عزمي بشارة وأسئلة القدس في الخطاب الوطني الفلسطيني
مع قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، يعود التساؤل في الأوساط السياسية والثقافية العربية عن وضعية القدس في الصراع وموقعها منه، وعن الأهمية التي تحوزها وسببها، وإمكانية أن تؤول بسببها تصوراتنا عن الصراع مع إسرائيل إلى تصورات دينية. وهو سؤال وإن بدت المحاججة ضده سهلة، سؤال مركب وضروري، ويستدعي إجابة جدية.
يجمع كثير من البحاثة والمؤرخين العرب على مركزية هزيمة حزيران عام 1967، في الفكر وفي الخطاب السياسي العربي، لكن قلة منهم أدركت، كما فعل المفكر العربي عزمي بشارة، أن الحرب لم تكن هزيمة مؤسِسة فحسب، بقدر ما كانت مقدمة لمعظم مشاريع التسوية في المنطقة، وأنها مثلت تطورًا جدليًا في الخطاب الإسرائيلي وفي طبيعة الصراع معه ومساجلته.
لقد اجتمعت في لحظة الهزيمة عوامل عدة، معظمها يندرج في ثلاثة سياقات. بدءًا باحتلال كامل القدس وضمها، وتحولها إلى مركز الدعاية الميثالوجية الإسرائيلية، المتشابكة بطبيعة الحال مع الدولة والمواطنة والقومية. ثم بداية الانسحاب العربي من القضية الفلسطينية، وتحولها مع مشاريع التسوية إلى قضية تتعلق بالفلسطينيين فقط، وثالثًا وأخيرًا وجود القدس نتيجة العاملين السابقين، في موقع حساس من التخيل القومي الفلسطيني، على حدود دقيقة بين الوطني والسياسي والديني.
لقد كان انتصار إسرائيل الأهم بعد الحرب أنها حازت على أرض للتفاوض غير تلك التي استعمرتها عام 1948. وبالنسبة لعزمي بشارة، فإن لحظة «النكسة» كانت حاسمة في إزاحة سقف مطالب الدول العربية، التي دخلت إلى الحرب لتعيد ما خسرته في عام 1948، فوجدت نفسها بعد فترة تطالب في أحسن الشروط بإعادة ما خسرته في عام 1967.
وكذا فإن هذا الحدث كان بمثابة إزاحة لنقطة صفر الاستعمار في خطاب الرسميات العربية، الذي صار وكأنه بدأ مع النكسة، ولا تاريخ له قبلها. تمثل الأراضي المحتلة في حرب حزيران بالنسبة للإسرائيليين إذن منتهى ما يمكن التنازل عنه في التفاوض، بينما مثلت بالنسبة للدول العربية منتهى ما يمكن الحصول عليه.
لقد مهدت الهزيمة المشؤومة لصفقات تسوية ثنائية بين دول عربية وإسرائيل، كما يوضح عزمي بشارة، ويبين أن تزامنها مع الاعتراف بمنظمة التحرير كممثل للفلسطينيين، كان خطوة واسعة في التخلي العربي عن «عبء» عروبة القضية. في هذا الوقت، بدأت قضية فلسطين تخسر عروبيتها، رسميًا، في حين بدأت إسرائيل تمثل نفسها، مع ضم القدس والسيطرة عليها، قضية لليهود جميعهم.
في كل هذه الأحداث المتشابكة، كانت القدس عقدة أساسية. وبدأت عمليات تسييس إسرائيلية غير مسبوقة للمدينة. وبطبيعة الحال، لم تقبل إسرائيل حتى بتقديم القدس، كما قدمت سيناء مثلاً، قربانا لأي تسوية. ومع ردود فعل الفلسطينيين الطبيعية، بدأت المدينة المقدسة تتسيس، وتصبح تدريجيًا مركزًا للصراع. وعلى أية حال، فإن عزمي بشارة، كما يصر في أكثر من موضع، ينفي مسؤولية الفلسطينيين عن هذا التسييس، ويرفض هذا الادعاء الذي ساقه بعض الليبراليين العرب خطأ، ولم يفصلوا فيه بين المقدس، وبين توظيفه السياسي في التخيل القومي عن الهوية. بالإضافة إلى ذلك، فإن عزمي بشارة لا ينفك يؤكد أن الصراع يتعلق بالسيادة السياسية على المكان وهي مفهوم حديث، وبقضية التحرر الوطني، وأنه غير مرتبط بالدين. لكنه في نفس الوقت، لا ينكر تعقيد السؤال، وانفتاح مركزية القدس في النضال الفلسطيني على مخاطر تحول السياسي المعتمد على الديني، إلى شأن ديني منفصل.
