أوقاف «الحاج» محمد علي باشا
لا تستغرب لقب «الحاج» الذي يسبق اسم محمد علي باشا في عنوان هذا المقال؛ ذلك لأنه أحدُ ألقابه التي تضمنتها الوثائق الرسمية التي ترجع إلى فترة حكمه لمصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ومنها حجج وقفياته ووثائقها ومستنداتها. وإلى جانب محمد علي، حملَ هذا اللقب اثنان من حكام مصر من أسرته، وهما ابنه إبراهيم باشا، وحفيده عباس باشا الأول. ورغم ورود لقب «الحاج» في تلك الوثائق الرسمية، فإن الدراسات التاريخية التي تناولت حياتهم وأعمالهم لم تكترث بتحليل هذا اللقب المستمد من المرجعية الثقافية الإسلامية، والمستمد أيضاً من عادات المصريين وتقاليدهم. ولم تتساءل تلك الدراسات: هل كان إضفاء لقب «الحاج» طواعية وعن استحقاق؟ أم جبرياً لتحصيل شرعية دينية لدى المصريين؟ أم هو من باب التشريف والرغبة فيما عند هؤلاء الحكام والقرب منهم؟
المصريون -وشعوب الأمة الإسلامية في أغلبهم- يطلقون هذا اللقب عرفاً على كل من أدى فريضة الحج إلى بيت الله الحرام؛ من باب التوقير والاحترام والتشريف والاعتراف بمكانته؛ المفترض أنه اكتسب بالحج جانباً منها. وقد يطلقونه من باب الرغبة والتقرب من هذا «الحاج» والتماس شيء من عنده. وقد يحج المرء دون أن يكتسب لقب «حاج» عند المحيطين به، أو عند أغلبيتهم أو بعضهم؛ إن وجدوا سبباً يدعوهم إلى ذلك.
ولكن إطلاقهم لقب «الحاج» على واحد من طبقة الحكام يختلف عن إطلاقه على غيرهم من الفئات الاجتماعية الأخرى. ويغلب على الظن أن ألقاب الحُكَّام، وفيها لقب «الحاج»، حمالةُ أوجه كثيرة، ويصعب التحقق من كنهها أو التعرف على مطابقتها لواقع أحوال هذا الحاكم أو ذاك. وكان لقب الحاج في عصر المماليك يُطلق على مقدمي الدولة، وأرباب البيوت، وأمثالهم (حسن الباشا، الألقاب الإسلامية في التاريخ والوثائق والآثار، القاهرة: الدار الفنية للنشر والتوزيع، 1409هـ/ 1989م ص252).
ولا يحتمل لقب «الحاج» أكثر من المعاني المشار إليها، ولكن بعض المتنطعين أثاروا السؤال: هل يجوز إطلاق لقب الحاج على من أدى الفريضة؟، فأجابهم الشيخ ابن باز في فتواه رقم 17797 أن «الأولى ترك مناداة من حج بالحاج لأن أداء الواجبات الشرعية لا يمنح أسماءً وألقاباً، بل ثواباً من الله تعالى لمن تقبل منه ويجب على المسلم ألا تتعلق نفسه بمثل هذه الأشياء». وأيما كان الأمر، ولأغراض الكتابة عن وقفيات حكام مصر من أسرة محمد علي، سوف نلتزم وصف كل من: محمد علي باشا، وإبراهيم باشا، وعباس باشا، بأنه (الحاج) طبقاً لما هو مثبت في حجج وقفياتهم.
أول المسائل التي يتعذر الحديث عن وقفيات محمد علي باشا قبل حلها هي: هل كان محمد علي ضد نظام الوقف، وأنه قضى على هذا النظام وقوض أركانه، وأنه استولى على أوقاف الأزهر تحديداً بهدف إضعافه؟
لقد شاع –خطأً- في أغلب الدراسات التي تناولت تاريخ مصر الحديث والمعاصر أن محمد علي اتخذ إجراءات صارمة ضد الأوقاف بعامة، وأنه صادر أوقاف الأزهر بخاصة، ليقضي على استقلاليته، وأنه كان مقتنعاً بعدم جدوى نظام الوقف برمته؛ لأنه من النظم القديمة الموروثة التي لا تتناسب مع النظم الحديثة، التي رأى أنها هي الكفيلة بتحقيق نهضة مصر وبناء دولة عصرية قوية.
