ساق البامبو: عندما ينتصر الجمال على صعوبة اللكنة
«سعود السنعوسي» شاب كويتي وسيم تتصدر صوره صفحات الإنترنت المهتمة بالأدب، يشيدون بروايته «ساق البامبو» التي فازت بجائزة البوكر لعام 2013، تستطيع أن ترى نبلًا ما في ملامح الشاب الكويتي صاحب الرواية الفائزة، وتدرك هذا النبل جدًا عندما تقرأ روايته، ثم بعد ثلاث سنوات تتحول الرواية إلى مسلسل، فينتظر من أحبوا الرواية في ترقب، هل سيحافظ المسلسل على روح الرواية أم سيطوعها لصالح التليفزيون فتفقد جمالها ونبل أحداثها؟ هل سيبقى عمل «السنعوسي» الرائع الذي يبحث عن الهوية والأمان والجمال وكل تلك المعاني المجردة التي أجاد تصويرها في الرواية المكتوبة، أم سوف يشوه المسلسل هذا العمل الراقي؟
تلك كانت أسئلة تتردد في أذهان من أحبوا الرواية، الجمهور العربي بشكل عام، الذي يبحث عن هويته بشكل أو بآخر مع اختلاف أسباب فقدان تلك الهوية، وقد جاء المسلسل ليجيب عن كل تلك الأسئلة بذات الرقة والنبل اللذَيْن تبنتهما الرواية.
الرقابة.. دائمًا وأبدًا
يدور المسلسل حول شاب كويتي فلبيني، تزوج أبوه من الخادمة ثم أعادها لبلادها مع طفلها الوليد، وفي الغزو العراقي للكويت تم أسر الأب ولم يعد ثانية، ثم يعود الشاب بمساعدة صديق أبيه وعمته الناشطة الحقوقية للمطالبة بحقه في أن يكون كويتيًا حقًا رغم أن ملامحه فلبينيه وذاكرته فلبينية، وحتى لغته فلبينية ويتكلم العربية «خفيف خفيف..شوي شوي» كما يردد دائمًا.
الصراع الأساسي في المسلسل يدور بين «ماما غنية» والتي تقوم بدورها «سعاد عبد الله» باقتدار يجعلك تخاف منها أحيانًا كثيرة، والتي تمثل بشكل ما المجتمع الكويتي الذي لا يعترف بأنصاف الكويتيين خاصة ذوي الملامح التي تصرخ بانتمائهم لأعراق أخرى، وبين العالم الجديد الذي يتمثل في «عيسى» ابن ابنها المفقود وعمته «هند» الحقوقية التي تؤمن بحق الجميع في المساواة و«غسان» صديق والده والذي يعيش هو أيضًا مشكلة حيث أنه ينتمي لفئة «البدون» والذين يعيشون في الكويت دون أي جنسية ودون جواز سفر ودون أي حقوق مدنية تقريبًا.
المسلسل فعلًا يناقش قضية مصيرية للكثيرين، ويعرّي المجتمع الكويتي في كثير من المواضع، وقد انتشرت أخبار قبيل رمضان تفيد بأن هناك معارضات قوية ضد إذاعة المسلسل على التليفزيون الكويتي ودعاوى تقول بأنه يشوه صورة المجتمع وينشر مساوءه، رغم أن الرواية حائزة على جائزة البوكر، لم يشفع هذا للمسلسل وهاجمه الكثيرون من قبل أن يعرض، ولكن كل هذا اللغط لم يمنع صُنّاع العمل من صناعة مسلسل فائق الجودة، والجمال، ويعلو بمستوى الدراما كثيرًا، خاصة الدراما المأخوذة عن روايات مكتوبة.
«ماما غنيمة» وآخرون
«ماما غنيمة» هي الشخصية المحورية في المسلسل، كبيرة بيت «عيسى الطاروف»، التي يسير على كلمتها كل سكان البيت بدءًا من الببغاء الذي يقطن القفص على عتبة البيت، إلى أكبر بنت من بناتها، التي لا يستطع أحد أن يكسر كلمتها، والتي تتشبث برأيها طوال الوقت متمسكة بالعادات والتقاليد وعزة بيت الطاروف، والتي تردد دائمًا في وجوه بناتها وأحفادها «أنا ما أتعب..التعب يتعب وأنا ما أتعب»، شخصية جبارة جعلت المباريات التمثيلية بينها وبين باقي أبطال العمل شيئًا ممتعًا جدًا رغم صعوبة اللهجة الكويتية على غير الناطقين بها.
