إفلاس البنوك الأمريكية: نهاية حفلة «المال الرخيص»
خلال الأسبوع الماضي، تعرضت ثلاثة بنوك أمريكية للإفلاس، كانت البنوك الثلاثة التي تعمل في الأساس كبنوك لشركات التكنولوجيا الناشئة في الولايات المتحدة وحول العالم هي «سيليكون فالي بنك» (SVB)، و«سيجنتشر بنك» (Signature Bank) و«سيلفر جيت بنك» (Silver Gate Bank).
تختلف تلك البنوك الثلاثة في حجم أصولها وودائعها. كان سيليكون فالي، وهو أكبر تلك البنوك من حيث الأصول والودائع، يمتلك ما يقرب من 209 مليارات دولار من الأصول و175 مليارًا من الودائع بحسب آخر البيانات المالية المتاحة للبنك في ديسمبر/كانون الأول 2022. بينما جاء «سيجنتشر» (Signature Bank) في المرتبة الثانية بأصول بلغت ما يقرب من 110 مليارات دولار، وودائع تخطت 83 مليار دولار. وكان سيلفر جيت، وهو البنك الأكثر تعرضًا من البنوك الثلاثة على العملات الرقمية، يمتلك ما يقرب من 11 مليار دولار من الأصول في مقابل 5 مليارات من الودائع.
كان انهيار البنوك الثلاثة مفاجئًا لكثيرين، بل حتى مفاجئًا للسلطات الفيدرالية التي تحركت فقط بعد أن تعرضت البنوك لضغوط لسحب السيولة من قبل المودعين، لكن كثيرين أيضًا كانوا يعلمون أن تلك البنوك بوضعها المالي الحالي لا يمكن أن تستمر كثيرًا بسبب التغيرات الاقتصادية الكبيرة التي جعلت تلك البنوك وغيرها تتحمل خسائر كبيرة بسبب قرارات استثمارية خاطئة، أهمها في حالة بنك سيليكون فالي هو استثمار ما يقرب من نصف الودائع في سندات طويلة المدى، على أمل أن تلك الودائع سيبقيها أصحابها في البنك وأن الشركات المودعة لن تضطر لسحبها لتمويل عملياتها بما أن لديها كثيرًا من الأموال من مستثمرين آخرين، وخصوصًا صناديق رأس المال المغامر.
باع كثيرون من المسئولين التنفيذيين في بنك سيليكون فالي أسهمهم قبل أسبوعين فقط من انهيار البنك ووقف التداول على سهمه في البورصة الأمريكية. على سبيل المثال، باع المدير التنفيذي ما يقرب من 5.5 مليون دولار من الأسهم قبل أسبوعين فقط، وخلال السنتين الماضيتين فقط، باع أعضاء مجلس الإدارة ما قيمته 84 مليون دولار من الأسهم، حين كان سعر السهم في مستويات تاريخية، حيث وصل سعر السهم لأكثر من 700 دولار، قبل أن ينخفض إلى 106 دولارات قبل الإفلاس مباشرة.
كان ذلك هو الحال أيضًا مع البنكين الآخرين، فقد ارتفع سعر سهم بنك سيجنتشر ليصل إلى 365 دولارًا في 2022، قبل أن ينهار السعر إلى 70 دولارًا بعد الإفلاس. وخلال ارتفاع السهم، باعت الإدارة كثيرًا من الأسهم ليحقق المديرون التنفيذيون للبنك أرباحًا كبيرة.
كانت نماذج عمل البنوك الثلاثة متشابهة باختلافات قليلة. فالبنوك الثلاثة تقدم الخدمات البنكية للشركات الناشئة. ارتفعت الودائع في تلك البنوك بوتيرة متسارعة منذ 2020، وكانت الرهانات الاستثمارية في تلك البنوك مرتبطة بما يمكن أن نسميه «استمرار الحفلة»، أو بمفهوم أدق استمرار فقاعة تقييمات الشركات الناشئة والبيئة المنخفضة لأسعار الفائدة التي يعيشها الاقتصاد العالمي منذ 2008 تقريبًا.
كيف بدأت الحفلة؟
ربما يمكننا التأريخ لانهيار البنوك الثلاثة بالاعتماد على ما حدث خلال السنة الماضية، أي في 2022 التي شهدت انخفاض تقييمات الشركات الناشئة وإحجام كثير من المستثمرين عن ضخ الأموال فيها، وبالتالي اضطرت تلك الشركات للاستعانة بودائعها التي كانت متراكمة في تلك البنوك، واضطرت تلك البنوك لاحقًا للتعرض لمشكلات كبيرة في السيولة، وهو بالفعل ما حدث.