واستندت بعض تلك الدراسات إلى قراءة متسرعة لقول محمد علي للأعيان والمشايخ الذين اجتمع بهم في القلعة لمناقشة موضوع الأوقاف وهو: «الذي لا يستطيع منكم أن يثبت صحة الوقف فليرفع يده»، وقد فهم صاحب تلك القراءة المتسرعة أن محمد علي قصد تهديد الحاضرين بقوله «فليرفع يده» بمعنى فليعرفني نفسه الآن برفع يده لأعلى، فلم يجرؤ أحد على رفع يده بهذا المعنى! وهذا الفهم متسرع كما قلنا؛ إذ القصد من قول محمد علي «فليرفع يده»، هو: أن على من لا يستطيع إثبات صحة وقفه، عليه أن يتخلى عنه ويسلمه لجهة الميري؛ فمعنى «رفع اليد» هنا مقابل لمعنى «وضع اليد»، وهذان مفهومان قانونيان معروفان في مسائل الملكية. وفي تحرير مسألة موقف محمد علي من الأوقاف توجد ثلاث حقائق تاريخية غير قابلة للدحض:
- أولها: أن إجراءات محمد علي التي استهدفت حل الأوقاف في العقد الأول من حكمه، لم تشمل الأوقاف المصرية جميعها، بل اقتصرت على «الأوقاف غير الصحيحة» في الأراضي الخراجية وحدها؛ وتلك الأوقاف هي التي ألغاها ضمن إجراءات إلغائه نظام “الالتزام”، أما بقية الأوقاف في الأراضي العشورية وفي العقارات المبنية فلم يمسسها بسوء. وقد كشف مسح الأراضي الذي نفذه محمد علي في عام 1812م، عن أن مساحة الأراضي الموقوفة كان قد بلغ 600.000 فدان، أي ما يزيد قليلاً عن خمس الأراضي الزراعية البالغة آنذاك 2.500.000 فدان طبقاً لما أورده الجبرتي في تاريخه.
- ثانيها: أن أمر محمد علي بمنع إنشاء الأوقاف قد صدر في عام 1262هــ/1846م؛ أي في العقد الأخير من حكمه مصر، وقبل أربع سنوات فقط من انتهاء عهده، وقد جاء إجراء المنع بعد أن استفتى مفتي الحنفية بالإسكندرية الشيخ محمد الجزائرلي، الذي أفتاه بجواز منع إنشاء وقفيات جديدة «من باب سد الذرائع إلى الفساد، وسوء استخدام بعض الناس للوقف. ورغم أن أمر المنع صدر عاماً شاملاً لكل وقف ولأي عين عقاراً كان أو أرضاً زراعية، ومن أي إنسان في مصر؛ إلا أن المنع لم ينفذ إلا في الأراضي العشورية، وبقي جارياً على ما كان عليه في الدور والحوانيت والوكالات. ولم يمضِ وقت طويل حتى عاد الوقف من جديد في الأراضي العشورية في مستهل عهد الحاج عباس باشا الأول».
- ثالثها: أن عهد محمد علي شهد تراجعاً في المساحة الإجمالية للأوقاف في الأراضي الزراعية، وذلك بسبب التغييرات والإصلاحات الكثيرة التي أدخلها على نظام ملكية الأرض، وإخفاق أرباب أوقاف الأراضي الخراجية في إثبات صحتها. ورغم قيامه بإعادة توزيع الأراضي الزراعية مرتين: مرة في عامي 1820م، و1821م، ومرة أخرى في عام 1844، فإن ملكيتها لم يصبها أي تغيير، وظلت ملكاً للدولة وخاضعة لضريبة الخراج، وليس للفلاحين فيها سوى حق الانتفاع، وهو أمر حال دون التصرف فيها بالوقف لأسباب فقهية واقتصادية واجتماعية.
وقد أفضى بنا البحث في حجج الأوقاف التي نشأت في تاريخ مصر الحديث والمعاصر إلى اكتشاف خمس وقفيات كبرى أنشأها محمد علي نفسه. ولم يسبقنا أحد في اكتشاف تلك الوقفيات الخمس التي تحتفظ وزارة الأوقاف في سجلاتها ومحفوظاتها بأصول حججها ووثائقها ومستنداتها. وسنتناول كلاً منها بالتفصيل فيما بعد، أما هنا فالبيانات الأساسية لهذه الوقفيات الخمس هي كالآتي:
- وقفية جزيرة طاشيوز، وهي واقعة في البحر الأبيض المتوسط قبالة الساحل اليوناني، ومساحتها حوالي 50 كيلومتراً مربعاً. وحجة هذه الوقفية محررة أمام محكمة الديوان العالي بمصر، بتاريخ 25 جمادى الآخرة 1228هــ/ 25 يونيو 1813م.
