أوقاف المصحف الشريف
عندما جُمع القرآن الكريم بين دفتين، اصطلح المسلمون على تسميته المصحف الشريف. ونبعت الحضارة الإسلامية برمتها من بين دفتيه، وتعلقت قلوب المسلمين به على مر الزمن، واعتادوا التصدق بنسخٍ منه، ووضعوها في الجوامع والمساجد والزوايا والتكايا والمدارس والمكتبات العمومية؛ الأمر الذي كان بحد ذاته مظهرًا من مظاهر حفظ الذكر الحكيم كما قال الله تعالى: «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون»، (الحجر: 9).
وتروي كتبُ التاريخ والأدب والتراجم والسِّيرِ أن وقفَ المصحف الشريف قد رافقَ إنشاء المساجد والجوامع في شرق العالم الإسلامي وغربه. وكانت ندرةُ المصاحف في تلك الأزمنة باعثًا قويًا على اقتنائها ووقفها تقربًا إلى الله، تعالى، ورجاءً في نيل رضاه. ولما كان القرآنُ الكريمُ من حيثُ وصفِه الظاهر كتابًا من أوراقٍ مسطورة بين دفتين، نسميه المصحف؛ فإنه يأخذ حكمَ المنقول الذي يمكنُ أن يحوزه الإنسان ويتصرف فيه تصرف المالك فيما يملكه، وقد أجاز فقهاء المذاهب وقف المنقولات من الكتب والسيوف والكراع وما تعامل به الناس وجرت عليه عوائدهم. إلا أن المسلمين تحرَّجوا على مرِّ الزمن من وصف حيازتهم للمصحف بأنها مِلكية، وتحرَّجوا أيضًا من أن يكونَ محلًا للبيع والشراء، أو أن يكونَ له ثمنٌ عند التصرف فيه، فقالوا إن للمصحف وهبةً، أو عوضًا رمزيًا؛ لأن تقدير ثمن كتاب الله متعذرٌ على وجه الحقيقة، بخلاف غيره من الأشياء التي تدخلُ ضمن ملكية الإنسانِ وتصرفه.
وقد كانت «صورة المصحف الشريف هي المثال الأعلى للفن في علم الجمال الإسلامي» كما يقول صديقنا العلامة العراقي الدكتور إدهام محمد حنش، ويقول أيضًا إن المصحف هو:
وأنا رأيتُ في خزانة حجج الأوقاف المصرية بديوان الوزارة في باب اللوق بعض حجج أوقاف محمد علي باشا مكتوبة بخطوط لها رسم كتابة المصحف الشريف.
ومن بواكير أوقاف المصحف ما رواه المقريزي في «المواعظ والاعتبار» وهو:
ونقل المقريزي في خططه أيضًا خبرًا عن وقف مصحف عثمان بن عفان – رضيَ الله عنه – في جامع عمرو بن العاص في سنة 347هـ. وحاصلُ الخبر هو: أنَّ رجلًا أحضرَ مصحفًا من العراق، وقال: إنه مصحفُ عثمان بن عفان. وكان فيه أثرُ دمٍ، وقال الرجل «استخرجته من خزائن المقتدر بالله العباسي»، ووقفَه في جامع عمرو بن العاص. وقد نقل المقريزي ما قالَ إنه رآه مكتوبًا على ظهر هذا المصحف ونصُّه هو:
وقبل ذلك، وفي سنة 298هـ، وقفَ عبدالمنعم بن أحمد ثلاثينَ جزءًا من المصحف في الجامع الأموي في دمشق. ويقول الأستاذ يوسف العش إنه: «لا يزال جزءٌ منه محفوظًا حتى اليوم في المتحف الوطني السوري». وروي المقَّري التلمساني: أن أبا عبدالله محمد بن إبراهيم اليَقُّوري «قدم إلى مصر ومعه مصحفُ قرآنٍ، حِمْلُ بغلٍ، بعثه ملك المغرب ليوقفه بمكة، ثم عاد بعد حجِّه، ومات بمراكش سنة 707هـ»[2].
ويذكر يحيى الساعاتي مؤلف كتاب «الوقف وبنية المكتبة العربية»، أنه قرأ نصًا مكتوبًا على جزءٍ من القرآن الكريم موقوفٌ على الجامع الكبير بصنعاء وهذا النص هو:
وقد اعتنى سلاطين آل عثمان بوقف المصاحف في المساجد التي شيدوها، وفي التكايا والمدارس التي أُلحقت بها أيضًا. ومن ذلك ما وردَ في حجة وقف السلطان سليمان القانوني بشأن التكية السليمانية في دمشق، وهو: «أن يُرتَّب رجلٌ موصوف بالأمانة، معروفٌ بحسن الديانة لحفظ المصاحف الشريفة الموضوعة هناك من المواضع المنيفة، ويعطى له كل يوم درهمان»[3].
وحرص بعضُ المحسنين أثناء قيامهم بأداء الحج أو العمرة على إحضار مصاحف من بلاد الحرمين الشريفين ووقفها على مساجد بلدانِهم التي ينتمون إليها. وحرص آخرون على نسخها وإهدائها للوجهاء، والقادة ورؤساء القبائل، ومن ذلك أن ملوك مملكة سِنَّار (بالسودان حاليًا) نسخوا مصحفًا وأهدوه لأسرة العبابسة بمنقطة التكاكتي (بمعنى: الأبواب) وهي من بلاد البجا شرق السودان[4].