لكنني أدفع بأن بذرة الانهيار كانت في سياسات «التيسير الكمي» التي بدأها الفيدرالي في التسعينيات، واستمرت وزادت وتيرتها بعد الأزمة المالية العالمية في 2008. منذ 2008، حافظ الفيدرالي على معدل فائدة أقل من 2%، وفي أغلب الأوقات كان معدل الفائدة أقل فعليًا من 0.5%، وهو ما سمح لكثيرين بالاقتراض بكثافة من أجل استثمار تلك الأموال في الأصول المالية التي تضخمت قيمتها منذ 2008 حتى الآن. تلك السيولة الضخمة التي كان يضخها الفيدرالي عبر برامج شراء الأصول والسندات لمنع انهيار قيمة الأصول المالية، جعلت أسعار الفائدة شديدة الانخفاض. وسمحت باتخاذ كثير من القرارات الاستثمارية شديدة الخطورة، ففي النهاية سوف يأتي الفيدرالي لينقذ الأسواق حال حدوث أي انهيار.
كانت الحفلة مستمرة منذ 2008، لكنها أصبحت أكثر صخبًا بعد كوفيد-19. فبعد أن انهارت الأسواق المالية تحت تأثير الجائحة في مارس/آذار 2020، هرع الفيدرالي والحكومة لطمأنة المستثمرين، وضخوا ما يقرب من تريليون دولار في السوق عبر آليات مختلفة، وخفض الفيدرالي أسعار الفائدة لتصبح 0.25%، أي فعليا كانت أسعار الفائدة قريبة من الصفر. تمثل العلاقة بين أسعار الفائدة وتقييمات الأصول المالية علاقة معقدة في الاقتصاد والتمويل، لكن يمكن تخليصها في ما يلي:
كلما انخفضت أسعار الفائدة على الدولار، يمكن للمستثمرين الاقتراض بضمان الأصول التي يمتلكونها بالفعل، ويمكن أن تعمل «الرافعة المالية» (leverage) بشكل أفضل. لنفترض مثلًا أنك مستثمر لديك مليون دولار في 2020. كان يمكن أن تقترض مليون دولار آخر أو 3 أو حتى 8 ملايين دولار كقرض بضمان الأصول التي تمتلكها بسعر فائدة لا يتجاوز 0.5% بعد عمولة البنك. تخلق تلك السيولة طلبًا متجددًا على الأصول المالية وبخاصة الأصول سهلة التسييل أي التي يمكن بيعها سريعًا، أي الأسهم والسندات بالتحديد. مع ذلك المال الرخيص، زاد الطلب على كل الأصول المالية، سواء العامة المطروحة في البورصات كالأسهم والسندات، وحتى تقييمات الشركات الخاصة والشركات الناشئة.
كل شيء كان على ما يرام. الحفلة مستمرة حتى إن فئات المستثمرين أنفسهم قد تغيرت. أصبح بإمكان أي شخص في الولايات المتحدة أو في أغلب دول العالم المتقدمة أن يدخل للبورصة عبر تطبيقات سهلة، مثل روبن هود وغيرها، ويشتري أي أصل مالي سواء كان سندات، أسهم، عقود خيارات أو غيرها. كان الجميع مستفيدًا من الحفلة.
خلال 2020 و2021، ارتفع مؤشر البورصة الأمريكي الرئيسي S&P 500 بنسبة 106%، وارتفع مؤشر شركات التكنولوجيا Nasdaq بنحو 130%. لكن، ومع الأزمة الاقتصادية الحقيقية، أو بمعنى أصح، الأزمة في الاقتصاد الإنتاجي التي جاءت بفعل توقف الإنتاج والاقتصاد في أثناء الجائحة والصعوبات التي واجهتها كثير من الدول في إعادة فتح الاقتصاد، جاء التضخم.
كان التضخم بمثابة الضيف الثقيل على الجميع، فلم تشهد الاقتصادات الكبرى تلك المعدلات من التضخم التي وصلت في إنجلترا مثلًا إلى أكثر من 10%، وفي الولايات المتحدة إلى ما يقارب 9%. ومن ثم، كان على الفيدرالي أن يتحرك. بدأ الفيدرالي منذ بداية 2022 في رفع الفائدة من أجل السيطرة على معدلات التضخم، ولكن رفع الفائدة من شأنه على الجانب الآخر أن يعدل من تقييمات كل الأصول المالية الموجودة. خلال عام 2022، انخفض مؤشر البورصة الأمريكية الرئيسي S&P 500 بما يقرب من 25% تقريبًا، ولحقه مؤشر شركات التكنولوجيا الذي تعرض لضربة كبيرة، إذ انخفضت شركاته بنسبة 35% خلال عام 2022.
