آيات الله العظمى: خصوصية إيران بين الدين والسياسة
خصوصية التجربة الإسلامية الإيرانية
كان الفرس منذ فجر الإسلام مملكة تُتاخم جزيرة العرب، والتي لعبت بدورها دورًا هامًا في المجال الحيوي لدولة الإسلام التي سعى النبي محمد وخلفاؤه لإقامتها، فاتجهوا إلى العراق وغيرها من البلدان التي شكّلت رقعة الدولة الفارسية، والتي تداعت أمام زحف الجيوش الإسلامية حتى سقطت، وأصبحت مملكة فارس جزءًا من الدولة الإسلامية. والإسلام في أيامه الأولى -خصوصًا في الفتوحات الحربية- كان يتبعه «تعريب» لأهل البلد، كما حدث في مصر والعراق والشام، إلا إيران وأقاليمها، لم ترضَ من الإسلام إلا الدين.
ومن هنا وُلدت خصوصية التجربة الإيرانية في قلب الدولة الإسلامية، كونها دولة مسلمة ولكنها ليست عربية، ولعب الفرس عمومًا في أيام الإسلام الأولى دورًا كبيرًا في تأجيج «الشعوبية» التي وصمت المجتمعات الإسلامية آنذاك، فكثير منهم ظل متأثرًا بأديان آبائه الزرداشتية والمانوية والمزدكية على اختلافها، ومنهم من نقل من أدب ملوك الفرس وحكمهم وحكمتهم، وأدخلها إلى الثقافة الإسلامية اعتزازًا بها، وظل محتفظًا بهويته الفارسية كإيران وأقاليمها.
ومنذ عام 22هـ (السنة الأخيرة في الحملات الإسلامية على فارس)، وحتى أعلن إسماعيل الصفوي نفسه شاهاً عام 905هـ، شهدت إيران بعد الحكم الأموي، وفي العصر الثاني من العهد العباسي مجموعة كبيرة من حكم الدويلات المستقلة، أو دول الأطراف كما عُرفت في عصر الضعف للدولة العباسية، حتى جاء «إسماعيل الصفوي» وزاد من خصوصية التجربة الإيرانية في قلب العالم الإسلامي بقيام دولة الصفويين، واتخاذ المذهب الشيعي مذهبًا رسميًا للدولة، تقوم على أساسه دولة مركزية ذات مرجعية أيديولوجية شيعية تساعد الشاه على تجييش سكانها، في وجه الدولة السنية التي تنازعها في ذاك الوقت، والمتمثلة في دولة العثمانيين.
ويذهب الكثير من القوميين الإيرانيين لاعتبار الدولة الصفوية هي ميلاد الوحدة السياسية التي أصبحت فيما بعد الأساس التاريخي للدولة القومية الإيرانية.
ربطت الدولة الصفوية نفسها منذ البداية بالدين تظاهرًا أمام الشعب، فما كان يقوم به الشاه إسماعيل من مسيرة على الأقدام من «أصفهان» حتى «مشهد» لزيارة ضريح الإمام الرضا، وتسمية نفسه «كلب عتبة علي» والذي كان يظهر على خاتمه الرسمي، وقيامه على المزارات والأضرحة، والحملات على أهل السنة لحملهم على التشيع (2)، جعل من ظاهر الدولة أنها دولة دينية تتفانى في سنّ شوكة شيعة علي وآل بيت النبي، بعد قرون من «التقية» والضعف والتقهقر.
دولة «الحوزة»
لطالما كانت «مرجعية التقليد» هي السمة الأساسية للمذهب الشيعي الاثنا عشري والذي يتمذهب به الشيعة في إيران والعراق، والمرجعية تلك هي التي تتمثل حية في شخص المرجع الديني أو «آية الله العظمى»، وهو لقب لخصوصيته لا يمكن أن يحوزه أكثر من خمسة أشخاص في آن واحد، كما أنه وفقًا لدستور عام 1906 في إيران لا يمكن القبض على «آية الله العظمى» (3)، ولطالما شكّلت مرجعية التقليد دولة موازية للدولة، ومستقلة عنها في آن واحد، وكانت على الدوام ملجأً للعوام من الشعب المتدين، خصوصًا حينما تزداد وطأة النفوذ الأجنبي والتدخل الخارجي، أو ضعف النظام الشاهنشاهي.