- وقفية مكتب تحفيظ القرآن، قرب المدرسة والكتبخانة اللتين وقفهما محمد علي في مسقط رأسه بمدينة «قوله». وحجة هذه الوقفية محررة أمام ديوان الشرع الشريف بدار السلطنة العلية بإسطنبول بتاريخ 12 ربيع الآخر 1232هــ/ 1 مارس 1817م.
- وقفية أخرى على مكتب وكتبخانة ومدرسة «قوله»، وهي عبارة عن «جفلك كفر الشيخ»، ومساحته قدرها 8 أسهم، و16 قيراطاً، و10742 فداناً من الأراضي الزراعية. وحجة هذه الوقفية محررة أمام محكمة الديوان العالي بمصر، بتاريخ 15 شوال 1259هـ/ 8 نوفمبر 1843م.
- وقفية تكية مكة المكرمة، وتكية المدينة المنورة، وهي عبارة عن الأراضي الزراعية لقريتين من قرى مديرية الغربية بمصر. مساحة القرية الأولى 8 أسهم، و6 قراريط، و1236 فداناً. ومساحة القرية الثانية 19 قيراطاً، و740 فداناً. وحجة هذه الوقفية محررة أمام محكمة الديوان العالي بتاريخ 20 صفر 1260هـ/11 مارس 1844م.
- وقفية أخرى على مكتب وكتبخانة ومدرسة «قوله»، وهي عبارة عن مكانين بمشتملاتهما من المساكن والاصطبلات والجناين والأشجار بمدينة قوله. وحجة هذه الوقفية محررة أمام محكمة الديوان العالي بمصر بتاريخ 5 جمادى الآخرة 1260هــ/ 22 يونيو 1844م.
وقد جرت تصرفات كثيرة على تلك الوقفيات، وهي موثقة بمستندات محفوظة في ملف التولية الخاص بها. ومن تلك التصرفات: الضم، والإلحاق، والبدل، والاستبدال من أصول الوقفيات، عيناً ونقداً. وبعد قيام ثورة يوليو 1952م بيعت مساحات مختلفة من تلك الموقوفات بالمزاد العلني، ولا تزال التصرفات جارية على أعيان وقفيات قوله، ووقفيات تكيتي مكة والمدينة تجري حتى اليوم. وسنأتي على مزيد من تفاصيل تلك التصرفات في موضع آخر.
لقد ثبت لدينا بالدليل التاريخي القطعي: أن مؤسس مصر الحديثة محمد علي باشا لم يكن معادياً للأوقاف، ولا منكراً لأهميتها، ولا منتهكاً لحرمتها. وما حدث هو أنه سعى لأجل تنظيمها وضبط أدائها وتخليصها من الفوضى التي كانت تعاني منها قبل أن يصبح والياً على مصر في سنة 1220هــ/1805م.
كما ثبت لدينا بالدليل التاريخي القطعي أيضاً أن محمد علي حافظ على عادة الوقف ولم يبطلها، وأنه كان مدركاً لأهية نظام الوقف ومؤسساته في بناء مجال تعاوني مشترك بين المجتمع والدولة، ولهذا سعى لتنظيمها وتحديث إدارتها بإنشاء ديوان لها في عام 1251هــ/ 1835م تحت اسم «ديوان عمومي للأوقاف». وأصدر بتاريخ 8 ذي الحجة لائحة لتنظيم شئون هذا الديوان بعنوان «لائحة ترتيب عملية الأوقاف بالثغور والبنادر». ولكنه سرعان ما ألغى ذلك الديوان في عام 1254هـ/1838م؛ أي بعد ثلاث سنوات فقط من نشأته. وثمة كثير من الغموض حول السبب أو الأسباب التي جعلته يعجل بإلغائه، ولا يرفع هذا الغموض ما قاله حفيده عباس باشا الأول، وهو أن سبب الإلغاء أن الباشا «لم يجنِ منه ثمرة»؟؛ إذ ما عساها تكون تلك الثمرة التي كان يتعجلها ولم يصطبر عليها أكثر من ثلاث سنوات؟
وتفيد المعلومات المتوافرة عن «ديوان عمومي الأوقاف» الذي أنشأه «محمد علي» أن إنجازاته تركزت في ناحيتين هما: وضع دفاتر سجلات تتضمن قوائم بأسماء بعض الأوقاف الخيرية وحساباتها عن سنوات 1250، و1251، و1252هــ، وإنشاء قسم لمحاسبة نظار تلك الأوقاف، وخصوصاً أوقاف الأمراء والسلاطين السابقين. وسنوالي الحديث عن الأوقاف الخمسة التي أنشأها محمد علي باشا، ونتعرف على أهم التطورات التي لحقت بها، ودورها الذي أسهمت به في بناء مصر الحديثة، ثم نوضح المآلات التي آلت إليها.