عزمي بشارة: ما القدس؟ ولماذا القدس؟
هذه محاضرة ألقاها المفكر الفلسطيني د. عزمي بشارة عام 2009 بالعاصمة السورية دمشق، بمناسبة اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية لهذا العام. وقد ارتأينا أن نقدمها هنا مكتوبة بمناسبة القرار الإجرامي بنقل السفارة الأمريكية في دولة الاحتلال الصهيوني إلى القدس، وردة الفعل العربية المخزية على القرار. قمنا بتغيير بعض تراكيب المحاضِر لتناسب النص المكتوب، كما أضفنا العناوين الفرعية لتسهيل تناول النص، فوجب التنبيه.
إن محاضرتي لن تكون محاضرة مناسبات رغم أن المناسبة هي اختيار القدس عاصمة الثقافة العربية. وعلى هذا، لدي بعض الملاحظات على كل من مفهوم القدس، وكونها عاصمة للثقافة تحت الاحتلال، وإن كان هذا النقاش وراءنا الآن. أنا الآن أهتم بالمضامين، وقد ترددت كثيرًا، هل بالإمكان فصل القدس عن مجمل الموضوع الفلسطيني والعربي؟ وإذا أردت أن أفصل فلا بد أن أتحدث عنه بشكل علمي وأكاديمي، وهل يمكن الحديث بشكل علمي وأكاديمي عن موضوع مثل القدس؟ هذا سيدخلني في صراعات أنا بغنى عنها مع مختلف أنواع العقائد، ولذا اخترت أن لا أدخل في موضوع القدس تاريخيًا، إن كان لجهة الخطاب الإسلامي سابقًا وحاليًا، ولا في الخطاب اليهودي أو المسيحي، ولا في السرديات لمكانة القدس عند الجميع في فترات تاريخية وسياسية مختلفة. حتى في اليهودية، هناك ألف سردية لمكانة القدس وما تعنيه القدس. وكذلك في الإسلام هنالك توجهات عدة بمراحل مختلفة. فمكانة القدس ارتفعت وانخفضت وفق الأهواء السياسية، مع ثبات نسبي في النصوص. وما يهمنا في أمور من هذا النوع، عندما يكون الموضوع هو موضوع القدسية، أن هذه المسألة لا تفند بالحجج العلمية لأنها مسألة إيمان وعقيدة وتؤخذ كما هي. القدس الآن تحتل مكانًا أساسيًا في عقائد هذه الأمة، نقطة على السطر، هذا معطى. وظيفة المُؤرخين أن يفككوا الأساطير؛ هذه ليست وظيفتي الليلة.
أنا أتعامل مع القدس كمعطى أساسي في عقيدة هذه الأمة، وكونها محتلة يجعلها أكثر أساسية وبحق، لأنه لا يوجد صراع قومي وطني تَحرّري إلا واستَخدم الرموز المتوفرة لديه، وهذا فعلته كل الشعوب، حتى الاستعمار استعمل رموزًا للتحشيد لاستعماره، كصورة الصليب أوالرجل الأبيض. فبالأحرى، ألا يحق للشعوب الواقعة تحت الاستعمار، ورأسمالها الرمزي قليل، استعمال هذا الرمز؟ وليس من البطولة الآن طرح هذا الموضوع للنقاش، بل يجب التعامل معه كمعطى. أهمية القدس في قلوب المؤمنين أيام نور الدين زنكي أو أيام صلاح الدين الأيوبي أو في أيامنا، هذه لها علاقة بأن القدس كانت محتلة في تلك الأيام. ومن الطبيعي أن تشدد الأمة على مركزيتها الدينية في مثل هذه المراحل، هذا ليس له علاقة بالعلمانية أو بالتدين، هذا له علاقة بالتقاطعات بين الرموز الوطنية والقومية والدينية عند كل الشعوب، وفي تراث كل الشعوب جميعًا. ويحق لي أن أقول أن صلاح الدين بطل قومي وديني ووطني دون أن يكون إثنيًا – إثنيًا بالمعنى الأقوامي – هو منتمٍ للعرق العربي ونحن لا نؤمن بالأعراق، نحن نؤمن بالعروبة ثقافة ولغة،.أنا لن أناقش هذه الموضوعات الليلة. لست بصدد محاضرة في علم الحفريات أو الآثار أو في التاريخ؛ نحن بصدد القدس في سياقها الموجود.تتابعون مسألة تهويد القدس ومسألة مصادرة الأراضي وهدم البيوت أو احتلالها من قبل جمعيات يهودية وظهور بعض الجمعيات في الإعلام وهي تحاول اقتحام المسجد الأقصى – ما يسمونه هم بلغتهم جبل الهيكل – وتركيز النقاش كله حول البقعة الصغيرة التي نسميها الحرم القدسي الشريف في وسط القدس القديمة؛ وتُسمى في الإنجليزية أحيانًا «الحرم الشريف» كما هي.