كان ذلك بمثابة تصحيح جزئي للأوضاع. لكن ذلك التصحيح في تقييم الأصول لا يعني انفجار فقاعات التقييم التي ظهرت في كثير من الأصول المالية. الأسهم كانت مقومة بأعلى من قيمتها، وكالعادة تكون الأسهم أول الخاسرين من رفع أسعار الفائدة. لكن السوق العقاري الأمريكي أيضًا كانت مؤشراته السعرية أعلى من اللحظات التي حدثت فيها الأزمة العقارية. والأهم في ذلك، ويعد شديد الارتباط بالبنوك التي أفسلت، هو تقييمات الشركات الناشئة.
عن فقاعات الشركات الناشئة
التمويلات التي قدمها المستثمرون وصناديق رأس المال المغامر للشركات الناشئة التي شهدت طفرة غير مسبوقة منذ 2008، كانت قادمة من الديون في ظل أسعار الفائدة المنخفضة. في 2008، كان حجم استثمارات صناديق رأس المال المغامر في السوق الأمريكي نحو 37 مليار دولار، وبعد 10 سنوات، في 2018، قفز ذلك الرقم إلى ما يقرب من 145 مليار دولار، أي أنه تضاعف 4 مرات في 10 سنوات فقط. لكن منذ 2018 وحتى نهاية 2021، قفز ذلك الرقم من 145 مليار دولار إلى ما يقرب من 332 مليار دولار، أي زاد 220% في غضون ثلاث سنوات فقط.
وفرت أسعار الفائدة المنخفضة المال الرخيص للقيام باستثمارات مالية خطيرة. من المعروف أن الشركات الناشئة تعد أخطر أنواع الاستثمار، وبالتالي كانت فقاعة تقييمات تلك الشركات غير مبررة بشكل كبير حتى للمستثمرين التقليديين في السوق. فتقييم الشركات عادة ما يتم على أسس كثيرة أهمها الأرباح والقدرة على توليد الدخل حاليًا وليس في المستقبل، ولكن نموذج عمل الشركات الناشئة كلها هو نموذج مستقبلي. لا يوجد شركة ناشئة يمكنها أن تربح من أول يوم ولا أول سنة، ويمكن للشركات الناشئة أن تستمر في السوق من دون مكاسب لـ10 سنوات حتى.
لدينا أمثلة كثيرة أشهرها «أوبر» مثلًا التي حتى الآن لا تحقق أي أرباح فعلية، لكنها مستمرة في ما يسمى النسبة للمستثمرين: «حرق الأموال» (cash burning)، وهي ببساطة العملية التي تقوم فيها الشركات الناشئة بالاستثمار بكثافة في التوسع وامتلاك حصة أكبر من السوق الذي تعمل فيه عن طريق بناء قاعدة عملاء جديدة أو حتى الاستحواذ على شركات أصغر على حساب توليد الأرباح الحالية.
كان ذلك النموذج شديد الخطورة. بالبديهة، التقييمات يجب أن تكون منخفضة لأن المخاطر عالية. لكن تدفق الأموال الرخيصة وزيادة الطلب علي تلك الشركات بسبب الهالة التي أحاط بها مؤسسو تلك الشركات وبنوك الاستثمار أنفسهم، جعلت التقييمات ترتفع إلى مستويات جنونية وبالأخص في الأسواق التي لديها أسعار فائدة منخفضة. أيضًا شكلت العوائد المرتفعة والسعي إلى جني الأرباح من خلال عمليات التخارج من تلك الشركات قبل أو بعد الطرح العام في البورصة حافزًا لاستمرار تلك التقييمات المرتفعة.
لكن ما الجديد، ما الذي يجعل تلك البنوك تنهار؟ كان الفيدرالي منذ نهاية 2021 يرسل كثيرًا من الإشارات، بل والتأكيدات، أنه سوف يستمر في رفع أسعار الفائدة؟
ببساطة، كانت الحفلة مستمرة منذ وقت طويل، وطالما أنها ما زالت تدر المال من خلال الرسوم التي تتلقاها البنوك ومديروها ومديرو صناديق رأس المال المغامر، فما المانع من اتخاذ مزيد من المخاطرات. على سبيل المثال، واجه بنك «سيليكون فالي» مشكلة كبيرة بسبب زيادة حجم الودائع القادمة من تلك الشركات، وعدم قدرته على إقراض تلك الودائع، أو حتى القيام باستثمارات جديدة في صناديق رأس المال المغامر منذ بداية 2022.