يجب أن يمثل الصراع على الأقصى إذن في هذه الحالة، وحسب تعبير المفكر العربي، صراعًا على القدس، وكذلك يجب أن يمثل الصراع على القدس صراعًا على فلسطين. ويخطئ من يذهب من المثقفين الفلسطينيين أو العرب إلى مذهب التعالي عن قضية القدس، بوصفها لا تخصهم كعلمانيين أو ليبراليين. لكن ومع ذلك، فإن الكاتب والمناضل الفلسطيني لا ينكر أن هناك استخدامًا فلسطينيًا للقدس يصل في أحيان إلى حد الاستخدام الميثالوجي لا الوطني.
هناك ثلاثة عناصر متداخلة إذن بخصوص النقاش حول القدس، قد تبدو متباينة، غير أن عزمي بشارة يضع بينها نظامًا واضحًا. أولاً تديين الإسرائيليين للصراع حول القدس، وثانيًا التسوية السياسية والتخلي العربي عن عبء القضية الفلسطينية، وأخيرًا الحدود الدقيقة لاستخدام الأماكن المقدسة في التخيل القومي الفلسطيني. وكل هذه العوامل تساهم في الإجابة على سؤال «لماذا القدس»؟
تدخل القدس في كل ركائز الخطاب السياسي الصهيوني، وتحتل موقعًا خاصًا في الخلط الرائج بين الدين والدولة، والدين والمواطنة، وبطبيعة الحال بين الدين والديمقراطية. وفي هذا يبين عزمي بشارة أن القدس توازي حق العودة، حيث تقوم يهودية الدولة في جزء منها على رفض التفاوض حولهما، بمعنى رفض العودة إلى الوضع السابق (قبل هزيمة حزيران) فيما يتعلق بهما. وقد يطول الحديث عن مساهمة المفكر العربي في توضيح دأب إسرائيل على تديين الصراع حول القدس. أما الجزء الثاني، فهو مرتبط بمنهج عزمي بشارة إجمالاً، الذي يرى أن غياب عروبة القضايا الجامعة يحيلها إلى قضايا طائفية ومجتزأة ولا قومية. وأخيرًا، فإن ردة الفعل الفلسطينية في الجزء الثالث على المحاولات الإسرائيلية للتعبئة الدينية، قد تحول استخدام الديني في السياسة إلى موضوع غير سياسي، مع التأكيد أن مسؤولية التديين واقعة على الخطاب الإسرائيلي المتناقض.
تمثل لحظة هزيمة حزيران إذن لحظة الذروة في علاقة الديني والسياسي في إسرائيل، أي بعد احتلال القدس كاملة وضمها. وتبدأ مسارات التسوية مع امتلاك إسرائيل لأراضٍ يمكن أن تتنازل عنها، وهي المناطق العربية التي احتلتها في الحرب، وينشأ الاعتراف العربي بوحدانية منظمة التحرير كممثل، وبتحويل القضية الفلسطينية إلى قضية الفلسطينيين فقط، وتبدأ الحاجة إلى العناصر الدينية البديلة عن عناصر العروبة، كرافعة للقضية، و«كلما تبيّن عجز الدول العربية، أو تبين عدم رغبتها في مواجهة أو مقاومة إسرائيل (كقوة دنيوية قامت بالفعل الحربي والاستيطاني وبالتخطيط السياسي وبالتطبيق الاستيطاني وبعملية بناء الأمة والمؤسسات وكلها أمور دنيوية جدًا)، تضخم دور التاريخ المقدس المعارض والمناقض للتاريخ المقدس الصهيوني، وزاد دور الإيمان في عملية التعبئة والتجييش لجماهير تلك الدول التي تقاعست عن القيام بدورها».
في موازاة ذلك، يمثل التوسع الإسرائيلي اليهودي في القدس توسعًا في مفهوم المقدس الإسرائيلي. وبالتالي فإن كل أراضٍ إضافية جديدة تضم هي غير قابلة للتفاوض، في انتظار أن يقدم رئيس أمريكي جديد بعد فترة روايته عن صعوبة العودة إلى الوضع السابق. هذا ما حدث مع رؤساء أمريكيين عدة، وهذا ما حدث مع دونالد ترامب في الأيام الأخيرة.
يبدو أن عزمي بشارة يتعامل مع القدس باعتبارها واحدة من المواضيع الأكثر تعقيدًا وتركيبًا، فهي فرصة للبناء القومي، وكذا فرصة للتعبئة التي تنجر إلى ما هو غير قومي، وهي فرصة لبناء خطاب ديني ووطني منسجم، يعتمد على القدس والأقصى من أجل رؤية تعم فلسطين، وفرصة قد تحيل إلى اختزال فلسطين في القدس والحرم القدسي.
ليس عزمي بشارة ممن ينجرون إلى النزعة في تفكيك المقدس في أي سياق، وعلى العكس، فإنه ينقد نزعة بعض الليبراليين إلى ذلك، ولكنه يدرك جيدًا، كما يتضح من مقولاته في هذا الجانب أن هذه القضية، مع غياب المساهمة العربية، ومع استمرار إسرائيل في تحويل الصراع من صراع سياسي إلى صراع على المقدس، تبدو قضية متشابكة، وتستدعي خطابًا ثقافيًا حذرًا ومنتبهًا.