ولن أدخل في السردية الإسلامية وفي تعامل الإسلام مع كل الديانات التوحيدية كمساجد، وعندما جاء النبي و«أسرى بعبده ليلا» لم يكن المبنى الحالي موجودًا، واعتبروا هذه الأرض مسجدًا؛ لم يكن هناك حجارة. فحجارة هذا البناء بعضها بني من عهد الأمويين، وقسم آخر من عهد المماليك، ويجري الصراع في هذه المنطقة على إعادة الاعتبار لجبل الهيكل مع أنه ليس هناك علاقة مباشرة بين هذه المحاولات وبين اليهودية كدين، وأغلب القادة الروحيين للطائفة اليهودية، عنصريين كانوا أو غير ذلك، تحرّم الصعود إلى جبل الهيكل لأن الصعود يجب أن يكون متوفر الشروط، وهي ليست متوفرة الآن، ولا نريد أن ندخل فيها.هذه المحاولات تتم الآن من قبل سياسيين صهاينة علمانيين يُحشّدون بواسطة ما يسمى «جبل الهيكل»، الرأي العام اليهودي، مع أن هذا يتناقض مع تعاليم ديانتهم بشكل مباشر.
بعض الليبرالبين العرب باتهام المُدافعين عن القدس بأنّهم يقومون بتسييس القضية. العرب لا يسيّسون الأقصى؛ وحبذا لو فعلوا، فما ذلك إلا ردًا على التسييس اليهودي المستمر الذي ينشط فيه السياسيون الصهاينة.وكانت هناك محاولات لتفجير الأقصى. وتجري الآن محاولات أقل حدة لتقاسم المسجد الأقصى، كما نجحوا للأسف مؤقتًا بتقاسم الحرم الإبراهيمي في الخليل حيث أصبح مسجدًا وكنيسًا في الوقت نفسه. كما تعلمون، المسألة ليست حوار ديانات، كما يدور في بعض الدول، لأن الدين الإسلامي لا يحرّم دخول غير المسلم إلى المساجد، المسألة هي السياق الاحتلالي لفرض السياسة الغربية على الأقصى. هذه هي المسألة، وليست مسألة دينية، بل سيطرة احتلال على الرموز الدينية. لنفترض أن إسرائيل تعهّدت للعالم الإسلامي بأن المسجد الأقصى سيبقى مسجدًا وستحافظ عليه تحت السيادة الإسرائيلية، هل نقبل؟! المسألة ليست كونه مسجدًا، بل المسألة هي: لمن السيادة السياسية عليه، وهذا مفهوم سياسي، وهو مفهوم حديث ليس له علاقة بالديانات.
الصراع على الأقصى هو صراع بين المحتل والواقع تحت الاحتلال، الذي نقول له أن ما تقوم به هو بصفتك محتلًا وليس بصفتك يهوديًا أو مسيحيًا أو مسلمًا. وأنا مضطر لأن أحشّد كل الطاقات لأناقضك بهذه الصفة، ومن هنا أهمية الموضوع. هناك خلط شديد في هذه المسألة. المسألة ليست في بقائه كمسجد، وماهية الخطورة عليه هي كمسجد تحت الاحتلال، علمًا أنه يوجد مساجد في فلسطين تحت سيطرة الاحتلال عند عرب الداخل. المسألة هي لمن السيادة على القدس والمسجد الأقصى، وهذه مسألة سياسية حديثة متعلقة بالتحرر الوطني، وتشمل المسلمين وغيرهم. ولذلك فالدفاع عن الأقصى هو مهمة وطنية للجميع بغض النظر مُتدين أو علماني.
