«الأزهر»: مؤسسة الدولة أم مؤسسة الأمة؟
من أين بدأ؟
مدينة المنصورية، هو الاسم الأول لقاهرة المعز لدين الله الفاطمي والتي قد أنشاها قائده جوهر الصقلي بعد دخولهم القاهرة وهزيمة الدولة الإخشيدية عام 969م، ومع إنشاء المدينة الجديدة التي سوف تكون مقر حكم الدولة الفاطمية تم إنشاء المسجد الجامع كعادة إنشاء المدن الإسلامية؛ فأول ما يتم بناؤه هو المسجد الذي يتجمع فيه المسلمون ويديرون شؤونهم، وبالفعل بدأ جوهر الصقلي بتشيد مسجد الأزهر ليكون المسجد الجامع في المدينة الجديدة.
بدأ إنشاء مسجد الأزهر في إبريل/نيسان 970م، وأتم البناء في يونيو/تموز 972م، وبجانب دوره بأن يكون المسجد الجامع لمدينة الحكم الجديد في مصر، إلا أنه كان هناك سبب آخر وراء تشييد جامع الأزهر، حيث أن الدولة الفاطمية الشيعية كانت تريد لجامع الأزهر أن يُصبح منارة الدعوة الشيعية بمصر، وعندما تم إسقاط الدولة الفاطمية على يد صلاح الدين الأيوبي أوقف صلاة الجمعة بالمسجد وجعله جامعًا سنيًا، ولم تقم صلاة الجمعة بالمسجد الأزهر إلا بعد قرابة قرن من الزمان في عهد الظاهر بيبرس، وكانت أول صلاة به يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول 1267.
الأزهر عبر التاريخ
لم يقتصر دور الأزهر على كونه مسجدًا، أو كونه منبرًا هامًا للعالم الإسلامي بشكل عام والسني بشكل خاص، أو كونه من أهم جامعات العلوم الدينية إن لم يكن أهمها على الإطلاق، بل لعب الأزهر دورًا هامًا في العديد من اللحظات العسيرة التي مرت بها مصر والدولة الإسلامية، فقد كان له أيضًا دور سياسي بارز.
ففي عام 1798 قاد شيوخ وعلماء الأزهر المصريين في الثورة ضد الحملة الفرنسية، على الرغم من محاولة قادة الحملة التملق إلى الأزهر وعلمائه، فكان طلاب الأزهر يطوفون بالقاهرة ويطلبون من الرجال والشباب التوجه إلى جامع الأزهر لبحث كيفية مواجهة الحملة.
كما طالبت لجنة مكونة من علماء الأزهر أن يقوم المؤذنون بحثِّ المصريين على مقاومة الحملة بعد أذان كل صلاة، وتجمع في جامع الأزهر قاربة 15,000 شخص من الثوار، وفي عام 1805 قام مشايخ الأزهر بالتوجه إلى مقر والي مصر مطالبين بعزله وتعيين محمد على بدلًا منه، كما لعب الأزهر دورًا كبيرًا خلال ثورة 1919، فقد كانت التظاهرات تخرج من الجامع الأزهر بقيادة مشايخه.
الإصلاح الديني
لم يكن الجامع الأزهر كما هو عليه الآن، فقد كان جامعًا وجامعة للعلوم الدينية، وخاض الكثير معارك لتجديد وإصلاح مناهجه الدينية وضم المناهج الدنيوية إليه.
كان محمد عبده من أوائل من اهتموا بإصلاح الأزهر، حيث دعا إلى إصلاح مناهج الفكر وتنمية وتجديد الاجتهاد، وإصلاح المؤسسات الكبرى التي تسعى إلى تشكيل العقل المسلم والحياة الإسلامية. كما دعا إلى إصلاح اللغة، وإصلاح نظام التدريس والامتحان بالأزهر.
الإمام محمد عبده
وبدأ الإمام في تنفيذ برنامجه الإصلاحي بداية من رفع رواتب علماء الأزهر، حيث كانت رواتبهم منخفضة للغاية مما جعلهم محط سخرية العامة. إلى جانب ظنه أنهم سيرحبون بدعوته الإصلاحية، إلا أنه لم يلقَ منهم سوى العناد ورفض التجديد بل وصل الأمر إلى اتهامه برغبته في هدم التقاليد الأزهرية.
كما كان يرغب الإمام في فتح باب الاجتهاد من خلال إدخال العلوم التي تخاطب العقل وتدعو إلى التدبر والتفكير دون الأخذ بالمسلمات.
إلا أن الإمام واجه العديد من الانتقادات والإساءات وصلت إلى حد اتهامه بالكفر، والعمالة مع الإنجليز من خلال علاقته مع اللورد كرومر المعتمد البريطاني في مصر وقتها، مما أوقف مساعي الإمام في محاولة الإصلاح.