والفارق الأساسي الذي يشكّل استقلالية «الحوزة» وعلماؤها -وهي الحلقة العلمية التي يعقدها العالم حالما تحصل على لقب «حجة الله»- عن الإمام والشيخ في الدولة السنية، هي أن الحكومة تتلقى الهبات المالية والزكاة والضرائب وخلافه من الشعب، ثم تدفع للأئمة والشيوخ باعتبارهم موظفين في الدولة، أما رجال الدين الشيعة فهم يتلقون نصيبهم من الناس مباشرة في أيديهم، وينفقونه على خدمة المساجد وأوجه التقوى والصلاح المختلفة، وبتلك الطريقة يستحوذ عالم الدين على خمس دخل المريدين لحوزته، وهو ما شكّل استقلالاً من الناحية المادية لرجال الدين عن الحكومة، تبعه أيضًا استقلال ونفوذ سياسي في بعض الأحيان.
وفي عام 1925 حاول الشاه رضا بلهوي أن يجعل ذلك النظام مماثلاً للنظام السني، وهو ما قوبل بسخط كبير، جعل الشاه يعدل عن فكرته، ففي إيران قد يخدع الإنسان جامع الضرائب، ولكنه لا يستطيع أن يخدع الإمام أو نائب الإمام. (4)
ولذلك شكّلت مدينة «قم» المقدسة، باعتبارها مدينة الحوزات الكبرى، ومدينة آيات الله العظام، غصة في حلق شاهات إيران وحُكّامها على مر التاريخ، فطالما وقفت موقف المعارض للعديد من المشاريع التي يتبيّن فيها النفوذ الغربي أو التوجهات العلمانية.
ثورة التبغ
في عام 1890 وقع صدام تاريخي في علاقة المؤسسة الدينية والسياسة في إيران، دلّل على قوة الكلمات التي تَخُطها يد «آية الله العظمى» في وجه الشاه.
وقّع الشاه ناصر الدين امتيازًا مع إحدى الشركات البريطانية، بموجبه يحق لها استثمار التبغ خمسين عامًا مقابل 15 ألف جنيه إسترليني للحكومة الإيرانية وربع الأرباح السنوية للشركة.
وفي أعقاب شراء الشركة للمحصول بأسعار بخسة، وبيعه بأسعار باهظة، نقم الفلاحون والمزارعون وغضبت الجماهير ومزقوا إعلانات الشركة ومنعوا الأجانب من دخول مدينة تبريز. وفي شيزار (مدينة التبغ الرئيسية)، قام الفقهاء بالدعوة إلى مقاومة امتياز التبغ، وكتب العلماء في مدينة طهران رسالة مُفصَّلة بالأوضاع إلى الميرزا الشيرازي، وهو المرجع الأكبر، وكان يقيم في تلك الآونة في سامراء بالعراق.
أبرق الميرزا الشيرازي إلى الشاه ناصر الدين آمره بالحذر من أن يستمر في العمل على إجحاف حقوق المسلمين بتلك الاتفاقية، ولم يستطع الشاه إقناع الميرزا بتغيير رأيه بعد أن أرسل له سفيرًا، وتبعًا لاستمرار الموقف وتطوراته، أصدر الميرزا فتواه الشهيرة:
عملت تلك الفتوى في الشعب عمل النار في الهشيم، فأُحرقت الغلايين، وأُغلقت الحوانيت التي تبيع التبغ. ويومًا طلب الشاه إحضار غليونه ليدخن، فأجابه الخدم بأنهم حطموه، فسأل كيف يحدث هذا دون استشارته، فما كانت إجابة الخادم إلا:
وأسفر توقف الشعب عن تعاطي الدخان مدة 55 يومًا التزامًا بالفتوى، عن إلغاء الاتفاق وسحب كل امتيازات شركة «تالبوت» في عام 1892. (5)
بعد ثورة التبغ وحتى ثورة 1979، كان لعلاقة رجل الدين والسياسة الكثير من الصور لا مجال لتفصيلها، ولكن يجدر بنا الإشارة إلى عدد من الأسماء التي شكّلت قوة في ثورة دستور 1906.
وأبرز تلك الأسماء تتمثل في السيد «عبد الله البهبهاني» والسيد «محمد الطباطبائي» والملا «كاظم الخراساني» والشيخ «عبد الله المازنداني»، وأبرزهم الشيخ «حسين النائيني» وكتابه (تنبيه الأمة وتنزيه الملة) وفيه يدافع عن مبدأ الدستور وحق مشاركة الأمة في الحكم ومساواتهم مع السلطان في جميع نوعيات المملكة، مالية كانت أو غير مالية، وحقهم في محاسبة الموظفين والمسئولين. (6)
اتركوه… سيقتله مُحبوه
بعد سقوط الشاه، لم ترغب الحكومة والجيش في وجود الخميني في البلاد، وعلى الرغم من ذلك لم يتخذوا إجراءات حقيقية لمنع عودة الخميني إلى طهران، واعتقدوا أن ذلك العجوز الثمانيني الضعيف سيموت مخنوقًا أو مدهوسًا، كونه سيكون مُحاطًا بملايين من محبيه، والذين هتفوا: «الحسين عاد». (7)
شخصية الخميني بلورت العلاقة بين المؤسسة الدينية بالسياسة في شكلها الأخير، على هيئة منصب رسمي مُستحدث في الجمهورية الإسلامية في إيران «ولاية الفقيه»، وهو ينوب عن الإمام الثاني عشر في غيبته، ويرجع له رئيس الدولة ورجال حكومته ويستشيرونه بصفته جامع للأمور الدينية والدنيوية معًا.
