتها على البوح التي يحرمها المجتمع الذكوري عليه.

بعض الخطاب النسوي حاليًا يصم تعبير المرأة عن احتياجاتها بضعف وخيانة لمبادئها لذا على النسوية المُخلصة أن تُظهر استقلالية مفرطة تكاد تصل لجوهر الرجولة السامة لدى الذكور، لا تطال هنا الأنثى نسخة متفوقة من الذات بقدر ما تطال نسخة التفوق الذكورية التي رسمها الرجل ذاته لما يجب أن يكون عليه الإنسان الكامل أمام الخطوب، تستعير الأنثى بلا وعي تكتيكات ذكورية قهرتها لقرون ظنًا أنها صيغة التفوق الوحيدة للمخلوق الإنساني.

وبينما تستبطن المرأة كل أمراض الرجولة المجتمعية عليها أن تحافظ على صورتها الجمالية كاملة بصورة جسد مثالية تُشبه باربي، ولا تجعلها تبدو سطحية مثل الدمية.

متسلسلة تناقضات مُخيفة تجعل المهرب الوحيد للأنثى من ضغوطها هي حجرة اعتراف كنسي تعترف فيها «فليباج» بثقل أن تكون نسوية خوفًا من أن تستمع لها امرأة وتصفها بالخائنة لنسويتها، أو تعبر عنها «يوليا» في مقال ساخر تُبرز فيه حقيقة أنها تمتلك صفات قد يدينها كتالوج النسوية.

ما تشترك به فليباج ويوليا هو عدم وجود الرجل كند في تلك السردية، لأنها سردية تدور بالكامل في عالم ما بعد الرجال، سردية الصراع فيها هو الأنثى في مواجهة كتالوج أنثوي مصنوع بتناقضات غير إنسانية، كرد فعل مثالي وغير واقعي على كتالوج الرجال القديم.

وهذا يقودنا للسؤال، من هو الشرير أو الند في فيلم باربي؟

شرير الحكاية

كانت المشكلة الأساسية أن كل بطل خيالي يملك قصة أصل، بداخلها الشرير، لكن باربي دمية، بلا قصة أصل، بلا شرير.
غريتا غرويج

واجهت «غريتا غرويج» منذ البداية مُشكلة تأسيس عالم خيالي لباربي، لأنها دُمية لم تأت للعالم بقصة وحكاية مثل الأبطال الخارقين، لذلك أسست يوتوبيا خيالية فيها الدُمى المؤنثة تحتل المناصب الفكرية، والنخبوية بينما يحضر الرجال في صورة «كين».

في الأصل، «كين» هو دُمية رجولية صُنعت على صورة باربي عام 1961 بعد عامين من إنتاج الدمية الأصلية في استجابة لرسائل الفتيات اللائي اشتكين من كون باربي عزباء بلا شريك، فيما عبرت عنه «غريتا» بكونه نقيضًا ساخرًا لقصص الخلق التي فيها خُلقت حواء من ضلع آدم لتؤنس وحدته، بينما هنا جاء كين من رحم باربي ليؤنسها.

الدمية كين من عالم باربي

تستغل «غريتا» قصة الخلق تلك في جعل الرجال في يوتوبيا «باربي» أدوات تكميلية للعالم، مخلوقات جمالية لا تأثير لها، تفتقد حتى الحضور الحيواني الشهواني كأداة لامتاع الفتيات لأن عالم الدمى يخلو من الأعضاء التناسلية.

لا يدرك «كين» ذاته إلا في التبعية لباربي لأنه خُلق كامتداد لها، لذلك عندما تُغادر «باربي» عالمها بحثًا عن الفتاة في العالم الواقعي التي سربت لها مخاوف الموت والقلق يتسلل كين لرحلتها لأن من دونها لا قيمة له في عالمه.

هنا يحمل الفيلم وعودًا بثراء أكبر على مستوى الحبكة، عندما يُقدم لنا العالم الواقعي وفيه «ماتيل» التايكون الاقتصادي المسئول عن صُنع باربي، يظهر قادة «ماتيل» جميعًا كرجال من دون أنثى واحدة، يجلسون في ديكور تستعير فيه «غريتا» حُجرة الحرب في فيلم كوبريك الشهير dr strangelove الذي يتحدث عن قادة يتحكمون في إطلاق حرب نووية خلال الحرب الباردة، بينما تُخفي قراراتهم إيجو ذكورية طفولية تُريد أن تبدو متفوقة، يظهر «ويل فاريل» ليؤطر تلك الثنائية المتناقضة بين رجل أنيق في حُلة فاخرة يتصرف مثل ذكر طفولي يُريد التحكم.

من فيلم Dr. Strangelove – إخراج ستانلي كوبريك

نُدرك أن ما يقابل حكومة عالم باربي المؤنثة الخيالية في عالم الواقع هو مجلس إدارة رأسمالي يقوده رجال يُريدون إعادة «باربي» التي فرت من عالمها إلى الصندوق. لأنها فتحت فجوة قلقة بين العالمين قد تؤثر على الأرباح.