.الأمر الثاني على سبيل توضيح المصطلحات نقول: من حيث المبدأ، ما ينطبق على الأقصى ينطبق على كل فلسطين، فبالنسبة لي: كل القدس أقصى، وكل فلسطين قدس. القضية مع أهميتها الرمزية بعيدة المدى. وأعرف أن قدرتنا على التَحشيد مختلفة، فأنت لا تستطيع أن تحشد على كل حي كما تحشد للأقصى، لكن المبدأ هو ذاته، وحتى في القرآن المبدأ هو ذاته، فالآية تقول: «سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله»، وانتبهوا إلى «حوله»، وليس «باركناه». رغم أن هذا في الخطاب الديني، وهو ليس خطابي ولا لغتي، فأنا لغتي سياسية حديثة وطنية قومية. وحتى في الخطاب الديني، وفي كل التفاسير، «حوله» تعني بلاد الشام. وفي كل الأدبيات المُسماة «فضائل الشام»، ترتبط تلك الفضائل بفضائل القدس. القدس والشام نفس البلد، من ناحية الرؤية تاريخيًا وقوميًا، فكل ما حوله مهم.
تهويد القدس
ما يجري في وسائل الإعلام من تركيز على الأماكن المقدسة أمر طبيعي، لا يوجد شيء دراماتيكي في الموضوع، ولكن منذ عام 1967 تجري عمليات تهويد في القدس بعيدًا عن عدسات وسائل الإعلام. ونذكركم بما يلي: 67 احتلال القدس، بعد شهرين قانون ضم القدس وإخراجها خارج أي إجراء تفاوضي وتحويل سكان القدس إلى رعايا ساكنين أو قاطنين مثل الذين يسافرون إلى أمريكا ثم يأخذون بطاقة قاطن (جرين كارد) بعد 3 سنوات.
والقصد من هذا تحويل المقدسيين إلى رعايا أو ساكنين كأجانب في أرضهم، وهذا يعني أنهم هم الذين جاءوا إلى القدس وليس اليهود، أي أن المقدسيين هم من هاجر إلى إسرائيل، اليهود أنجح الناس في هذا، وكل شيء قانوني من حيث الشكليات، أي أنهم احتلوا البلد وسرقوه، لكنهم ديمقراطيون، فمن حيث الإجراءات هم ناجحون.
ولهذا، نشأ في الإعلام مفهوم «سحب الهوية» الذي تم تداوله في الإعلام كثيرًا، وركّزت عليه أثناء عملي البرلماني. فالبطاقة التي أعطيت للمقدسيين قابلة للسحب لو انقطع المقدسي عن الدخول إلى القدس لمدة تزيد عن ثلاث سنوات بسبب العمل في الخارج، بعد أن سدّت عليهم إسرائيل منافذ العمل والعيش، وذلك حتى لو لديه بيت وغيره. وهذه الطريقة القانونية، إضافة لغيرها من الطرق، رئيسية لتفريغ القدس من سكانها بشكل منهجي تمامًا: اعتبارهم هاجروا إلى إسرائيل. ومثل هذا الأمر غير موجود في أي بلد في العالم، أن تصبح بين ليلة وضحاها غير موجود في أرضك وبيتك، وهذا نصيب الآلاف من سكان القدس. هذه عملية تهويد تدريجية، تطهير عرقي حقيقي، وبقرار قانوني.
عندما تم ضم القدس بقرار من طرف واحد، أقاموا لجنة وزارية لشؤون القدس تتكون من 5 وزراء تتخذ القرارات. وأحد قراراتها، عدم وصول نسبة السكان العرب إلى أكثر من 20 بالمائة من السكان اليهود. وبما أن هناك نسبة مواليد عالية، لذا نشهد كل إجراءات التضييق على المواطنين المقدسيين للسفر للعمل في الخارج، وعندما يسافرون تسحب منهم هوياتهم. والأمر الثاني، خلق أغلبية يهودية من خلال الاستيطان في القدس الشرقية، وهذه القرارات ليست قرارات قمم عربية لا تُنفّذ، هذه قرارات غير خاضعة للتفاوض، يبدأ تنفيذها فورًا، دون انتظار رضا أحد. وعيب على الإعلام العربي أن يصدق أن هناك مفاوضات لتجميد الاستيطان. اليهود يخططون للاستيطان لعشرين سنة قادمة، وهذا أمر لا يمكن بالنسبة إليهم التوقف عنه، ولذا نراهم يطوّقون القدس بسبع مستوطنات. والمدينة الفاتنة فعلًا، القدس العربي، أصبحت بقرار تلك اللجنة حيًا عربيًا داخل مدينة يهودية، مثل يافا في تل أبيب. إذن بجانب سياسات تلك اللجنة وقراراتها، وبجانب التطهير العرقي، وبناء المستوطنات، يأتي ضم أوسع الأماكن لتوسيع القدس، القدس الآن هي أربع مرات أكبر مما كانت عليه عند بدء الاحتلال. كل الأحياء المعروفة مُؤخرًا، مثل بيت حنين، تُعتبر قرية لكن تم ضمها إلى القدس لكي تكون خارج التفاوض.