وعلى هذا النحو؛ انتشرت أوقاف المصاحف في شتى أصقاع البلدان الإسلامية، واستمرَّ وقفُها في مختلف الأزمنةِ. ولا يزال وقف المصحف في مكتبات الجوامع والمساجد والزوايا شاهدًا على ذلك، منذ كان أولُ وقف للمصحف. وكل ما حدثَ هو أن مرورَ الزمن قد غيَّرَ شيئًا ما من صيغ وقفِ المصحف وصوره؛ فعوضًا عن وقفه في صورة مخطوط، بات وقفه في صورة مطبوع، مع كتابة نص يفيد وقفه لله، تعالى، أو جملة قصيرة تفيد ذلك، أو حتى بمجرد وضعِه في مكتبة المسجد أو الجامع دون كتابة نصٍ ما يفيدُ وقفه؛ إذ يصبح المصحف وقفًا بحسب النية دون حاجة إلى دليل إثبات آخر.
لقد كان الوقف، ولا يزال، الوسيلة الأساسية لتوفير المصحف لكلِّ من يرغب في القراءة والحفظ والتعلم على مرِّ الزمن. ولما كان المصحف هو المصدر الأول والأعلى للعلم والمعرفة في تاريخ الحضارة الإسلامية؛ فإن إتاحته للجميع ومجانًا في أغلب الحالات على هذا النحو؛ تعني أن نظامَ الوقف قد أسهم بدور رئيسي في نشر العلم وبناء مجتمع المعرفة، ليس عن طريق إتاحة المصاحف وتمويل العلوم والمعارف التي نشأت حول المصحف وحده، وإنما أيضًا عن طريق إتاحة بقية مصادر العلوم الأخرى، وتيسير الحصول عليها دون قيود تُذكر.
ولعلنا ندرك القيمة الحضارية لذلك إذا قارنّا ما كان يحدث في أوروبا في عصورها الوسطى، وهي التي تقابلها عصور الازدهار الحضاري الإسلامي؛ إذ كان الحصول على جزء من «الكتاب المقدس» أمرًا بعيد المنال، لارتفاع ثمنه من جهة، ولصدور قرارات كنسية تحرم اقتناءَه على غير رجال الكنيسة. وقد أكد المؤرخ الأمريكي المشتهر ويل ديورانت، على ذلك في قوله: «وحرم مجلس من مجالس الكنيسة عُقد في نَرْبُونة سنة 1227م على غير رجال الدين أن يكون لديهم جزء من الكتب المقدسة». وبقية قصة احتكار الكنيسة للعلم والمعرفة، ومحاربتها للعلماء ومحاكمتهم وحرق كتبهم بموجب محاكم التفتيش معلومة ومشينة إلى أبعد مدى، وحسبنا قول ول ديورانت أيضًا: «وأدى ارتفاع أثمان الكتب، وقلة الأموال اللازمة لإنشاء المدارس إلى انتشار الأمية، إلى حد لو أنه وجد في بلاد اليونان أو الرومان والأقدمين لجللهم بالعار»[5].
وتشيرُ أغلب فهارس المكتبات الوقفية إلى أن المصاحف الموقوفة تشكلُ قسمًا رئيسيًا من أغلب تلك المكتبات، وأن هذا القسم هو الأول بين بقية الأقسام. ومن ذلك مثلًا: مكتبة المسجد الأحمدي بمدينة طنطا، وهي تحتوي ألفين ومائتين وواحدًا وسبعين كتابًا في خمسة وعشرين فنًا من فنون العلم والمعرفة، وهذه الكتب، المطبوع منها والمخطوط، عبارة عن وقفيات كان يقفُها أصحابها على طلاب العلم في المسجد الأحمدي، ومعظمها مجلد تجليدًا جيدًا، ومرتبة تريبًا لا بأس به. والقسم الأول منها هو قسم المصاحف، ومنها مصحف كبير ، وقف محمد سعدي البدوي بن إسماعيل حقي بن محمد بن إبراهيم بن عبد الله، وخطه نسخ جميل، مُذهَّب، في كل صفحة ثلاثة أسطر كبيرة، غير الأخرى الصغيرة، وهو في 618 صفحة، مقاس 35×25[6].
وإلى جانب وقفِ المصحف الشريف، دخل الناس أفواجًا في وقف ما لديهم من الكتبِ ومخطوطاتها في مختلف فروع العلم والمعرفة. ويدلُّ تاريخ حضارتنا الإسلامية على أن خزائنَ الجوامع والمدارس والزوايا ودور العلم والتكايا والأربطة والبيمارستانات قد حفظت ثروةً هائلة من الكتب الموقوفة في علوم: الحديث والتفسير والفقه، ومدونات الأدب والتاريخ، وكتب الطب، والكيمياء، والرياضيات، والبيطرة، والصيدلة، وكتب الصنائع والفنون الجميلة، ما بين مخطوطٍ أصلي، ومنسوخٍ منقول، ومطبوعٍ منشور.
- المقريزي، (ت845هـ)، كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، نشرة: أيمن فؤاد سيد ــ لندن: مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي،2013م، ج4/30ـ31.
- أحمد بن المقري التلمساني، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق إحسان عباس. بيروت: دار صادر، الطبعة السادسة، 1433هـ/ 2012م) ج2/ ص53.
- [3]: جعفر الحسني، التكية السليمانية في دمشق، مجلة المجمع العلمي العربي ـ دمشق ـ الجزء الثاني ـ المجلد الحادي والثلاثون . 19 شعبان 1357هـ/ 1 نيسان 1956م. ص441..
- الفاتح بشير الوسيلة، دور الوقف في جذب الطلاب الوافدين في مملكة الفونج الإسلامية. مؤتمر "سنار: عاصة الثقافة الإسلامية" ــ الخرطوم:27، و28 سبتمبر 2017م.، ص463.
- قصة الحضارة،ج9/ص13.
- علي سامي النشار (وآخرون)، فهرس مخطوطات المسجد الأحمدي بطنطا(الإسكندرية: مطبعة جامعة الإسكندرية، 1964م، ص3، وص5.