عزمي بشارة: فلسطين، قضية العرب أم مشكلة الفلسطينيين؟
هذه المادة هي نص محاضرة المفكر الفلسطيني عزمي بشارة التي قدّمها في الجامعة الأمريكية في بيروت في ذكرى النكبة، مايو (آيار) 2009. وقد ارتأينا نشر نصها اليوم في الذكرى السبعين للنكبة الفلسطينية كونها ما زالت تجيب عن أسئلة فكرية مطروحة على الساحة العربية، ربما اليوم بشكل أوضح وأخطر مما كانت عليه وقت إلقاء تلك المحاضرة.
إنه لشرف كبير لي أن أكون اليوم بينكم بمناسبة الذكرى الواحدة والستين للنكبة في هذا المكان، الجامعة الأميركية في بيروت، الذي شهدت أروقته منذ ستين عامًا الكلمات الأولى لكتاب «معنى النكبة»، ثم كتاب «معنى النكبة مجدّدًا» في ما بعد، كتبهما قسطنطين زريق.
صحيح أن آباءنا الذين عاشوا النكبة حينذاك، لم يتوقعوا يومًا أن نحيي الذكرى الواحدة والستين للنكبة لأنهم كانوا موقنين حينها بأنها دولة مزعومة لن يكتب لها الحياة طويلا في تاريخ المنطقة العربية لأنهم كانوا يعتقدون أنها شيء عابر يمر مرور الكرام أو مرور اللئام، إلا أنّ الصهاينة أيضًا، وفي أسوأ كوابيسهم، لم يفكروا أبداً أنه بعد مرور واحد وستين عامًا على النكبة، سيكون هناك شباب ما زالوا مصرّين على إحياء تلك الذكرى.
ويكتسب وجود هذا الحشد هنا اليوم معنى خاصًا، بغض النظر عن المواقف الشخصية، إذ إنه يمثّل ردًّا حاسمًا على الرؤساء العرب الذين هنّأوا إسرائيل من دون خجل بيوم «استقلالها» الذي هو يوم نكبة للفلسطينيين.
هذا الحشد الكبير هو دليل قاطع على أن القضية ما زالت حية، ما يدحض مزاعم الدولة الصهيونية وبعض الدول العربية الرسمية التي فقدت ذاكرتها ولم تعد تعرف التاريخ الذي سبق عام 1967.
إن مجرد وجودنا اليوم سوية لإحياء ذكرى النكبة، يثبت عمق الهوة التي تفصل بين النظام العربي الرسمي والرأي العام العربي.
النسيان الجماعي ضرورة حتمية
اكتسبت عملية إحياء ذكرى النكبة أهمية خاصةً منذ إطلاق ما يُسمى بعملية السلام العربية التي لم يكتب لها الانطلاق، ناهيك بالاستمرار، لولا مجموعة فرضيات عمل، منها فصل القطري عن القومي، ويُعدّ تهميش ذكرى النكبة عام 1948 إحدى أهم ركائزها. إذ يتناول المعجم السياسي العربي الحالي كلامًا بشأن تحرير الدول العربية لأراضيها المحتلة عام 1967، ما يشير إلى وجود صراعات عربية إسرائيلية سابقة أدّت إلى احتلال أراضي بعض الدول عام 67.
أي أن حالة الحرب كانت سائدة ما بين عامي 48 و67، حيث قاتل العرب في الجولان وسيناء من أجل تحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 48، أو قاتلتهم إسرائيل لأنهم لم يعترفوا بها، ولأنهم رفضوا توطين الفلسطينيين، وكانت حالة الحرب سياسة بعضهم الفعلية، وسياسة الجميع الرسمية على الأقل. أما الركيزة الثانية فهي افتراض قضية فلسطين مشكلة الفلسطينيين، ومشكلة كيانية فلسطينية في النهاية.
وحتى ذلك الحين، اعتبرت إسرائيل أي تحرك عربي حتى على مستوى تحديث الدولة تهديدًا لها، لأن فلسطين لم تكن بمفهوم العرب قضية الفلسطينيين وحدهم، بل كانت قضية العرب أجمعين؛ فقضية فلسطين ارتبطت في الواقع وفي الأذهان ارتباطًا وثيقًا برؤية هذه الأمة لنفسها ولمستقبلها.
صحيح أن الفلسطينيين كانوا الضحية المباشرة، إلا أن الأمة العربية برمتها كانت هي المستهدفة بالتجزئة والهيمنة من الاستعمار. أما سعي بعض الدول العربية إلى عقد صفقة منفردة في سياق ما يعرف باتفاقيات سلام منفرد مع إسرائيل، على أساس مبدأ «الأرض مقابل السلام»، فقد انطلق من ضرورة وضع حد للصراع من منطلق أمن الأنظمة لا مصالح شعوبها ودولها.
وقد تطلب وضع حد لصراع الدول العربية مع إسرائيل الافتراض أن قضية فلسطين هي قضية الفلسطينيين وحدهم؛ فالصهيونية في الأساس هي مشروع سياسي للحركة الصهيونية التي رأت نفسها حركةً قومية حديثة متحالفة مع الاستعمار وجاهزة للتحول إلى استعمار استيطاني كتذكرة دخول إلى الحضارة الغربية وإلى عالم الأمم الغربية. وقد تبنّاها الاستعمار البريطاني لأسباب ثقافية واستراتيجية واقتصادية، واستهدف الأمة العربية في إطار فكرة تجزئتها وتقسيمها.
لذا، من أجل السير في ركب عملية سلام، تمسي الإصابة بالنسيان الجماعي ضرورة حتمية، بهدف التخلص من الذاكرة الجماعية.