يؤسفني أن هذا لا يجري الحديث عنه، لأنه إذا فرغت تلك المناطق من الناس بتلك الطرق الجهنمية من استيلاء على المنازل منزلًا منزلًا، وبطرق قانونية مختلفة مثل المصادرة، أو إجبار الورثة على البيع لبائع لا يعرفونه. إن من يعمل على تهجير هؤلاء هو شبكات عالمية وأخطبوط عالمي كبير، وهو ما فعلوه بالتدريج حتى نجحوا في الوصول إلى داخل أسوار الحرم القدسي. وشارون ذاته أول من اشترى منزلًا داخل أسوار القدس، وهو عمل مُؤسسي كعمل النمل. يذكرني هنا ببن غوريون الذي قبل سابقًا «حق العودة» – حق العودة قرار أمريكي وليس اقتراحًا عربيًا – وقامت لجنة عربية إسرائيلية لبحث كيفية تنفيذ القرار، وعلى أساس ذلك قُبلت إسرائيل كعضو في الأمم المتحدة. ومع كل مرة كانت اللجنة تُسافر للاجتماع، كان يهدم القرى لإزالة أي شيء يمكن التفاوض عليه. يُريدون العودة، فليعودوا، ولكن إلى أين؟! لذا يجب التفرقة بين الحوار الصهيوني الذي يبدو عقلانيًا وحداثيًا ولبقًا، وبين الجرافات والمُؤسسات التي تعمل على الأرض لتنفيذ المهمة. لهذا من المُضحك مشاهدة الناس ينجرون إلى النقاشات السياسية دون رؤية الأمر على الأرض. والجميع يلاحظ أن الناس يصمدون بالأساليب المتوفرة، وأنه من الصعب التغلب على ابتكارات الناس في العيش والصمود. وهذا التجمع مثل العضلة حول المسجد الأقصى، الناس هي من تلتف حول الأقصى دون مؤسسات تقود تحركها، وهذا مهم جدًا، وممنوع أن نتعالى عليه باستعلاء النخبويين. المجتمعات يفترض أن تعمل ضمن مؤسسات، ولا تستطيع أن تعطي المجتمع نصائح دون وجود مؤسسات. وفي ظل الاحتلال، فالناس تتداعى لحماية الأقصى كرمز يوحدهم جميعًا. ومن يعمل بالسياسة يعرف قيمة التعامل مع الناس.
لا بد من النظر إلى قضية القدس في سياقها، إذ أن كل المفاوضات الجارية بأنماطها المختلفة من «خارطة الطريق» إلى غيرها دليل على عقمها [عقم المفاوضات]، وقد كثرت الأنماط حتى صار المواطن العربي بحاجة إلى قاموس من أجل معرفة تلك الخطط الكثيرة التي اقتُرحت لحل الصراع، لأن الحق والصواب واحد ولا يوجد ألف صواب.ولا بد أن يكون هذا العقم وراءه عجز ووهن عربي، وخطط إسرائيلية وخبث يهودي، لكن كل خطط المفاوضات المُتدوالة والموجودة مبتكرة لا تستند إلى الانسحاب حتى حدود حزيران 67، ولا تشمل أيضًا حق العودة. ليس صدفة أن حق العودة والقدس خارج الصورة، وهذا هو مدخل الوضع السياسي الراهن. كنت دائمًا أعتقد أن رفض حق العودة هو ضمان ليهودية الدولة؛ لا يمكن أن تكون الدولة يهودية إذا كان عندك أكثرية عربية. وليس من الصدفة ما قام به جورج بوش الابن فيما يُشبه وعد بلفور آخر، عندما طمأن شارون بنفس لغة بلفور القديمة، لكن بلغة أكثر برودة «بأن الولايات المتحدة تتفهم عدم إعادة الوضع إلى سابق عهده، تتفهم عدم عودة اللاجئين». وحتى اليوم، لم يتبقَ شيء من ما يُسمى زورًا وبهتانًا عملية السلام. ولهذا يحاولون حصر الصراع فيما يُمسى «حوض الصراع»، وهذا مصطلح غير موجود في العربية، إنما لغة استعمارية، ويقصد به المنطقة الموجودة حول المسجد الأقصى.