كما تقول تقاريره المالية، كان «سيليكون فالي» غير قادر على الخروج من السوق، وبالتالي كان الحل الوحيد أمام البنك هو الانتظار حتى يبدأ الفيدرالي في خفض أسعار الفائدة. لكن المستثمرين الذي وضعوا أموالهم في البنك لم ينتظروا، وحينما ظهرت بوادر مشكلات في كفاءة النسب المالية للبنك، بدأ الجميع في سحب أموالهم، وهو ما دفع البنك لبيع سندات الخزانة الأمريكية التي يمتلكها، وحقق فيها خسائر تجاوزت 1.2 مليار دولار، كي يوفر السيولة اللازمة للمستثمرين، لكن حتى ذلك لم ينفع لأن الجميع أصبح يريد أمواله في نفس الوقت.
ليس المستثمرون والمضاربون فقط هم المسئولون عن الأزمة الحالية. ما حدث فعليًا كان بسبب البنوك المركزية التي استمرت أطول من اللازم في سياسات «التسيير الكمي»، ودفعت بأسعار الأصول المالية لمستويات مرتفعة للغاية. كان ذلك بالطبع جزءًا من تغيير دفة الاقتصاد منذ التسعينيات. فقد أشرفت البنوك المركزية بنجاح منقطع النظير على «الميكانزم» الأهم للتغير الرأسمالي في العقود الخمسة الأخيرة، وهو «الأمولة» (financialization) التي صعدت معها أهمية القطاع المالي، وتحديدًا في دول المركز الرأسمالي.
جاءت الأمولة وصعود القطاع المالي بكثير من التحديات الجديدة للبنوك المركزية، وبحلول التسعينيات، أصبح الجميع لا يرى سوى «السوق»: سوق الديون والأوراق المالية والمشتقات المالية التي تطورت بالقدر الذي عجزت البنوك المركزية نفسها عن فهمه وتقييم مخاطره.
كان صعود القطاع المالي في المركز الرأسمالي نتيجة حتمية لسلطة البنوك المركزية. بشكل ما، جرى استبدال الإنتاج الحقيقي بالريع المتحقق من المضاربات، وفشلت البنوك المركزية في ضبط كل الأزمات التي أتت من القطاع المالي منذ ذلك الوقت، بداية من أزمة النمور الآسيوية وفقاعة الدوت كوم، وحتى أزمة 2008، وانتهاء بأزمة الديون السيادية الأوروبية، والأزمة الاقتصادية الحالية التي يعزوها كثيرون لسياسات الفيدرالي الأمريكي في التعامل مع الجائحة.
الشاهد في كل ما سبق أن من المرجح أن تستمر تلك الحالة، لأن الفيدرالي لديه أولوية في رفع أسعار الفائدة من أجل السيطرة علي التضخم بشكل سريع والرجوع لمستهدفاته التاريخية حول 2%، وذلك سوف يتطلب الإبقاء على أسعار فائدة مرتفعة في الاقتصاد. ومع تلك الأسعار، سوف تصبح الديون أكثر تكلفة، وسوف تستمر فقاعات تقييم الأصول في الانفجار واحدة تلو الأخرى. ستتعرض الشركات والمشاريع عالية الاستدانة في البلدن المتقدمة لضغوط كبيرة لسداد ديونها مع ارتفاع أسعار الفائدة، وبالطبع سوف تعاني الدول النامية كثيرًا من موجات رفع أسعار الفائدة كما تعاني حاليًا، وربما أكثر، إذا استمرت أسعار الفائدة المرتفعة لسنوات قادمة.
ربما يدخل الاقتصاد العالمي في كساد تضخمي، وهو الاحتمال الأسوأ الذي يحاول الفيدرالي الابتعاد عنه حتى الآن. لكن في ذلك الركود يمكننا أن نتذكر الاقتصادي النمساوي جوزيف شومبيتر الذي كتب من ثلاثينيات القرن الماضي بأن فترات الركود تتسبب في ما سماه: «التدمير الخلاق»، أي ببساطة إعادة ترتيب الأولويات الاقتصادية. يمكن لذلك التدمير الخلاق أن يذكر الجميع بأن الرافعة المالية أو الديون الرخيصة لا تسير في اتجاه واحد، وأن الحفلات والتقييمات المرتفعة والفقاعات المالية لا يمكن أن تظل إلي ما لا-نهاية، بل يجب عليها أن تنفجر في النهاية.