خدعة الممثل الشرعي لفلسطين
صحيح أنّ الصهيونية سعت إلى تكريس نفسها حركة قومية تبني أمة على غرار قومية أوروبا الوسطى في القرن التاسع عشر بهدف تحرير الإنسان اليهودي من حالة المنفى من خلال بناء الدولة ونفي المنفى، وليمسي اليهود شعباً كبقية الشعوب، وصحيح أنه كان هنالك جانب ثقافي ديني متعلق بنظرة الأنجليكانية الرسمية لمهتمها التاريخية، إلا أن تبني الاستعمار للصهيونية، (وتبني الأخيرة له ولأهدافه) يتسم بأبعاد أخرى مختلفة تماماً تتعلّق برؤيته الاستراتيجية للمنطقة لا فلسطين وحدها.
وحدث أنّ الشعب الفلسطيني هو من كان موجوداً على الأرض، فـتعثّر المشروع الصهيوني بهذا المشروع الوطني القائم على أرضه. ولذلك فإن اعتبار قضية فلسطين هي قضية الفلسطينيين وحدهم، يعني حكماً تزوير التاريخ؛ ولا عجب في ذلك، إذ إن هناك صناعات أكاديمية كاملة تعتاش على تزوير التاريخ. ولا بد أن يقوم تزوير التاريخ في مثل هذه الحالة المتعلقة بمعنويات الأمة وفهمها لذاتها ولتواصلها على تشويه النفوس قبل تشويه عملية التأريخ.
فهو يحتاج إلى إنشاء عربي من نوع جديد، تطغى عليه القطرية، وهذا يعني حتى القبلية والطائفية وغيرها في الدولة القطرية، فمن لا يعتبر قضية فلسطين قضيته لا يكتفي بذلك بل يبدأ وينتهي إلى التعريفات الأضيق. حيث لا يعود جنوب لبنان قضية كل اللبنانيين والعرب، ولا الجولان قضية كل السوريين والعرب، بل تضيق الانتماءات تدريجياً ليتفوّق الانتماء القبلي والعائلي والعشائري على ما عداه من انتماءات، جنوب لبنان محتل هذه قضية الجنبويين.
وإذا انتشر هذا النمط فقد يؤدي إلى أن كون الجولان محتلاً ربما يفترض أن يعني ذلك الجولانيين، كما تعني غزة الغزاويين والقدس المقدسيين. لا حدود لما قد يصل إليه التدهور الذي يبدأ بالتخلي عن قومية المعركة ضد الاحتلال والاستيطان. قضية فلسطين هي إما قضية العرب، أو قضية بل صراع حدود بين كيان فلسطيني وآخر إسرائيلي، تماماً مثلما هي مسألة عالقة في عملية صناعة السلام بين إسرائيل والدول العربية المنفردة.
ليس هناك من قضية فلسطينية غير عربية، وليس هناك من قضية فلسطين منفصلة عن المسألة العربية. أما اعتبار قضية فلسطين مقتصرة على قضية الأراضي المحتلة عام 1967 فيعني أولاً: تنظيم عملية نسيان لنكبة عام 48، وثانياً: تهميش قضية اللاجئين كقضية تفاوضية، وثالثاً: بداية التعريف بالذات خارج السياق العربي من خلال كتابة تاريخ منفصل لكل كيان على حدة خارج السياق العربي الشامل.
وليس صدفة أن يجري بموازاة خيارات السلام المنفرد إحياء لهويات غير قائمة ولا متخيلة كالهوية البابلية والفينيقية والفرعونية، ثم لننتهي منها إلى الهويات ما قبل القومية مثل الهوية الطائفية. فهذه على الأقل حقيقية، أو على الأقل قابلة للتخيل، وهي التي تقوم عليها الهويات القطرية. رابعاً، الإصرار على ممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني مسؤول عن شؤون الفلسطينيين للتحرّر من عبء القضية الفلسطينية.
كانت هذه ضرورة، ولكن التعاطي الرسمي معها وتشجيعها لم يكن بريئاً، ولم يكن لمصلحة الفلسطينيين، فهي لم تسعَ للاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني بقدر ما كان يهمها التحرر من عبء القضية الفلسطينية وإلقائه على «أصحابه» الجدد.
لمسألة الاعتراف بالممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وجهان: وجه تحرير القرار الوطني الفلسطيني من الصراعات العربية العربية أو المحاور العربية العربية كما تفاعلت في الخمسينات والستينيات وبعد حرب أكتوبر 73، ووجه آخر هو التحرر من عبء القضية الفلسطينية والتمهيد لسلام منفرد لكل دولة عربية.
أثّرت قضية فلسطين حتى على صناعة الهويات في الوطن العربي، ناهيك بالأيديولوجيا. فهي إذًا قضية في صلب ما يجري في كل دولة عربية، لذلك هي قضية عربية باميتاز. وعندما اكتشف الرئيس أنور السادات فجأة محبته للفلسطينيين ودعم بقوة الممثل الفلسطيني الوحيد عام 74 في الرباط في مواجهة الأردن، لم يكن ذلك بدافع الحرص على استقلالية القرار الفلسطيني، بل استعداداً لعقد «كامب دايفيد» وتمهيداً، ليس لتحرير القرار الفلسطيني من التأثير العربي، بل لتحرير قرار مصر من القضية الفلسطينية، داعياً الممثل الفلسطيني لتدبير شؤون شعبه.
عودة إلى البديهيات
تُبنى كل الفرضيات السابقة كما أسلفنا على أن ارتباط العرب بقضية فلسطين بدأ عام 67 بسبب احتلال أراضي دول عربية، بعدما كانت مقتصرة على الفلسطينيين منذ عام 48 . إلا أنه حتى القراءة التي تبدأ عام 67 لتصل إلى المفاوضات تثبت أن قضية حق العودة ليست قضية تفاوضية، إذ إنها لا تصلح للتفاوض، لا في مسار تفاوضي عربي منفرد ولا في إطار تفاوضي فلسطيني منفرد، فإسرائيل لا تتراجع في مسألة حق العودة على طاولة مفاوضات. وما يجري اليوم من مفاوضات لا يهدف إلا إلى عقد سلام منفرد عربي إسرائيلي، وسلام منفرد فلسطيني إسرائيلي بدلاً من إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية.