لذا تفر باربي من مقر الشركة عندما تُدرك نية الرجال في التخلص منها وتقابل خلال فرارها الشبح الخيالي لصانعتها «روث هاندلر» التي تظهر كإلهة أمومية تدفعها للثقة في حدسها وإكمال رحلتها.

حمل الفيلم وعودًا جمالية بأن تقف باربي أو النسوية في وجه عدو أشمل من الأبوية وهو الرأسمالية، باربي صنعتها امرأة لتمكين بقية النساء، لكن الرأسمالية أو الشركة التي باعت الدُمى حولت باربي لأداة لجني الأرباح، وبينما فقدت باربي على مدار سنوات المغزى الذي صُنعت لأجله، لم تتوقف الشركة لمراجعة ذلك إنما استمرت في دفع نماذج مُختلفة لباربي، أملًا في جني مزيد من الأرباح.

لا تقف الرأسمالية في أي جهة من صراع الرجل والمرأة، إنما تقف في جهة واحدة هو كيف يُمكن تسليع أي صراع وتحويله إلى ماكينة تدر المال، لذلك تم الاستحواذ على فكرة دمية باربي وإعادة تدويرها لتفقد مغزاها.

عالم الرجال «كين»

في النصف الثاني من الفيلم أُجهضت ببراعة تلك الوعود الجمالية في تحويل الفيلم لصراع النسوية مع الرأسمالية، ليتحول السرد بأكمله لمعركة طفولية بين باربي وكين، الذي يتأثر بتسيد الرجال للعالم الواقعي عكس اليوتوبيا التي جاء منها، يستعير «كين» مؤلفات من المكتبة عن النظام الأبوي ثم يعود لعالم الدمى ليُطبق قراءاته ويقلب هيراركي اليوتوبيا رأسًا على عقب لتصير يوتوبيا الرجال، يشاهد رجال «كين» فيلم «الأب الروحي» أيقونة الذكورية في نظر العمل، أو فكرة رجال يديرون العالم من غرفة مغلقة تقف الأنثى خارجها في غفلة واستسلام.

من نهاية الجزء الأول لفيلم The Godfather

هنا تتحول كوميديا ووعود الفيلم إلى حالة كاريكاتورية تليق بالستينيات، أو كما عبرت مراهقة في مواجهتها لباربي:

لقد تسببت في إرجاع جدال النسوية 50 عامًا للوراء على الأقل.

يعود السرد بطفولية لمعركة الرجل ضد الأنثى، ولا تستعيد الدمى المؤنثة سيطرتهن على اليوتوبيا بالذكاء أو المواجهة إنما باللجوء لألاعيب أنثوية مثل الإغراء والخديعة وإثارة الغيرة بين الرجال، ألاعيب تُشبه خدع «دليلة» في أسطورة «شمشون» الشهيرة و«شهرزاد» في «ألف ليلة وليلة»، ألاعيب تنتمي بالأساس للخيال الذكوري القديم ورؤيته للأنثى كعنصر دنيء يفسد بغوايته كل توازن.

الرجال يحاربون من فيلم Barbie
النساء يستغلون الغواية من فيلم Barbie

 يفقد الفيلم كل وعوده الأولى ويتحول لحالة طفولية تتخللها الاستعراضات صارخة الألوان. ويظهر هذا التخبط في المشهد المفتاحي الذي تُعبر فيه «أمريكا فيريرا» عن رسالة الفيلم، وهو يخلو بالكلية من ذكر رجال «كين» أو غيرهم كأسباب لجعل المرأة مشوشة في تعريف ذاتها لأنه تشوش يكمن في قلب الخطاب النسوي ذاته. مما يحول الفيلم في نصفه الأخير لخُطب مُفككة تلقن المتلقي معاني كبرى في حبكة فقدت مسارها. وفيلم تخفف من كل وعوده.

يأتي مسئولو شركة «ماتيل» في نهاية المعركة بين دُمى «كين» و«باربي»، لينفذوا مطالب الجميع ويضيفوا للمجموعة دُمية «باربي اليومية الأقل مثالية»، لتحويل مغزى الحكاية لدمية جديدة تُضاف لمجموعة الشركة وتزيد أرباحها!

وهنا يمكننا أن نسأل لماذا وقع الاختيار على «كين» وليس «ماتيل» ليكون شرير الفيلم؟

كيف تستعيد الرأسمالية خطابها؟

تكمن المشكلة الوحيدة في تقديم السردية التي فيها «ماتيل» كيان شرير رأسمالي استفاد من تناقضات الخطاب النسوي الحديث باعتبارها ذروة فيلم باربي، أن «ماتيل» هي المشرف الأساسي على إنتاج الفيلم!

في عام 2018 تقدمت «مارجو روبي» بفكرة الفيلم لشركة «وارنر»، مع حضور «ماتيل» على طاولة العمل خلال كل مراحله باعتبار شخوص الفيلم جزءاً من علامتها التجارية العتيدة.

في ستينيات القرن الماضي صك الفيلسوف الفرنسي «غي ديبور» مفهوم «الاستعادة» الذي يدور حول قدرة الرأسمالية على هضم كل شيء وتحويله لسلعة، حتى الأفكار الراديكالية التي تهاجمها، قدرة لا تنزع فقط فتيل تلك الأفكار إنما تحولها لنقيض ما قامت لأجله، سلعة تُدر مليارات الدولارات!