صحيح أن الإمام محمد عبده لم ينجح في رغبته في إصلاح الأزهر كليًا، إلا أنه ترك العديد من التلاميذ الذين لم ينسوا مشروعه الإصلاحي وحاولوا بعد ذلك إكمال مسيرته، وكان على رأسهم الشيخ محمد مصطفى المراغي والذي شغل منصب شيخ الأزهر عام 1928، وفور توليه المنصب حاول أن يجري عددًا من الإصلاحات.
بدأ الشيخ المراغي بتشكيل لجنة لمراجعة قوانين الأزهر ومناهجه التعليمية، كما قدم قانونًا للملك فؤاد بشان إصلاح الأزهر
قام الشيخ المراغي بإنشاء 3 كليات تابعة للأزهر تكون مدة الدراسة بها 4 سنوات وهي كليات: اللغة العربية، كلية الشريعة والقانون، وكلية أصول الدين، كما دعا لضرورة تحرير المناهج من التلقين والدعوة إلى الاجتهاد، إلى جانب تشكيله لجنة الفتوى بالأزهر من أجل لجوء الأفراد والمؤسسات إليها من أجل استفسارتهم في الأمور الدينية.
الأزهر والدولة
لم تكن العلاقة بين الأزهر والقائمين على إدارة الدولة المصرية علاقة ثابتة أو علاقة تقوم على الدعم المتبادل بين الاثنين، بل كان هناك الكثير من الانقسامات والخلافات بين الأزهر والقائمين على إدارة الدولة.
فعلى سبيل المثال تم نفي الإمام محمد عبده لمدة ثلاث سنوات بعد فشل الثورة العرابية 1882، لما اتخذه من موقف ضد سلطة الخديو وقتها وحثه للمصرين على مساندة عرابي في ثورته ضد الإنجليز والخديو، ونجد أن الملك فؤاد قد قام برفض مشروع قانون إصلاح الأزهر وقبول استقالة الشيخ المراغي، خوفًا من أن يكون المشورع الذي يقدمه يسعى إلى استقلالية الأزهر عن الدولة وسلطة الملك، كما كان الأزهر معارضًا لسياسات حكام مصر في الكثير من الأوقات بعد ذلك مثلما حدث في ثورة 1919 وخروج المظاهرات من داخل أروقة الجامع.
ما بعد 1952
أيد الأزهر حركة الظباط الأحرار في 23 يوليو/تموز 1952 عندما كتب في مجلة الأزهر «انقلابًا عظيمًا كرم الله الإنسانية به وأذهب النظام الجاهلي» وموالية أنصار الملك والديكتاتورية، إلا أن الأمر تغير كثيرًا عقب ثورة 23 يوليو/تموز 1952، حيث كانت الدولة المصرية الجديدة تحاول تأميم جميع مساحات الحراك والنشاط لصالحها، فقام الرئيس جمال عبد الناصر بالهيمنة على المؤسسة الدينية من أجل إضفاء الشرعية على النظام الإشتراكي الذي كان يتبعه من أجل سد أية محاولة لاتهامه بأنه نظام كافر وملحد ويخالف تعاليم الإسلام ومن أجل الرد على آراء الإسلام السياسي الذي كان معارضًا لنظام ناصر. كما دعم الأزهر إعدام سيد قطب عام 1966 مرشد جماعة الإخوان المسلمين وقتها، فأصبحت المجلات التي تصدر عن الأزهر ترد على كتاب قطب معالم في الطريق، كما اتهمه الشيخ حسن المأمون بأنه من الخوارج.
وفي خلال محاولته للسيطرة على نفوذ الأزهر أصدر جمال عبد الناصر عام 1961 بمشروع تطوير/تحديث الأزهر، وقد أعاد ذلك القانون تنظيم الأزهر بصورة جذرية حيث أصبح تابعًا لوزارة الأوقاف بشكل كامل وأصبحت جميع الموارد المالية له تخضع لإدارة الدولة، كما أصبح من حق الرئيس أن يعين شيخ الأزهر بعدما كان يتم اختياره داخل منظومة الأزهر، كما تم إعادة تشكيل المجلس الأعلي للأزهر وضم إليه ثلاثة خبراء في التعليم الجامعي تعينهم الحكومة، كما حدث توسع في الجامعات التابعة للازهر فبعدما كانت هناك 3 كليات فقط تابعة له تم إضافة كليات مثل الطب والقانون والتجارة والهندسة. كما تم تعين مجموعة من ظباط القوات المسلحة كمدربين مؤقتين لإدارة الأزهر.