وفي الذكرى الواحدة والستين للنكبة، لا بد من الإشارة إلى شيوع بعض المصطلحات التي لم يكن جيل الخمسينيات والستينيات ليتخيّل مجرد احتمال تداولها، كمثل الحديث عن المسارات و«الطرفين»: الطرف الفلسطيني والطرف الإسرائيلي الموجوديْن في «عملية سلام» ووجود «متطرفين لدى الطرفين» و«معتدلين لدى الطرفيْن» و«عنف من الطرفيْن».
وفي الأسبوع الماضي شهدنا كيف نعاتب البابا كونه يدين الطرفيْن لا طرفاً واحداً، وأن يُذكر الأسرى من الطرفين. ويُقارن أحد عشر ألف أسير فلسطيني بجندي إسرائيلي واحد، علماً بأن الجندي الإسرئيلي لم يخطف من منزله، بل كان في دبابة يقصف حي مدنيين في غزة. ليس هناك من إمكانية لمقارنة من هذا النوع لهذه السياقات بالذات إلا في إطار هيمنة فكرة المسارات بين أطراف، وكأن صراعاً هو بين أصحاب حقوق متنافسة أو متصارعة.
أيها الأخوة والأخوات، إنّ العودة إلى الثوابت مهمة جداً ليس في سياق سلفية أو أصولية ما، فلست من المتعصبين لثوابت بهذا المعنى، بل أعني بذلك القضية الفلسطينية نفسها، ما هي، لتثبيت البديهيات ووضعها في نصابها. وهنا لا أتحدث عن خطاب تقدمي مقابل خطاب رجعي في السياق الوطني، بل عن نضال عادل وعن نضال من أجل تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني. أما تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني والأمة العربية يبدأ بعام 48. فقضية فلسطين هي قضية النكبة، هي قضية استعمار استيطاني لفلسطين وقد اتخذ هذا الاستعمار الاستيطاني منذ عام 67 أشكالاً تماثل نظام «الأبارتهايد» الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. ولكنه في الحالتين نظام عنصري.
صحيح أنّ نظام الفصل العنصري الذي أقامته الحركة الصهيونية عام 48 أدى إلى تشريد الناس وإلغائهم وإبعادهم عن وطنهم، وهو فصل عنصري صهيوني قام على أساس تشريد السكان. إلا أن الاستعمار الاستيطاني اتخذ شكل فصل عنصري أكثر شبهاً بجنوب أفريقيا في حالة بقاء السكان في الأراضي المحتلة عام 67، إذ إن هناك كتلة ديموجرافية بقيت في فلسطين عام 67، ما أدى الحرمان المباشر من الحقوق في ظل الحكم العسكري وصولاً إلى الجدار والفصل العنصري في ما بعد.
لكن مبدأ الفصل العنصري لم يعمل به منذ عام 67 فحسب، بل منذ عام 48. الفصل العنصري في إسرائيل له شكلان: شكل تهجير الناس للحفاظ على نقاء الدولة اليهودية، والشكل الآخر هو بناء جدار يفصل بين الناس. وقد بدأ هذا النوع من الصراع عام 48 لا عام 67، وحتى من هذه الزاوية لا بد من اعتبار النكبة حية.
عملية السلام: هدية أوروبا لليهود
أما الأمر الآخر المهم في إحياء ذكرى النكبة فهو سؤال كبير يواجهنا حالياً، ألا وهو جدوى الإصرار على قضية فلسطين بعد مرور واحد وستين عاماً على النكبة، في زمن الكوارث الطبيعية الناجمة عن تغير المناخ والتي قد تشرّد 900 ألف نسمة في غضون أيام. ولا يكمن السبب في كوننا شعب الله المختار نصر على العدالة أكثر من غيرنا ونرفض أن ننسى أكثر من غيرنا ونتمسك بوطننا أكثر من غيرنا، لسنا شعب الله المختار بل ضحايا من يعتبر نفسه شعب الله المختار. وربما نحن كما قال ناجي العلي، رحمه الله، شعب الله المحتار.
فالتمييز الذي تمت ممارسته بحق الشعب الفلسطيني يتضمن إهمال قضيته لا الاهتمام بها، كما لم يُعرف شعب آخر وقع تحت استعمار حديث. ليس هناك من حركة تحرر وطني بعد الحرب العالمية الثانية استمرت 61 سنة، إذ إن جميع حركات التحرر في العالم أنجزت مهمات تحررها. لا يعود ذلك إلى أنه ليس هناك من اهتمام زائد بقضية فلسطين، بل لأنه ليس هناك من اهتمام أصلاً بقضية فلسطين.
وفي الزمن الذي حُلّت كل القضايا الوطنية في العالم، ما زالت قضية فلسطين عرضة لمزيد من التعقيد. وما سبب الاهتمام الدولي المتنامي الظاهر للعيان سوى لكون قضية فلسطين تقع عند تخوم المسألة اليهودية. الاهتمام هو بالمسألة اليهودية، وبفلسطين يتم الاهتمام بالنفي، إنه اهتمام معكوس. وفي الواقع، ما الفلسطينيون سوى ملاحظة هامش في العلاقات المركبة التاريخية بين الغرب والمسألة اليهودية. إن الاهتمام الغربي بالفلسطينيين مرتبط بالمسألة اليهودية، ولو كان الاستعمار بلجيكياً أو فرنسياً أو هولندياً لما أثارت القضية اهتمام أحد ولاستقل الشعب الفلسطيني واسترد أرضه منذ زمن.