يهودية الدولة
وقد تقلّصت المفاوضات وعملية السلام لتصل إلى الاختلاف على الحوض المقدس «الحرم القدسي الشريف» كلغة لعملية السلام، أما الباقي فإسرائيل حرة في التصرف به. وبهذا السياق، تدور عملية السلام، وبهذا السياق، تطالب إسرائيل مُؤخرًا العربَ باحترام يهودية دولة إسرائيل كشرط لعملية السلام. ما أهمية الاعتراف بيهودية الدولة – وهذه نقطة غير واضحة المعالم عند العديد من المُثقفين العرب.إخواني، أما الاعتراف بإسرائيل فهو أمر من الماضي، فإسرائيل أعلنت نفسها بالفعل دولة يهودية. الآن يعلنون أنهم دولة يهودية ويطالبون العرب بالاعتراف بهم بناء على هذا، وهذا تجسيد الصهيونية، أي أن الصهيونية تسعى لإقامة دولة يهودية سكانًا وقوميةً ودينًا. وبالمناسبة، لا فصل للدين عن الدولة في إسرائيل. وأول من أدخل هذا الشرط شارون في مفاوضات العقبة. صحيح أن العرب لم يجيبوه، ولكن أجابه بوش بأن الولايات المُتحدة تعترف بإسرائيل دولة مُفعمة بالحيوية. الجديد هنا إخراج دولة إسرائيل من هذا التعريف كموضوع داخلي إلى التعريف بنفسها كدولة لكل اليهود في العالم، أي أنّها دولةٌ كثيرٌ من الناس ليسوا مواطنين فيها. لماذا انتقلت إسرائيل من التعامل مع نفسها كدولة يهودية إلى مطالبة العرب بذلك؟ لسببين: الأول، يعني إلغاء حق بالعودة. والثاني، والأكثر خطورة على المدى البعيد، اعتراف الأمة العربية بالصهيونية كحركة، وبحق الدولة اليهودية بالوجود بأثر رجعي.
فهناك في القوانين الدولية شرعيتان، شرعية الأمر الواقع، بمعنى إذا وقعت معك معاهدة فهذا يعني ضمنيًا الاعتراف بك. والثاني، شرعية التبرير، فاعترافنا ليس لأننا هُزمنا أمامك، بل إقرار منا بحقك في تقرير مصير شعبك. وليس كما قال لي أحد القادة العرب عند توقيع اتفاقية أوسلو: «هذه مجرد أوراق.»، فأجبته: «أترغب أن يضعوا لك جبال وأشجار على الورق؟!». ومجرد الاعتراف وإمضاء هذا الأمر مع الطرف العربي يعني اعتراف العرب بدولة يهودية شرعية اسمها إسرائيل، وفي القانون الدولي يعني هذا اعترافًا بدولة، وأننا نحن الذين نعتدي على إسرائيل طوال الوقت كدولة لها حق أيديولوجي، ومن ثمّ نكون نحن المستعمرين، وهكذا تتفتت الأمة إلى دول وقبائل ثم طوائف ثم عشائر ثم أفراد. وإذا بدأنا نتحدث حينها، لن نستطيع ملاحقة الأصوات الانتهازية التي تحوّل تاريخنا الناصع إلى تاريخ من الذل، والعمالة.المدخل الأخير، أن ما يُمسى زورًا وبهتانًا بعملية السلام هو مصطلح سياسي مُشوّه لتوازنات القوى هذه. ولأنهي ربطها بالجزء الأول، أقول إن الرغبة الإسرائيلية في التخلص ديموجرافيًا من أكبر عدد من السكان على أصغر رقعة من الأرض للحفاظ على الأكثرية اليهودية على الأرض. وهذه أهمية الكيان الفلسطيني، أن يحافظ على الأكثرية الفلسطينية، وإما ستتحول إلى جنوب أفريقيا، إذا استمر التشابك مع المُحتل.