السادات ورؤية جديدة لدور الأزهر
وعلى العكس من رؤية ناصر فقد استخدم الرئيس السادات الأزهر من أجل رد اليسار المصري والمنادين بإشتراكية الدولة، ومن أجل تثبيت إدعائه بأنه الرئيس المؤمن كما كان يطلق على نفسه، وعندما طالب الشيخ عبد الحليم محمود بأن يكون هو المفسر الديني الشرعي لما يحدث في الحياة السياسية في مصر قام النظام بإسكاته ورفض ما طلبه فأعاد الأزهر مرة أخري لحالة الإستسلام.
وعند توقيع الرئيس السادات لإتفاقية كامب ديفيد أيده الأزهر فقد أعلن الشيخ محمد عبد الرحمن بيصار شيخ الأزهر وقتها في أحد الإجتماعات الدينية «أن مصر تعيش هذه الأيام أمجد أيامها بالزيارة التي يقوم بها الرئيس السادات لتوقيع معاهدة السلام»، كما أرسل الشيخ بيصار إلى الرئيس السادات برقية تهنئة بمناسبة توقيعه المعاهدة، كما أيد الشيخ جاد الحق على جاد الحق مفتي الجمهورية وقتها معاهدة السلام.
عهد مبارك
استخدم الأزهر من أجل محاربة الجماعات الإسلامية المتطرفة، وهو ما وجده علماء الأزهر فرصة جيدة للعودة مرة أخري للساحة العامة،ففي عام 1989 قام مجموعة من مشايخ الأزهر من بينهم الشيخ جاد الحق والشيخ محمد متولي الشعراوي والشيخ الغزالي ود.يوسف القرضاوي بإصدار بيانًا للدفاع عن ممارسات الدولة، ويدافعون فيه عن موقف الدولة وإقامة الحدود الإسلامية.
فيقوموا بانتقاد الجماعات الإسلامية المتطرفة مقابل المزيد من المساحة والحركة في المجال العام، والقيام بمهجامة كل من يدعوا إلى العلمانية والليبرالية مثلما حدث مع الدكتور فرج فودة في الندوة التي عقدت بينه وبين الشيخ الغزالي عام 1992 والتي على أثرها تم إغتيال الدكتور فرج فودة بدعوة أنه كافر يريد فصل الدين عن الدولة والسياسة.
في عهد مبارك لم تكن الأمور تسير على وتيرة واحدة من التأيد والمعارضة، فعلى الرغم من أن الأزهر كان يساند النظام في مواقفه ضد الإسلام السياسي إلا أنه عارض موقف الحكومة تجاه قضية ختان الإناث في الفترة من 1992 و1996، فقد عارض الشيخ جاد الحق سياسة الدولة تجاه تجريم ختان الإناث وأصدر فتوي تنص على أنه «إذا لم يتم ختان الفتيات كما أمر النبي ، فإنهن ستتعرضن لحالات تؤدي بهم إلى الفسق والفجور»
ما بعد الثورة
أتخذ الأزهر عدة خطوات من أجل أن يتحرر من قبضة السلطوية والنظام والتي كان خاضعًا لها طوال 60 عامًا
عقب ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 أتخذ الأزهر عدة خطوات من أجل أن يتحرر من قبضة السلطوية والنظام والتي كان خاضعًا لها طوال 60 عامًا، ففي يونيو/حزيران 2011 شارك الإمام الأكبر أحمد الطيب مع عدد من المثقفين والسياسين في أصدار وثيقة الأزهر والتي كانت تضع رؤية تلك المجموعة في خارطة الطريق والمبادئ التي يروا أنها سوف تعيد بناء مصر قوية.
وفي يناير/كانون الثاني 2012 قام المجلس الأعلي للقوات المسلحة بتعديل قانون اختيار الإمام الأكبر للأزهر ليصبح بالانتخاب بدلًا من تعينه من قبل رئيس الجمهورية، إلا أن المؤسسة الأزهرية لم تتمع بالاستقلال السياسي والمالي تمامًا.
ويبدو أن الأزهر اليوم عاد إلى ماكان عليه طوال ال 60 عامًا السابقة وإن لم يكن بصورة مباشرة مثلما كان عليه الأمر سابقًا، فيتدصي الأزهر اليوم لجماعة الإخوان المسلمين، وتحريم الخروج على الحاكم، ودعم سياسات القائمين على إدارة شئون الدولة حتي وان كانت هناك آرائًا معارضة له، هل يجوز أن يكون للأزهر دورًا سياسًا في العصر الحالي إلى جانب دوره الرئيسي كجامع وجامعة؟ وهل عاد الأزهر بالفعل إلى عباءة النظام؟ وهل الأزهر هو المحتكر الوحيد للدين في مصر ولا مجال لإجتهاد أي شخص خارج المؤسسة الأزهرية؟