ولقد حوّلت المسألة اليهودية وتعقيداتها في الغرب، الفلسطينيَّ إلى مجرّد كومبارس في سياق سؤال تحديدات الهوية الغربية إزاء المسألة اليهودية، التي ينبثق منها صراع الهوية الأوروبية الحديثة التي كانت تساق أمام الآخر الداخلي وأمام الآخر الخارجي. والآخر الداخلي في هذه الحالة هو اليهودي المعتبر هو الآسيوي الشرقي حين يكون في أوروبا، فيما الآخر الخارجي هو المسلم.
وقد ارتبطت قضية الآخر الخارجي بالنسبة للغرب، لفترة طويلة بالشرق. فاعتبر الأوروبيون، وفقاً لنظرياتهم العنصرية المختلفة، اليهود امتداداً للشرق في الغرب، فكان كل صراع صراعاً في داخل العلاقة مع الآخر، حول تحديدات الذات مع هذه العلاقات أكانت من الناحية الدينية أم من ناحية الصراع.
ولم تكن أوروبا لتسمح لليهودي بالاندماج. وبما أن موضوع الندوة اليوم هو قراءات في النكبة والتاريخ، أسمح لنفسي فقط بالإشارة دون الغوص في الموضوع، إلى أن الغرب اعتبر خروج اليهودي من أوروبا شرطاً لقبوله كأوروبي. ففقط بعد خروجه من أوروبا وإقامة دولة خارجها صار التعامل معه كأنه أوروبي من الحضارة نفسها. يصبح اليهودي المضطهَد في أوروبا والمرفوض أوروبياً مقبولاً عندما يتخلص ويخلص أوروبا من كونه آخر داخلياً ويمثل أوروبا في الخارج. وخير تمثيل لها هو الاستعمار الاستيطاني.
وكانت هذه هي الصفقة التاريخية بين الاستعمار والصهيونية: عند خروج اليهود من أوروبا تُعتبَر إسرائيل امتداداً للغرب في الشرق الكبير. هذه الصفقة التاريخية مريحة للطرفين، أما الضحية فيها، فهي الأمة العربية عبر فلسطين. وهكذا نشأت إسرائيل امتداداً للاستعمار في المنطقة العربية، وكان شرط قبول اليهود كأوروبيين أن يصبحوا استعماريين واستيطانيين.
وفي ما يتعلق بتحديد ما هي القومية، لا بد من التساؤل عن ماهيتها: هل هي عرقية أم تقوم على المواطنة. والمسألة القومية في أوروبا الوسطى والشرقية خاصة، مسألة صراع مع الآخر دينياً وإثنياً هو اليهودي الداخلي وقد اتخذ شكل امتداد لصراع البروستانتية والكاثوليكية مع اليهودية كأنه وحدة وصراع الأضداد. المسألة اليهودية هي مسألة أوروبية بامتياز. ويستحيل قراءة الصهيونية من دون هذه الصفقة اللاواعية، إذ نحن بصدد براءة أثر رجعي للتاريخ وبأثر تراجعي في التاريخ.
ونحن نرى نهايتها الآن، أن أوروبا والحضارة الغربية عموماً تتضامنان مع إسرائيل في إسقاط العداء للسامية على العرب، من جهة، وإسرائيل تتعاون مع أوروبا في تخليصها من المسألة اليهودية واعتبار نفسها الممثل الأوحد لتاريخ اليهود عالمياً. لذلك ما الانشغال العالمي في قضية فلسطين سوى انشغال بالذات وبالهوية وبالآخر الداخلي والخارجي وليس بقضية فلسطين ولا بالغبن اللاحق بالفلسطينيين.
هذا الانشغال يتبلور في أسوأ حالاته، حيث التماهي الأوروبي مع استيطان استعماري في عدائه وارتكابه مجازر بحق السكان الأصليين، وخاصة أنهم من الحضارة التي تعتبر آخرَ خارجياً. فيما يستحق الأوروبي ــ الإسرائيلي الجديد التضامن الثقافي، بالإضافة إلى التضامن الاقتصادي والعسكري. وفي أفضل الحالات يؤدي التوجه النقدي إلى الضغط على الطرفيْن من أجل الاعتراف بعضهما بالآخر والمباشرة بعملية سلام وإطلاق وساطة أوروبية تريح الأخيرة من مسؤوليتها المزدوجة عن العداء للسامية وعن القضية الاستعمارية في الشرق.
بدل أن تقف في مثل هذه الحالة مع الضحية، فإنها تقف مع عملية السلام بين طرفين. وهكذا تحوّل جميع تلك المحاولات القضية الفلسطينية إما إلى ناتج جانبي لعلاقات غربية إسرائيلية، أو إلى حقّيْن متساوييْن يتصارعان على الأرض نفسها لا ينقصهما سوى عملية سلام واعتدال وواقعية ووسيط نزيه.
لم يكن الاهتمام بالقضية الفلسطينية بمجمله يوماً اهتماماًً بالفلسطينيين أنفسهم، ولهذا لم تنتهِ قضية فلسطين بل ازدادت تعقيداً مع مرور الزمن. ليس صحيحاً القول إذاً إن هناك اليوم اهتماماً دولياً أكبر وتضامناً متنامياً مع قضية فلسطين، فهذه الأخيرة تأثرت أكثر من أية قصية أخرى سلباً بالتطورات الدولية. فقد شهدت، منذ نشأتها، محاولات لتحويلها إلى كبش فداء لصراعات دولية عديدة، منذ ثورة 36 ـ 39 التي مثّلت عبئاً على الإمبراطورية البريطانية إبان الحرب العالمية الثانية وحتى انعكاس الانهيار الذي أصاب المعسكر الاشتراكي مروراً بكل تطور دولي، ما جعلها على مر العقود، بشكل غير مسبوق، أسيرة للتطورات والتشابكات الدولية.
قضية فلسطين إذاً هي أسيرة المسألة اليهودية الأوروبية. أمّا مصدر التعقيد الثاني، فيكمن في كونها أسيرة مسألة عربية غير محلولة حوّلت قضية فلسطين إلى قضية بين دول عربية مختلفة تعيش صراعات في ما بينها، فهي تارة قضية أيديولوجية بالنسبة للدول التي تقدم نفسها كأنظمة راديكالية ثورية، وقضية ذات شكل آخر عند نوع آخر من الأنظمة.
