كيف أدارت «دولة يوليو» مؤسسة الأزهر؟
الدين… هو حجر الزاوية وعمود من الأعمدة المكونة للمجتمعات العربية. وقد تُشير بعض الدساتير العالمية للدين لا لشيء إلا لاحتضان الممارسات والمعتقدات الدينية، ومن ثَمَّ دمج وتوظيف تلك الممارسات والشعائر الدينية في بناء هيكل مجتمعي يوظف الدين ويقلص دوره.
والذي يعد مختلفاً في العالم العربي هو مدى وحجم الدور الذي يلعبه الدين بدايةً من تكوين المجتمع، مروراً بتأثُر الناس به، وانتهاءً باستغلال السلطة السياسية له.
العلاقة بين الدين والدولة في المجتمعات العربية والإسلامية تُعد علاقة سابقة لتكوين الدولة القومية الحديثة. وتجلت تلك العلاقة في ارتباط سياسة المسلمين بالوحي والتي عُرفت بالسياسة الشرعية. وتزامناً مع بناء الدولة القومية في شكلها الحديث في القرنيين التاسع عشر والعشرين، اختلفت العلاقة بين الدين والدولة في المجتمعات الإسلامية، وأصبح الحديث في البلدان الإسلامية مُركزاً حول سُدة الحكم.
ومع إنتاج بيروقراطيات دينية متماسكة، تسعى إلى تقنين الفتوى وتنظيم أحكام الزواج والطلاق والمواريث وتفسير الدين. أصبح هناك اختلاف جوهري في العلاقة بين المؤسسات الدينية والسياسية، وأصبح لدى الأنظمة السياسية ثلاثة انشغالات متعلقة بالمؤسسات الدينية:
1. سعى الدولة نحو الحصول على دعم وغطاء سياسي من المؤسسات الدينية، وذلك من أجل تثبيت سلطتها.
2. منع استغلال الحيز الديني وتعبئته من قِبل معارضين السلطة مخافة إحداث ثورات أو ما شابه.
3. استغلال الدين كساحة لمحاربة الأفكار المتطرفة والتي لا تستطيع الدولة مواجهتها إلا بالغزو الفكري وتجديد المصطلحات كي تخدم من يرأس السلطة.
وجاءت المؤسسة الدينية الرسمية في مصر والمتمثلة في الأزهر الشريف كمثال حي على البيروقراطية الدينية. فالأزهر لم يعد مجرد جامع ومنبر للعلم فقط بل أصبح يحوي دار الإفتاء، ومكتب شيخ الأزهر، وجامعة الأزهر، والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وهيئة كبار العلماء، ولجنة الفتوى، فأضحى المجمع البحثي والعلمي الضخم المعترف به دستورياً في مصر.
مثل هذه التشابكات الهيكلية داخل المؤسسة الدينية يجعل السيطرة الكاملة عليها شيئاً صعباً إلى حد ما، ولكن تظل السلطة السياسية مُسيطرة على ما تستطيع السيطرة عليه، وما لا تستطيع السيطرة عليه يظل تحت مراقبتها.
لماذا يعتبر الأزهر مهماً؟
أصبغ الواقع الديني في مصر العديد من التعقيدات على المجتمع؛ فبين الأزهر الذي تعتبره الدولة أنه المؤسسة الوحيدة التي يُخول لها الحديث عن الدين وتفسيراته وتسعى من خلال ذلك لتوظيفه سياسياً؛ وبين حركات إسلامية قُمعت لوقتٍ طويل وتسعى نحو فرض نفسها في المعترك الديني والسياسي؛ ظل الصراع قائماً حول التمثيل الديني.
لكن الأزهر ظل محتفظاً بصورة رمزية في مخيلة المجتمع المصري، الذي اعتبره ضمير الأمة ومعلم الناس، ومعتبرين علماءه رافعين صوت الحق وأصحاب التفسير الصحيح والوسطي للشريعة الإسلامية. وتعتبر تلك الرمزية انعكاساً للصورة التي يحملها الأزاهرة عن أنفسهم. فهم لديهم شعور قوي بالهوية والانتماء للجامع الأزهر، معتبرين أنفسهم حاملين الرسالة الدينية على عاتقهم، ومهمتهم تبليغها للمجتمعات وحفظ ضمير الأمة من الانحراف.