والكيان الفلسطيني القليل هذا سيكون من أجل إنشاء حكومة جديدة تحمل عن إسرائيل عبء الحكم على أفراد الدولة الأخرى. فهل الكيان المُوزع على أجزاء فلسطين، بدون حق العودة والقدس، وبدون وظيفته التاريخية يستحق أن يكون موضوعًا لحرب أهلية؟! مثلما فعلت الزولو، وفُعل في الجزائر، ومثل حزب إينكاتا.أين الحسم التاريخي؟ الحسم أننا نتوقف عن التحرر الوطني، وقعنا اتفاقية أوسلو، صرنا عضوًا من المجتمع الدولي، وبانتظار اعتراف من المُجتمع الدولي. انتهت حركات التحرر، وبدأ الحديث بمنطق الدول. هذا منطق الفريق الأول. والمسألة ليست صراعا بين أخيار وأشرار، بل أنّه كان هناك تصور أن عملية السلام تؤدي إلى دولة فلسطينية عاصمتها القدس، وبعد 17 عامًا ألم يحن الوقت للتوقف عن هذا الاعتقاد.فالاستيطان ازداد ثلاث مرات، القدس تخرج من الصورة، تخلينا عن الكفاح المسلح جعل إسرائيل تتمادى كثيرًا، المقترحات الأمريكية واضحة تمامًا أنّها لن تصل إلى حدود 67، أي لم يعد مبررًا القول أن هذا اجتهاد وطني. لِنتخلَّ عن التحرر الوطني، لندخل النظام الدولي الذي لا يعطينا دولة فلسطينية ذات سيادة، ويحل المشكلة لإسرائيل وليس لنا. وإذا اتضحت الأمور على هذه الصورة، وهي ليست اجتهادا، فما هي؟!
الطبقة السياسية الفلسطينية
هناك طبقة سياسية نَمّت مصالح مرتبطة بالاحتلال، أو لنقل مع العملية السياسية، ولا تستطيع أن تستمر دون العملية السياسية، وهي مرتبطة بنوييًا بها كما كانت مرتبطة بأنظمة عربية، والآن هي مرتبطة بما يسمى نظام عملية السلام، وهو ذو تمويل أوروبي واحتضان من محور دول الاعتدال العربي وإسرائيل.هل هذا مبرر لحرب أهلية، ولكي نقسم بلدنا. واسمعوني جيدًا، لأن مؤخرًا نحن نسمع مفردات مثل: نور وظلام، ظلاميين ونوريين، كنا نسمع هذا من المُتدينين والآن نسمعها من العلمانيين. المسألة ليست نورًا وظلامًا، فهل ترانا لا نَكف عن الإبداع ولا جوائز نوبل؟! وليس هكذا تُدار منطقة قريبة من الاحتلال مثل غزة، وعندي نقاش حاد جدًا لهؤلاء القادة، فليست هكذا تُدار العملية السياسية، ولا هكذا تتم الوحدة الفلسطينية. النقاش تحت الاحتلال لا يكون: من مُتدين ومن علماني، بل يكون من مع الاحتلال ومن ضده. المسألة ليست لها علاقة بالمتدينين، حتى لو كان اليساريون هم من يناضلون الآن في غزة لكان نفس الحصار موجودًا، هذا ليس هو النقاش – عن التدين أو العلمانية أو الظلامية. كل هذا يُؤدي إلى إرباك المُجتمع العربي. السؤال هو هل أنت مع التسوية غير العادلة بشروطها الراهنة، أم أنت تُقاومها؟ فلم يكن من المهم هل كان عبدالكريم الخطابي مُتدينًا أم غير ذلك، بل على النقيض، لقد ساعده الدين في حشد جماهيره ضد الاحتلال، ولا عمر المُختار، ولا حافظ الأسد.الواجب على دول الاعتدال أن تترك هذا النقاش.