وقعت قضية فلسطين على مفترق تشابك مسألتين معقدّتين جداً، تعرف إحداهما بالمسألة اليهودية، فيما أعرّف أنا الأخرى على أنها المسألة العربية قي الشرق. وهي المسألة نفسها التي تجعل الدول العربية تبحث عن حلول منفردة مع إسرائيل ما دامت مسألة الأمة غير محلولة. وعند نقطة الالتقاء والتشابك، تقع القضية الفلسطينية. في ظل هذا، يستحيل أن نخضع للضغط النفسي القائل إن قضية فلسطين لاقت اهتماماً فاض عن حاجتها، حيث إن هناك كماً هائلاً من العناصر الدولية التي تحالفت ضدّها بصورة غير مسبوقة في التاريخ.
القضية قضية لاجئين
تختلف الروايات في تحليل سبب شن إسرائيل حرب عام 67. فقد اعتبرها البعض محاولة منها لإسقاط «الأنظمة التقدمية». أو أن هدف حرب 67 كان التوسع من النيل إلى الفرات، ولكون إسرائيل لم تتوسع من النيل إلى الفرات، يمسي مدعاة للفرح حيث اقتصر الاحتلال على سيناء والضفة والجولان. وما نظرية من النيل إلى الفرات سوى أسطورة عربية ــ إسرائيلية، فالإسرائيليون عاجزون عن احتلال أراضٍ تمتد من النيل إلى الفرات، ولم يستوعبوا غزة وهم بالكاد يستوعبون الضفة.
هذا التعظيم لقوة إسرائيل قد يكون محاولةً لا واعية من العقل العربي لتبرير هزيمته، فإذا هزمت من قوة عظمى هذا مقبول، أما أن تُهزم من دولة ضعيفة فأنت لا تساوي شيئًا
وطبعاً بدلاً من الإقرار بالهزيمة، يجري تعظيم قدرات إسرائيل وإمكانياتها وأهدافها. وقد تكون هناك أهداف اقتصادية إيديولوجية للحرب، ولكن الهدف الاستراتيجي الحقيقي شبه المعلن وما يُمارس سياسياً هو احتلال أراضٍ لمبادلتها بالاعتراف بها، وذلك في فترة لم تجف عنها بعد دماء حرب 48 وذلك بعد مرور تسعة عشر عاماً على نكبة فلسطين.
إنّ تحقيق مثل هذا الاعتراف والتطبيع وقبول إسرائيل في المنطقة بعد أقل من تسعة عشر عاماً على أكبر عملية سطو مسلح على وطن عربي يُعتبر إنجازاً تاريخياً لإسرائيل من دون تحقيق شعار «من النيل إلى الفرات». وهل من إنجاز أهم من ذلك؟ كانت إسرائيل تعيش حينها حالة من الحرب وعدم الاستقرار والتسلل والعمليات الفدائية وبدايات حركة تحرر وطني فلسطيني حديثة. وكان هناك إيمان عربي قاطع بضرورة تحرير الأرض وتفكيك هذا الكيان، ولم تسدِ ثقة إسرائيلية أو دولية، ولا حتى بين ما يسمى بيهود الشتات، بإمكانية استمراريته.
وفلسطينيًا كما قلنا، كانت قد تكوّنت منظمة التحرير من جهة ومنظمات العمل الفدائي من جهة أخرى، وكان الإيمان بإمكانية التحرير قوياً لدرجة تدفع العلماني للاستشهاد من أجل فلسطين قبل المتدين. وأذكركم هنا بأن قضية التضحية والاستشهاد التي تبدو الآن خاصة بالمتدينين والحركات الدينية ليست بالضرورة علمانية أو دينية، بل هي مسألة إيمان بقضية.
وأبدت حينها الحكومة الإسرائيلية نيتها الانسحاب من الأرض عندما أرسلت فوراً برقية إلى الرئيس الأميركي حينها ليندون جونسون عبّرت فيها عن استعدادها للانسحاب من الأراضي التي احتلتها باستثناء القدس، (وهي قضية مختلفة حيث ضمت القدس مباشرة إليها)، وفي ما عدا ذلك هي ترغب بأن تبادل الأراضي بالسلام مع العرب وغيرهم… وطبعاً تطورت مطامع إقليمية وبوشر بسياسة الاستيطان.
أما الادعاء بأن تحرير أرض دولة عربية احتلت في حرب يونيو/حزيران مقابل السلام المنفرد مع إسرائيل هو إنجاز كبير، فنذكر أنه كان يُعتبر بمنطق قمة الخرطوم التي عقدت بعد الحرب مباشرة خيانة. لقد جاءت لاءات الخرطوم لا مفاوضات لا صلح لا سلام، لأن هدف تلك الحرب هو تحقيق الاعتراف بإسرائيل وعقد اتفاقية سلام معها مقابل الأرض التي تنسحب منها. أكثر من ذلك، فإن قيام أول دولة عربية وأكبرها بالخطوة الأولى بالتوصل إلى اتفاق سلام مقابل استعادة سيناء، بدّد حتى حاجة إسرائيل إلى مبادلة كل الأرض بالسلام. فبعدما كانت المساومة صعبة في البداية، باتت سهلة بعد تحقيق مثل هذا الاعتراف. فهو كاد يستثني الحرب العربية خياراً، بعدما انتشر الاعتقاد القائل إن الحرب غير ممكنة من دون مصر… وبذلك لم يعد السلام مع الآخرين ملحاً.