الأمر الذي جعل من منصب شيخ الأزهر رمزاً رائداً لتمثيل الدين، ليس في مصر فقط بل في مشارق الأرض ومغاربها. كما أن مساجد الأزهر تنتشر في شتى بقاع الأرض، الأمر الذي يجعل للأزهر صورة قيمة لدى الناس في المجتمعات المختلفة.
كما أن الأزهر يؤثر على قطاع يضم حوالي مليوني طالب، من خلال سلسلة من المدارس التي يصل عددها إلى تسعة آلاف مدرسة، بجانب الكليات الدينية والمدنية. لتصبح تلك المؤسسات رافداً من روافد نشر الثقافة والتعاليم الأزهرية بين قطاع كبير من قطاعات المجتمع وخصوصاً في الأرياف.
ومع استحواذ وزارة الأوقاف على عدد كبير من المساجد وإخضاعها لإدارتها، وإصدار الفتاوى في المناسبات الرسمية من دار الإفتاء، واشتهار مركز البحوث الإسلامية بتوفير إجابات أكثر علماً للسائلين؛ رُسّخ في أذهان المجتمع صورة أبوية عن الازهر، وجعل من المؤسسة الرسمية مركزاً مهماً يعود له أفراد المجتمع لتوجيههم وتعليمهم دينهم عند التباس المفاهيم عليهم أو حتى لتوجيههم سياسياً ومجتمعياً.[1]
جمال عبد الناصر وقانون 1961
اضطرب المشهد السياسي في مصر بعد ثورة 1952، وتكونت الدولة القومية بعد سقوط الملكية على يد الضباط الأحرار. ووصل الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر للحكم بعد استفتاء شعبي عام 1956. ومنذ ذلك الحين بدأ عهد جديد للأزهر.
ومنذ أول يوم في لتشكل الدولة الجديدة بدت نوايا السلطة السياسية تجاه الأزهر. فأُلغيت المحاكم الشرعية عام 1955، وفي عام 1959 أُصدر قانون الأحوال الشخصية، وتبلورت الرؤية حين أُصدر قانون 1961 والذي كان الخطوة الأخيرة نحو نزع استقلال الأزهر وضمه لدولاب الدولة المصرية، وتحويله لمؤسسة بيروقراطية من مؤسسات الدولة.
عملت الحكومة في إعادة هيكلتها للأزهر على ثلاثة محاور:
1. سحب أوقاف الأزهر وضمها تحت إدارة وزارة الأوقاف.
2. إلغاء هيئة كبار العلماء والتي اُستبدلت بمجلس من كبار مسئولي الأزهر، بالإضافة لعمداء الكليات المدنية التي أُنشئت حديثاً، بالإضافة لضم عدد من مسئولي الحكومة للمجلس.
3. جعل منصب شيخ الأزهر بالانتخاب، وربطه بمكتب رئيس الوزراء لا برئيس الجمهورية.
هذه الهيكلة كانت هادفة لسحب الاستقلال من الأزهر في اتخاذ قراراته، وفقد السيطرة الذاتية على الموارد المالية. وكان من الطبيعي بعد تلك الإجراءات أن يعلن الأزهر انحيازه الكامل في أحيان والجزئي في أحيان أُخرى إلى الدولة المصرية. وذلك على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.[2]
السادات واستنزاف الأزهر
سعى السادات نحو تقويم الإطار الأيديولوجي للدولة وجعله يسير في اتجاه يتسم بمسحة دينية، وكان لابد من الاستناد على ممثل ديني يدعم شرعيتهُ، فكان الأزهر هو المختار لمساندة شرعية الرئيس الجديد. وكما يعلم السادات الثقل الديني للمؤسسة الأزهرية، فكان لزاماً عليه أن يستخدمه في مواجهة التيارات الإسلامية الصاعدة، وأيضاً في مواجهة المد اليساري الذي ورثه من نظيره السابق.