وتاريخ الخميني مليء بالأحداث والدلائل على قوة «مرجعية التقليد»، فـ قذائف الخميني النارية على شرائط الكاسيت، في وجه الشاه ورجال الدين المنافقين وسياسة التبعية لأمريكا والصهيونية، وتعطيله مبدأ «التقية» الشيعي مما أدى لبذر بذور الثورة على الشاه.
فالشيعة الاثنا عشرية، يؤمنون بأن الله في كل عصر لا يمكن أن يترك الأرض دون «آية» حتى يعود الإمام الثاني عشر (المهدي)، ولو أن هناك رجلين على الأرض فأحدهما هو «حجة وآية الله» على الرجل الآخر. (8)
ومن ذلك المنطلق جاءت خصوصية التجربة الإيرانية في تمجيد «آيات الله» ورجال الدين بصفة عامة، ونتاجها أن كلمة «آية الله» تباري كلمة الشاه في قوتها.
والخميني يُشكِّل صورة حية لاستقلالية مؤسسة الحوزة ماديًا عن الحكومة، فمن خلال الأموال التي كان يجمعها من مريديه، استطاع الخميني أن ينفق على عتاد ثورته الإعلامي، من شرائط للكاسيت التي توزع داخل إيران، وكاميرات لتصور وتوثق تحركاته وحواراته.
ومن ناحية أخرى، يُشكِّل صورة لتفاني رجال الشيعة في حب رجال الدين. فبعد نجاح الثورة، أُغلقت المطارات الإيرانية خوفًا من عودة الخميني والتفاف الشعب حوله، وقد عاد الخميني على متن طائرة نفاثة من باريس إلى طهران، كانت تلك طائرة أجّرها له أحد رجال البازار الشيعة بما يُقارب 3 ملايين دولار. (9)
والجدير بالذكر أن الخميني قاد نضاله ضد الشاه بوصفه «آية الله» وهنا تتضح صورة أخرى لعلاقة الدين بالسياسة في إيران مرة أخرى، فبوصفه «آية الله» تردد الشاه كثيرًا في اعتقاله في بداية سطوع نجمه، وحينما احتدم الأمر بينهما بعد أحداث يونيو/حزيران 1963 أمر الشاه باعتقال الخميني، وهو ما جعل آيات الله الآخرين يُسارعون في إجازة رسالة الخميني «تحرير الوسيلة» ومنحه لقب «آية الله العظمى»، وهكذا تحولت قضية اعتقاله لقضية حساسة تمس المجتمع، ما وضع الشاه في مأزق، جعله في النهاية يكتفي بنفيه.
ومن سخريات التاريخ، أن الخميني في منفاه بالعراق عام 1977، لم يستطع الشاه على الرغم من اتفاقية تسوية النزاع 1975، أن يقنع صدام حسين باعتقاله، فحينما طلب منه الشاه ذلك، أخبره صدام باستحالة القبض على «آية الله العظمى».
وهو الأمر الذي جعل الخميني فيما بعد، الرجل الذي أطاح برأس الشاه، والذي أنهكت جيوش إيران –باسمه- جيش العراق في حرب راح ضحيتها مليون قتيل، طيلة ثماني سنوات. (10)
- وجيه كوثراني، ” الفقيه والسلطان: جدلية الدين والسياسة في تجربتين تاريخيتين العثمانية والصفوية-القاجارية”، الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015، ص188.
- المرجع السابق، ص158.
- محمد حسنين هيكل، “مدافع آية الله: قصة إيران والثورة”، القاهرة، دار الشروق، 2008، ص112.
- المرجع السابق، ص113.
- فهمي هويدي، “إيران من الداخل”، القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1991، ص71.
- وجيه كوثراني، مرجع سبق ذكره، ص199.
- محمد حسنين هيكل، مرجع سبق ذكره، ص233.
- أحمد أمين، “ظهر الإسلام”، القاهرة: دار الكتب العلمية، 2006، ص802.
- محمد حسنين هيكل، مرجع سبق ذكره، ص231.
- محمد حسنين هيكل، مرجع سبق ذكره، ص186.