لم تكن هذه حصاداً لنتائج حرب أكتوبر كما يدعى بل مأسسة لهزيمة عام 67. وتحولت هذه الخطوة مع الوقت إلى نموذج تقتدي به كل الدول العربية، يحمل أسماء متنوعة كتطبيق قرار 242 (الأرض مقابل السلام)، بالإضافة إلى الاسم الأكثر جمالًا وهو تحقيق الشرعية الدولية، وهو مصطلح عربي يفتقر إلى أية ترجمة له باللغات الأجنبية.
هناك شرعية أخلاقية وشرعية وطنية، ولكن ليست هناك من شرعية دولية. إنه مصطلح ابتكره العجز العربي وفقدان إرادة المواجهة. وهكذا أيضاً صُمِّم هذا النموذج المسمى بالأرض مقابل السلام، لتمسي معه قضية فلسطين قضية الأراضي المحتلة عام 67. فيما الانسحاب إلى حدود الرابع من يونيو/حزيران كان يسمى عربياً «إزالة آثار العدوان»، وكان يُعتبر شرطاً للمفاوضات. فكان الانسحاب إلى أراضي 67 هو شرط التفاوض وليس نتيجة التفاوض، ولم يكن يعرف بالانسحاب من الأراضي المحتلة بل عرف بـ«إزالة آثار العدوان»، أي أن يعود كل شيء على ما كان عليه قبل الحرب.
وتبقى المعضلة الكبرى هي هذا التبني الفعلي «الرسمي» الفلسطيني (وما الرسمي قبل قيام الدولة؟ ما الرسمي بلغة حركات التحرر؟) لاختزال قضية فلسطين على قضية الأراضي المحتلة عام 67، ولا سيما أنها يطرحها لاجئون شرّدوا عام 48. فمنظمة التحرير الفلسطينية بسلبياتها وإيجابياتها قد أتت كونها حركة لاجئين من دون أرض، وتكمن كل من سلبياتها وإيجابياتها في هذه النقطة بالذات، إذ إنها ليست حركة الفلسطينيين على الأرض، حيث لم تقم في الضفة أو عند عرب 48، بل انطلقت من مناطق اللجوء والشتات (في الكويت ولبنان وسوريا والأردن وغيرها، ومن ضمنها غزة التي كانت وما زالت أشبه بمخيم كبير للشتات لجأ إليه أهالي يافا جنوباً، وليست مجرد منطقة محتلة عام 67). كانت منظمة التحرير وفصائل العمل الفدائي عموماً، حركة لاجئين، ولم تنشأ في المناطق التي احتلت عام 67، بل قبل ذلك.
وهنا، لا بد من طرح المسألة التالية المتعلّقة بمفهوم الحق وتشويه استخدامه عربياً ليتماشى مع السياسات الجديدة، وكمثل على ذلك نأخذ «حق المقاومة» و«حق العودة». لقد لحق تعديل غريب عجائبي على حق العودة المشتق من قضية لاجئين شردوا من ديارهم بغير حق بفعل حربي، وذلك بعدما تحول «الحق» إلى ورقة تفاوضية في مسار فلسطيني ــ إسرائيلي على مسألة دولة واحدة من 22 دولة عربية.
هنا أصبح حق العودة حقاً نظرياً، والمطلوب هو اعتراف نظري به ولكن ليس حق ممارسته. ومنذ أن صار هنالك سلام ومسارات لعملية السلام، جرى التنازل عن الأدوات الأخرى واعتبار التفاوض هو الطريق الوحيد.
وتعتبر المقاومة حقاً نظرياً. وانتشرت عربياً ظاهرة الاعتراف بحق المقاومة، ولكن من دون إمكانية استخدامه، بل يحارب ويمنع من يمارسه. وهكذا منعت المقاومة الفلسطينية من كل الجبهات العربية مع إسرائيل الواحدة تلو الأخرى، وذلك ليس لأن هنالك استراتيجية حربية عربية للتحرير يجب أن تنصاع المقاومة لها، بل لأنه في إطار السلام مع إسرائيل، لدى الأنظمة التزامات تنفذها بممارسة أشكال القمع والاعتقال كلها، بما فيها تسليم المقاومين إلى إسرائيل، إلا أن حق المقاومة النظري يبقى محفوظاً.
فلا يمانع أحد في حق الشعوب في مقاومة الاحتلال، إلا أن لا أحد يقبل ممارسة فعل المقاومة الفلسطيني. ماذا فعلنا أكاديمياً لترميم مفهوم الحق؟ حق المقاومة من دون مقاومة، وحق العودة لكن من دون عودة، يما يعني القهوة من دون كافيين (ديكاف)، وطبّق ذلك في كل من مصر (التي باتت تتدخل بحق المقاومة حتى في قطاع غزة المحتل) والأردن، وفي سوريا منذ عام 1982 في لبنان. وذلك دون أن تعقد الدولتان الأخيرتان اتفاق سلام ولتجنب الانجرار إلى حرب مع إسرائيل. أما فلسطينياً فالمصيبة أكبر، إذ يجري في إطار السلطة الفلسطينية التنسيق أمنياً مع إسرائيل ضد المقاومة، وهذه أهم نتائج اتفاق أوسلو.
واجب الشعوب في مقاومة الاحتلال
لقد آن الأوان للكلام على واجب الشعوب في مقاومة الاحتلال، وواجب الدول في دعم المقاومة، وليس على حق الشعوب في مقاومته. فهذا حق تقره الشرائع الدولية والاعتراف به ليس فضيلة نضالية. في أوساط الشعب الفلسطيني والأمة العربية يجب الحديث عن واجب الشعوب في مقاومة الاحتلال لا حقها.