من مسلسل Squid Game – إنتاج نيتفلكس

يتحدث الفيلسوف «سلافوي جيجيك» عن أعمال مثل «لعبة الحبار» وغيرها باعتبارها مُعادية للرأسمالية، لكن تقدمها منصات رأسمالية ويدفع الجمهور المال لمشاهدتها، لأنها تمنحهم حسًا زائفًا بالثورة، بالغضب، ندفع المال للشعور بالرضا تجاه أنفسنا لأننا فعلنا شيئًا تجاه قضية كبرى بينما نحن لم نغادر أريكتنا، ولم نصنع تغييرًا فعليًا من الأساس.

صنعت شركة «ماتيل» دُمية لتحرير النساء من الأبوية وأسرتهن للصورة الاستهلاكية عن الجسد، والآن الشركة ذاتها تصنع عالمًا سينمائيًا يُهاجمها ويحول باربي لعنصر حرية هارب من اليوتوبيا ليُصلح العطب الذي أصاب العالم الحقيقي، ولكن لا ينتهي الفيلم إلا بتحقيق مُصالحة تعيد فيها «ماتيل» تدوير صورتها القديمة لتظهر بصورة أكثر تسامحًا مع قضايا عام 2023.

جريتا جرويج من كواليس فيلم Barbie

في خطة دعاية عملاقة، ارتفعت مبيعات شركة ماتيل من الدُمى بنسبة 56% وعادت باربي لتكون الدمية الأكثر مبيعًا عالميًا، وحقق فيلم ميزانيته 125 مليون دولار أكثر من مليار دولار، وفتح الباب لخطط تحويل عشرات الشخصيات من عالم الشركة إلى أفلام بالطريقة نفسها.

انتصار الحبكة وهزيمة المعنى

البشر لديهم نهاية واحدة، الأفكار بلا نهاية.
باربي

تُشبه يوتوبيا «باربي» في طريقة صنعها وخروج البطلة من فردوسها للواقع، فيلم Truman show الشهير، وفيه إدراك البطل لذاته وزيف عالمه يكون إيذانًا بانهيار هذا العالم بالكامل. ولكن ذلك لم يحدث في فيلمنا.

جيم كاري من Truman Show

بعد نهاية المعركة الهزلية مع رجال «كين» تعود اليوتوبيا لصورتها القديمة مع وعود بمٌشاركة الرجال بشكل أكبر في هذا العالم، وأن يحاول «كين» إيجاد تعريف لكينونته خارج فلك باربي!

بينما تختار «باربي» أن تتأنسن، في لقاء طيفي مع صانعتها «روث»، تُحذرها «روث» أن الأفكار لا تموت أما البشر فيموتون، لكن تختار «باربي» أن تصير امرأة بدلًا من العودة لعالم الدُمى، قائلة:

«أريد أن أتخيل، لا أن أكون الفكرة المُتخيلة»

تبدو النهاية كمحاولة جمالية لخلق عُمق أخير لحبكة فسدت كليًا بتبسيطها، حبكة بدأت بمأزق الكتالوج الذي صنعته بعض خطابات النسوية الحديثة، والذي استعار كثيرًا من فاشيته من كتالوج الرجال القديم الذي وضعوه لأنفسهم، وتحولت لمعركة هزلية بين الرجل والمرأة، في عالم مُفعم بالألوان يخلو من الأسلحة، إلا الوسادات الوردية وألعاب الشاطئ.

رغم كل ذلك، في طيف منها تُدين النهاية بطريقة غير مباشرة شركة «ماتيل» نفسها التي قام الفيلم لتلميعها، تبدو رغبة الدمية في أن تتأنسن وتغادر عالم الأفكار، كدليل على أن الفكرة فقدت مغزاها، وفسدت بالكُلية، ولم تعد مثاليتها كافية لتصير مرآة لملايين الفتيات اللاتي يتطلعن لها ويصنعن لها منازل الدُمى في العالم.

 تتأنسن باربي لتعيش تجربة ما تعنيه أن تكون امرأة بكل تعقيداتها، تهبط الفكرة من عليائها لترى كيف خذلت البشر الذين اعتنقوها؟ بموت الفكرة يموت Brand أو العلامة نفسها. ولكن الفيلم وضع نهاية تقتل الفكرة وتُحيي العلامة. لأنه مصنوع بالأساس لإنعاش تلك العلامة التجارية.

يُجسد باربي انتصار رأسمالي لشركة عالمية استعارت السينما كوسيط والنسوية كقضية شديدة الأهمية، مع حملة دعائية مُسكرة لزيادة أرباحها، وبينما تأنسنت الدمية، زاد تماهي ملايين النساء مع الدُمية واستعادت باربي سُلطانها الذي أضعفته عقود من الوعي النسوي بتسليع المرأة في كل الصور. حتى لو كانت صورة دُمية تعد الطفلة بعالم ينتظرها لتحكمه، وتعد المراهقة بعذاب المقارنة والخزي بصورة الجسد.