المسألة ليست من يريد الاتفاق أو من لا يريد، الأمر ليس هكذا، أصلًا ليس الاتفاق مطروحًا، بل المطروح هو إجراء انتخابات. أنا أفهم أن شعبًا تحت الاحتلال لا يذهب إلى الانتخابات، بل يذهب إلى وحدة وطنية. لم نجد في التاريخ شعبًا تحت الاحتلال يفترض به أن يذهب إلى التصويت في اتجاه معين، أو المساومة على المُقاومة أو لقمة الخبز. هذا ليس اتفاقًا، بل هي إذًا فقط انتخابات.لقد دقّقت في الورقة المصرية كما لو أنني أدقّق في نص ديني، ولم أجدها تتحدث عن وحدة وطنية بل عن انتخابات، فكلها ديباجة. بعد ثلاث سنوات من الحصار التجويعيّ وحرب واحدة لئيمة مثيرة للاشمئزاز أكثر من كونها وحشية، وبعد كل ما حدث أدعوك أن تصوت في الانتخابات. فأنت إذا لم تذهب، فسوف يجوع أولادك، ولن يأخذوا تصريحًا للعلاج أوالدراسة، بعد كل هذا لمن تصوت؟! أهذا وفاق وطني! هذا اتفاق وطني مع من؟! هذا اتفاق مع المستعمر على الناس من أجل أن تطيح بـ «الإمارة الظلامية». تُرى أيّ قيادة وطنية تحترم نفسها بالحد الأدنى تقول أنا مع الانتخابات؟ مع أني لست مع «تقليعة» الانتخابات تحت الاحتلال!
وكل الشعوب العربية التي عندها سيادة لا توجد لديها انتخابات، أما تحت الاحتلال فيجب أن يكون هناك انتخابات، وكل القادة العرب الديمقراطيين يطالبوننا أن نقوم بالانتخابات، فلم لا تقومون بها عندكم، فأنتم ليس لديكم حصار! أي قيادة تحترم نفسها بالحد الأدنى تقول: سأذهب إلى الانتخابات، ولكن أريد ضمانات من الرباعية: أمريكا، روسيا، أوروبا والأمم المتحدة – تخيّلوا أن الأمم المُتحدة بعظيم قدرها تتساوى مع الدول الأخرى – مثل أن تشترط أن تعترف الرباعية بنتائج الانتخابات أيا تكن، ولن تفرض حصارًا على الفائز. فهل من المعقول أن الشعب الفلسطيني لا يريد حق العودة والقدس؟! أما إذا لم توافق الرباعية على هذا، وفرضت مجرد الالتزام بوقف العنف والالتزام بالاتفاقيات، عندها لا، أنا سألتزم بوحدة وطنية مع الشعب، وهذا فيه الحد الأدنى من الوطنية. رغم عدم اختلافي معها، لكن إذا لم تحترموا نتائج الانتخابات التي يفرزها الشعب، أمّا أن أذهب إلى الانتخابات متفقًا مع العالم أن يربحها لي بواسطة الحرب والحصار، فأين السقف الوطني. فهل يعقل أن هناك قيادة وطنية حلفيها الحصار والحرب على شعبها، وهذا ما يجعلها تفوز. إذن، هذا ليس نقاش.أخيرًا ما تحدثت به هو اقتراحات ومخارج للأزمة التي نعيشها. فيما يتعلق بالمستقبل، إن ما نعيشه من جميع القضايا هو تحصيل حاصل لوضع الأمة العربية، ولا يمكن أن تنتظر أن تُحل تلك القضية واحدة واحدة، وإذا لم ينصلح الوضع العربي، لن تنصلح القضايا. قضية فلسطين هي قضية عربية وليست قضية الفلسطينيين، في نص الميثاق القومي الفلسطيني: «فلسطين هى وطن عربي». فلسطين برمتها هي القضية، وليست القدس فقط. العقلية التي تقول أن القضية الفلسطينية هي قضية الفلسطينيين هي نفس العقلية الحاكمة في الدول العربية، والتي تقول أن الفقر هو قضية الفقراء، والصحة قضية المرضى، والتعليم قضية الأهل، والبُنى التحتية ليست مشكلتي. هذه العقلية لا يمكنها بناء أمة ولا بلدـ ليست أمة عربية، ولكن لا يُمكنها بناء أي أمة.