وكما يرتبط حق المقاومة بممارسته واجباً، كذلك يرتبط حق العودة بدور اللاجئين السياسي، فهم حملة هذا الحق وهذه القضية وأصحابها. ولا يعقل أن يقتصر دورهم على التضامن مع غزة، فيما هم الأصل. الأصل هو حق العودة، والعودة مرتبطة بمشروع التحرير. إذ إن انتزاع حق العودة بالتفاوض مستحيل. فكيف استحال دور الشتات إلى التضامن مع غزة؟ وما هو دور الشتات الفلسطيني؟ وكيف يمكن استعادة هذا الدور؟
لا بد من طرح هذه الأسئلة في ذكرى النكبة. إذ يجب ألا يكون إحياؤها احتفالاً، لأن النكبة ما زالت مستمرة والشتات مستمراً. ورأينا مظاهر كليهما أخيراً متجلية في حال لاجئي العراق ونهر البارد. من يهتم بهؤلاء الناس ويرعى شؤونهم؟ ومن ينظمهم لأخذ دورهم في النضال؟ لا بد أن يحدّد هذا السؤال بنية حركة التحرر الفلسطينية، ليمسي الباقي نقاشاً نظرياً أكاديمياً.
إذا كان اللاجئون الفلسطينيون خارج عملية صنع قرار في حركة التحرر الفلسطينية، يصبح حق العودة كلاماً ليس إلا. ويشمل السؤال دور اللاجئين في عملية صنع القرار وأين هو صوتهم في عملية صنع القرار الفلسطيني؟ فهنالك خشية حقيقية من إخراج اللاجئين من عملية صنع القرار، لأن ذلك من شأنه أن يحوّل القضية الفلسطينية إلى مجرّد جلسات تفاوض وورش حوار لنخب منفصلة عن واقع القضية الأصلي، فيما واقع المخيم على شفير الانفجار.
إنّ النكبة قضية العرب ولن يتحرر العرب دون أن يتحرر الفلسطينيون، ولن يتحرر الفلسطينيون دون أن يتحرر العرب. وهذا لا يعني أن نتيجة تقود لأخرى بل إن هذه صيرورة واحدة مترابطة لا تؤجل فيها مهمة بانتظار الأخرى. فالقضيتان مرتبطتان ارتباطاً عضوياً لا ينفصمان، ليس فيهما أول وأخر.
وكانت كل المحاولات العربية الرامية إلى وضع إحداهما، التحرير ثم تغيير الحالة العربية، أو تغيير الحالة العربية شرطاً للتحرير، كانت كلها محاولات عبثية لأنها لا تقوم على ترابط جدي بين الأمرين. فعملية التحرير هي نفسها في القضيتين، وهي متشابكة مترابطة ليس لها أول ولا آخر.
الفلسطينيون الذي ادّعوا أن المهمة مهمتهم فقط هم أنفسهم تحولوا في النهاية إلى ما يشبه نظاماً عربياً رسمياً. والعرب الذين تناسوا النكبة هم أنفسهم الذين أقاموا أنظمة عسكرية، وهم أنفسهم الذين أقاموا أنظمة فساد. فتذرّعت تلك الأنظمة الاستبداية بالإنفاق العسكري كونه أنهك الاقتصاد الوطني، فيما لو لم يكن هناك من فلسطين لاخترعت تلك الأنظمة أسباباً أخرى تعلّل به ضعف اقتصادها. وليس صحيحاً أن هذه الأنظمة أمست استبدادية لأنها لم تتمكن من تطوير بناها ومؤسساتها نتيجة الاستنفار الدائم لمواجهة إسرائيل.
فالإنفاق الاقتصادي والبشري لا علاقة له البتة بقضية فلسطين، وأكبر دليل على ذلك هو أن أكثر طرف على تماس بقضية فلسطين عسكرياً واقتصادياً وإنسانياً واجتماعياً هو إسرائيل. فلماذا تمكّنت إسرائيل من إنشاء اقتصاد مزدهر ومؤسسات علمية ومن تأسيس ديموقراطية لليهود من طراز خاص، ومن تعزيز استقلالية محاكمها إضافة إلى تطوير هويتها الوطنية ولغتها العبرية؟ ولماذا يدخل اقتصادهم عالم «الهاي تيك» والـ«مايكرو أوبتكس» وباتوا يحصلون على جوائز نوبل في العلوم في ظل حالة حرب واستتفار دائمين.
هم حاربوا فعلياً بالقدر الذي حاربت فيه كل الدول العربية مجتمعةً، لا بالقدر الذي حاربت فيه كل دولة على حدة. إنهم أكثر «دولة» تحملت «عبء قضية فلسطين» بالمعنى المعكوس للكلمة. لماذا يسجل اقتصادهم معدّل نمو وصل في فترات معينة إلى 7% محققاً بذلك أرقاماً قياسية؟ لماذا الطبقة الوسطى تتوسع؟
حدث هذا كله أثناء الحرب. ولذلك لم يقولوا «نريد أن نعترف بحقوق الشعب الفلسطيني، لم يعد في وسعنا تحمل المزيد». طبعاً هنالك عوامل كثيرة مثل الدعم الأميركي وغيره، ولكن كان هنالك مال عربي أيضاً. المسألة الأساس هي طبيعة الأنظمة لا نوع المهمة. فبعض المهمات التي تنوء بها أنظمة، تزدهر لها أنظمة أخرى وتكون لها دافعاً للنمو والتطور.
ما لا شك فيه، أن التخلي عن قضية فلسطين هو كبش فداء لألف هدف في نفس يعقوب للحفاظ على أنظمة الديكتاتورية القائمة وعلى الظلم السائد. إن أمن النظام لا الأمن القومي هو الذي تطلب ذلك. وهذا ناتج من طبيعة كل نظام ولا علاقة له بقضية فلسطين.
ولا يتحمّل الشعب الفلسطيني من عام 48 وزر هذه القضايا. لم يمثّل اللاجئون الفلسطينيون كارثة طبيعية على الناس، بالإضافة إلى أنه كان بإمكان قضيتهم أن تكون محفزاً على التطور الاقتصادي والاجتماعي ومحفزاً للدَمَقرَطة ومحفزّاً للعدالة، وهذا كان ليحدث لو كانت هذه هي خيارات أنظمة الحكم السائدة، ولكان الأمر مختلفاً. ففي إسرائيل يعتقدون أنه للتمكن من المحاربة بالطريقة المثلى، لا بد من ترتيب الوضع الاقتصادي، وتعزيز الطبقة الوسطى وتوفير تأمين صحي وغيرها من الضمانات. وتستحيل الحالة الحربية إلى حالة تطوير للإقتصاد وللتنسيق بين الجيش والأبحاث والصناعة، لا العكس.