المسلسل يضم كثيرًا من نجوم التليفزيون الكويتي، وكلهم يؤدون أدوارهم بحرفية شديدة تقنعك تمامًا بما يقولونه على الشاشة، كل تفاصيلهم تكمل بعضها بعضًا، فمثلًا «نورية» الأخت التي يعتبرها الكل خليفة أمها في القوة والبأس دائمًا ما ترفع شعرها بتسريحة كلاسيكية تناسب أفكارها، أما «هند» الحقوقية المؤمنة بحق عيسى ابن أخيها في أن يكون أحد أفراد البيت، فطبقة صوتها دائمًا هادئة وملابسها فاتحة الألوان تبعث على الراحة النفسية، كل بطل من أبطال العمل تتكامل تفاصيله تمامًا مع الدور الذي يقوم به.
ربما الدور الوحيد الذي لم يكن على مستوى التوقعات، هو دور «عيسى/هوزيه» الشاب الكويتي الفلبيني الذي قام بدوره الممثل الكوري البحريني «وانهو تشونج» فملامحه لا يعتريها سوى تعبير واحد في معظم المشاهد، وأحيانًا لم تكن نظراته تعبر عن الموقف وإنما تعطي إيحاءً آخر غير ما يدور في المشهد رغم أنه يتقن العربية تمامًا في الحقيقة.
أبطال آخرين
ورغم أن كل الممثلين الذين شاركوا في المسلسل أدوا أدوارهم كما ينبغي، فإن هناك أبطالًا آخرين أيضًا كانوا على مستوى عالٍ من الحرفية مما ساعد في استكمال جمال العمل، فمثلًا الموسيقى التصويرية لـ«جمال القائد» والتي مزج فيها بين الروح العربية وروح دول شمال شرق آسيا، هذا المزيج الذي يمثل بالضبط الخليط الذي كوّن عيسى/هوزيه، الكثير من المشاهد اكتمل جمالها بموسيقاها التصويرية التي تحكي تمامًا عن قصة التوهة التي يشعر بها عيسى في بيت عائلته، والخوف الذي تشعر به «غنيمة» من ملاحقة المجتمع لهم إن عرف بتلك المأساة.
أما عن «محمد القفاص» المخرج، فقد أجاد تمامًا صناعة مسلسل خالٍ من العيوب تقريبًا، فقد استطاع أن يملك زمام الرواية ويحافظ عليها وفي نفس الوقت يجعلها ملائمة لجمهور التليفزيون الذي يبحث عن الحبكة والتشويق، وبعض الابتسامات رغم قتامة القصة، ورغم أنه استعان برامي عبد الرازق لكتابة السيناريو والحوار، إلا أنه أصرّ أن يكون العمل متكاملًا ويتجنب الأخطاء؛ فاستعان «بصنايعي» الدراما المخضرم «محفوظ عبد الرحمن»، كي يسيطر على كل جوانب العمل وكي يخرج عملًا متكامل لا تشوبه – تقريبًا – شائبة.
هل تنتصر الدراما أخيرًا؟
أكثر ما يلفت النظر في مسلسل «ساق البامبو» أنه حافظ على بناء الرواية تمامًا ولم يتدخل بالحذف أو الإضافة كثيرًا ولم «يلعب» في البناء الأساسي للرواية، حتى أن هناك حوارات كاملة استخدمها صانعو المسلسل اقتباسًا من الرواية. وقد كان هذا تحديًا كبيرًا أمام المسلسل الذي ينتهج نهجًا مغايرًا لما تعودنا عليه في معظم الأعمال الروائية التي تحولت لدراما، ومع ذلك فقد استطاع المسلسل أن يحصد انتباه المشاهدين، ربما لأن الرواية غنية أصلًا ولا تحتاج «بهارات» زيادة مما يجذب أنظار محبي الدراما التليفزيونية، ولأن الموضوع ساخن كفاية، وربما لأن المخرج متمكن جدًا من أدواته، ولكن الشيء الذي لا يستطيع أحد إنكاره أن المسلسل يلتزم بالرواية ولا يخترع عالمًا دخيلًا على ما كتبه سعود السنعوسي في روايته.
ولأن المسلسل يلتزم جدًا بأحداث وخطوط الرواية الأصلية، فإن هذا يقودنا لسؤال طالما كانت إجابته لصالح الرواية المكتوبة، فهل تنتصر تلك المرة الدراما المرئية؟
هذا ما سوف ننتظره جميعًا بعد نهاية المسلسل، الذي سواءً كانت آراء مشاهديه لصالح الرواية المكتوبة أم الدراما المرئية، فإنه مسلسل جيد جدًا، مصنوع بحرفية شديدة، واستطاع أن يحصد إعجاب الجمهور العربي بشكل عام، ولم يتضمن أي إساءات للمجتمع الكويتي كما أشاع البعض، ولكنه مسلسل محترم يرغب صُنّاعه في «كويت» عادلة وجميلة كما تسكن أذهانهم جميعًا ويتمنون لها، فهم جميعًا يبحثون كما تقول أغنية التتر «عن أمل.. عن أمان وعن وطن».