فاستقرت العلاقة بين المؤسسة الدينية وبين الدولة ولم يكن بها خلافات أو صراعات كبيرة. ولكن العلاقة اضطربت عام 1981 حينما وصف السادات في خطابه الأخير بمجلس الشعب الشيخ المحلاوي بـ «الكلب»، الأمر الذي اغضب كثيراً من الأزاهرة وجعل الشيخ محمد متولي الشعراوي يرسل خطاباً مكتوباً لمكتب السادات يقول فيه: «إن الأزهر لا يخرج كلاباً لكنه يخرج دعاه أفاضل وعلماء».
مبارك والانسجام مع الأزهر
وصل الشيخ جاد الحق إلى مشيخة الأزهر في بداية عهد مبارك، وكان البعض يعتبر الشيخ شوكة في حلق مبارك، كونه يهتم ويدافع عن قضايا الأمة، كما أنه كان يمنع إصدار فتاوى بإباحة الربا وفوائد البنوك، فأدرك مبارك أن مؤسسة الأزهر لابد أن يديرها شخصٌ لا يعادي السلطة.
فبمجرد وفاة الشيخ جاد الحق عام 1996، تولى مفتي الجمهورية آنذاك محمد سيد طنطاوي منصب شيخ الأزهر. وكان طنطاوي شخصية تتبنى آراءً يراها البعض أكثر انفتاحيه وتحرراً بشأن القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية. الأمر الذي جعله يسير في مسار توافقي لا يتعارض مع السلطة.
وبحلول عام 2010، توفي شيخ الأزهر سيد طنطاوي. وكان لابد لمبارك أن يُعين شيخاً جديداً لا يتعارض مع النظام آنذاك. وذلك من أجل الحفاظ على استقرار البلاد من ناحية، وضمان استمرار المؤسسة الدينية تحت قبضة السلطة من ناحية أُخرى.
واُختيرت شخصية مثيرة للجدل، حيث عُين الدكتور أحمد الطيب شيخاً للأزهر. وكان عضواً في لجنة السياسات التابعة للحزب الوطني الذي كان يرأسها نجل مبارك، الأمر الذي جلب عليه كثيراً من الانتقادات، ولكنه سرعان ما استقال من الحزب الوطني.
واختار الطيب أن يُكمل مسيرة شيخ الأزهر السابق طنطاوي، وأن يسير على نهجه في المسائل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وأظهر الطيب نفسه بنهج رزين وتوافقي، الأمر الذي جلب له مزيدًا من الاحترام من داخل المؤسسة وخارجها.
وبدأ الطيب مسيرته بدعوى إصلاح المناهج الدراسية للأزهر. كما أنه بدأ عملية إصلاح شاملة للإدارة الأزهرية. وبدأ في الاستغناء عن الأذرع التقليدية للمؤسسة، وأدار كثيراً من الأمور من مكتبه الخاص. الأمر الذي أزعج كثيراً من الهيئات داخل الأزهر.
وبعد فترة وجيزة من توليته منصب شيخ الأزهر تصاعدت التظاهرات التي أدت في النهاية إلى نزع رأس النظام الذي عينه في منصبه. فكان لابد أن يتعامل بشكل حذر مع التحدي الذي تمثله الثورة آنذاك. فدخل هو والأزهر عهداً جديداً؛ عهد الثورة، التي ربما لم يكن مشاركاً فيها بالقدر الكافي، ولكنه لعب دوراً أكثر أهمية في الحياة السياسية في فترة ما بعد الثورة.
- ناثان ج. براون، الأزهر في حقبة ما بعد الثورة، مؤسسة كارنيغي للشرق الأوسط، سبتمبر 2011، لبنان. ص 4.
- المصدر نفسه ص 6.