ولطالما يُتهم الفلسطينيون زوراً بأنهم سبب التدهور الاقتصادي في البلاد التي لجأوا إليها، فيما دورهم كان جلب ازدهار اقتصادي في العديد من الحالات ككفاءات وكناس عاملين. ذات مرة كنت أحكي لمسئول عربي دون ذكر اسمه عن «ترييف المدينة»، فقال مثلما فعل الفلسطينيون في بلادنا، خاصة القادمون من يافا.
المخيم كمدرسة للمقاومة لا حي فقير
وفي هذا السياق، لا بد من التساؤل التالي بدون النرجسية المنتشرة حاليًا: أولاً: ماذا تعني كلمة لاجئين بالعربية بالنسبة إلى قوم عرب، وثانياً كيف يتهمهم بعض العنصريين بأنهم كانوا «عالة»، فيما هم أحضروا كل هذه الكفاءات والقدرات وبذلوا كل هذا الكد والكدح والجهد وشاركوا في بناء دول حقيقية في المنطقة، من جهاز التربية إلى جهاز القضاء، وليس فقط في بناء شركة خاصة أو شركتين.
وأخيراً، لا بد من طرح السؤال التالي: ماذا سيحل بالمخيم الفلسطيني من دون حق عودة، إذ إننا لا نستطيع أن نتعامل معه دائماً كمسألة نظرية تقتصر على الدراسات والأبحاث. نحن الآن أمام المشهد التالي: هُمّشت منظمة التحرير الفلسطينية إطاراً للاجئين أيضاً بعد اتفاقيات أوسلو، ويجري إحياؤها تكتيكياً لغرض مواجهة تيار من خارجها فاز بالانتخابات كأداة فقط ضد حركة المقاومة لتهميشها وتفريقها.
فيما تخوض السلطة الفلسطينية عملية سلام متعلقة بالضفة والقطاع قائلةً بأنه لم يبق لديها خيارات أخرى. ولذلك في مثل هذه الظروف، لا يبدو حق العودة قريباً، ولا سيما في ظل منع المقاومة من ممارسة حقها من الخارج بسبب تهويل النظام الرسمي العربي من قوة إسرائيل. ولسان حالهم الناس تموت، الحقوق تموت، أما عملية السلام فهى حية لا تموت.
لا يريدون خوض الحرب ولا يريدون السماح لأحد بالمقاومة. لقد كانت الحرب الحقيقية الوحيدة التي خاضها العرب في القرن العشرين هي الحرب ضد إيران بواسطة العراق بدعم من معظم الدول العربية، ولا سيما الخليجية، واستمرت ثماني سنوات. وسقط في هذه الحرب مئات الآلاف من الشهداء. فيما راح هؤلاء العرب أنفسهم يهوّلون مسألة سقوط ألف شهيد في لبنان وفي غزة، معتبرين ذلك تدميراً للبلدان والشعوب. وبلجوئها إلى تلك الذرائع، تعبّر تلك الأنظمة العربية عن عدم رغبتها في خوض الحرب مع إسرائيل، وهي جميعها، من دون أي استثناء، تمنع المقاومة الفلسطينية من أراضيها وعبر حدودها.
إن سقوط ألف شهيد لا يعني البتة إبادة شعب، وإن كان يعتبر من جرائم الحرب. لا تريد الأنظمة العربية أن تحارب ولا تسمح للطرف الآخر بأن يقاوم، ما يجعل المفاوضات عبثية، إذ فقد الطرف الآخر سبباً ليقدّم تنازلات حقيقية في المفاوضات، وهكذا تسدّ كل الآفاق. في مثل هذا الوقت إذاً الذي تمنع فيه الدول العربية المقاومة الفلسطينية من أراضيها، لا يبدو حق العودة قريباً. أما المقاومة المجيدة الباقية في لبنان فهي باقية لأنها لبنانية، وبفعل ضعف الدولة المركزية، وكذلك نوع المقاومة الباقية داخل فلسطين لعدم تمكن السلطة من فرض نفوذ كامل على الضفة وغزة بعد.
لقد بقي الفلسطيني في المخيم بعد النكبة إما لأن العودة قريبة أو للالتحاق بصفوف المقاومة، أو لأن المخيم قاعدة مقاومة. لا بد من طرح حق المخيم الفلسطيني في المقاومة والانخراط في ركب حركة تحرر وطني فلسطيني يضطلع فيها بدور طليعي. ولكن يشهد المخيم الفلسطيني إنتاج طلب سياسي متعلق به يجعله يتساءل ما معنى المخيم دون عودة قريبة ومن دون مقاومة.
صحيح أن اللاجئين في مخيمات شمال لبنان وفي غيرها من مناطق اللجوء صامدون وصابرون، إلا أنه لا أحد يستطيع أن يلغي وظيفة المخيم التاريخية، ألا وهي إما أن اللاجئ موجود ليعود إلى دياره، أو أنه موجود في مخيم هو لأنه مدرسة للمقاومة وقاعدة لها. إذا لم نجب عن هذا السؤال الملح وبسرعة فإن النتيجة ستكون تحويل المخيم إلى غيتو وحي فقر.
وحق المخيم الفلسطيني في المقاومة مسألة يجب أن تناقش ويجب على من يمنع المخيم من المقاومة أن يجيب على هذا السؤال ولابد من ضغط على الفصائل ومن أجل الفصائل، لأنه لا نستطيع الحفاظ على حق العودة طالما كان أصحاب هذا الحق غير مسموح له بممارسته.