الدولة الحديثة والسيطرة على الأوقاف
رأينا في المقال السابق كيف أسهم النظام الوقفي في ازدهار الحضارة الإسلامية، حيث اتكأ على ميراث فقهي ناضج أطّر العلاقة بين الوقف والموقوف عليهم، طبقًا لنصوص الشارع والواقف، وعملاً بمبدأ المصلحة العامة، ما عزّز من مكانة الأمة والمجتمع مقارنة بالطبقة الحاكمة/الدولة التي ساهمت هي الأخرى من خلال «أوقاف الإرصاد» في مسيرة هذه النهضة.
تغيّر بنية الدولة الإسلامية
لقد سار النظام السياسي في الدولة الإسلامية بمختلف أسرها الحاكمة جنبا إلى جانب الأمة ومنتوجها الحضاري، فلم تعرف الحضارة الإسلامية معنى الدولة الحديثة المسيطرة بأذرعها الإعلامية والاقتصادية والأمنية والسياسية والفكرية على كل شيء في المجتمع، وفي المقابل لا يُعقل أن نقول إن تلك الأنظمة السياسية في تاريخ التجربة الإسلامية كانت بمنأى عن المجتمع بالكلية، وهي التي تحكمه وتسهر على خدمته، لكن هذه الرعاية غالبًا ما كانت قرينة العمل الأمني والعسكري بمعنى وظيفة الحماية والرعاية، ويكفينا أن جل من كتبوا في تاريخ تطور الدولة الإسلامية منذ أبي يوسف تلميذ أبي حنيفة في القرن الثاني الهجري مرورًا بالماوردي والجويني والغزالي ونهاية بابن خلدون وابن الأزرق في القرن التاسع الهجري، وحتى الكتابات السياسية في الحقبة العثمانية المتأخرة ما بين القرن العاشر وبدايات الثالث عشر الهجري لم تختلف كثيرًا عن المضامين التي طُرحت في تاريخ التراث السياسي الإسلامي المتعلق بمعنى حماية الدين وإقامته/«حفظ البيضة»[1]، بدليل بقاء المجتمعات الإسلامية على مزية الحماية والحرية الحضارية التي تمتّع بها في تناغم لافت بين الأمرين، ودون تداخل أو سيطرة طرف على الآخر طيلة تلك الفترة التي امتدت لاثنتي عشرة قرناً!
على أن المجتمع الإسلامي –طبقة العامة كما في التراث التاريخي والفقهي– غالباً ما أَعطى زمام قيادته إلى فئة العلماء/رجال الدين لحماية تلك المكتسبات الحضارية، ولتكون المعبّر عن مطالبه في طبقة السلطة الحاكمة، فراوحت هذه الفئة مكانها بين السلطة السياسية/الحكومات وبين جماهير الناس، وشيئًا فشيئًا تمكنت هذه الفئة في إيجاد المكان المناسب لها بين السياسي والاجتماعي، ففي حين كان السلطان الأيوبي والمملوكي -على سبيل المثال- يبتّان في الأمور السياسية والعسكرية والعلاقات الدولية من ديوان الحكم في القلعة، كان الفقيه/القاضي يحكم في القضايا الشرعية التي اشتملت على كل شيء وأصغر شيء في المجتمع بما في ذلك السماح ببناء جدار على قارعة طريق من عدمه، وذلك في المحاكم التي انتشرت في طول البلاد وعرضها، بل من اللافت أن نجد أن مصطلح «الحاكم» أو «نائب الحكم» أُطلِق في تلك الحقبة على القاضي ونائبه [2]!
وقد كان الإشراف على الأوقاف من مهمة القاضي/العالِم في تاريخ الحضارة الإسلامية، وليس من مُهمّات الطبقة السياسية الحاكمة من الأمراء ورجال السيف، وصار من المعتاد أن تقرأ في مصادر التاريخ الإسلامي الوسيط هذه الجملة: «ولاَّه قضاء الديار المصرية وضم إليهِ نظر الأوقَاف»[3].
واستمر القُضاة/الفقهاء على دربهم في إدارة/النظر على الأوقاف وحمايتها من استغلال السلطة السياسية لها، منذ الدولة العباسية وحتى الدولة العثمانية، حتى سقطت الأندلس، وكان مع سقوطها وبزوغ نجم القوميات الأوربية المشبعة بسكرة حماسة الانتصار على المسلمين في الأندلس، والانعتاق من قبضة الكنيسة منذ عصر النهضة فالتنوير فالثورة الصناعية، واكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، والالتفاف الأوربي على العالم الإسلامي في شكله التجاري التقليدي ثم الشركاتي عقب ذلك ثم الاحتلال المباشر أعظم الأثر في تغير بنية الدولة الإسلامية من الثنائية المتناغمة الدولة/الأمة إلى الدولة المركزية/الإله المتحكمة في كل شيء.
سيطرة الدولة على الأوقاف
كانت أصوات المدافع في موقعة الأهرام سنة 1798م بين المماليك والفرنسيين بقيادة نابليون بونابرت إيذانًا بانفجار فكري أضخم وأكثر إيلامًا؛ لقد أطلّ العالم الحديث برأسه في قلب العالم الإسلامي مصر، صحيح أن الثورة المصرية التي ظلّت متّقدة طيلة الاحتلال الفرنسي لمصر، والتي أرغمتهم على الرحيل مع التهديدات الانجليزية المؤثّرة لهم في البحر المتوسط قد فعلت فعلها في ذلك الطرد، بيد أن مجيء محمد علي منذ 1805م إلى مصر وطوال فترة حكمه التي استمرّت إلى سنة 1848م، وقضائه على مقومات البنية التقليدية للمجتمع الإسلامي حيث احتكار السلطة، وسحب السلاح من عامة الناس، والسيطرة على الأزهر، والقضاء على طبقة العلماء المؤثّرين، وتغلغل هذه المركزية في مفاصل المجتمع على المستوى الصناعي والزراعي والخدمي، وظهور الفرمانات/قوانين السلطة بشكلها الحداثي المتتابعة والمتعلّقة بأشكال السيطرة والتأثير والتحكم كل هذا غيّر من تركيبة الدولة والمجتمع تغيّرًا جذريًا!
لقد أحاط محمد علي نفسه بزمرة من المستشارين الغربيين والفرنسيين بصورة خاصة، هذه الإحاطة إنما كانت إيذانًا بتضعضع قيمة طبقة العلماء من وجهة نظر السُلطة بل وقيمة المجتمع المدني ذاته، فمع سُلطة احتكرت السلاح، وكرّست البيروقراطية في خدمة الوالي، وجنّدت لأول مصر المصريين بصورة نظامية في خدمة السلطة، كان من الطبيعي أن يقول محمد علي للقنصل البريطاني في القاهرة كولونيل هودجس سنة 1840م – بعد خمسة وثلاثين سنة في السلطة- في لقاء جمعهما [4]:
كان من جهود الوالي لمحاربة «البربرية» في مصر السيطرة على الأوقاف الأهلية، ولم يمض على حُكمه لمصر سوى عشر سنوات حتى رأينا المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي يقول عن مكاتب تعليم الأطفال في حوادث شهر جمادى الآخرة سنة 1230هـ/ مايو 1815 م: إن «معظم المكاتب مغلوقة وليس بها أحد؛ بسبب تعطيل الأوقاف، وقطع إيرادهم، وصار لهذه الأطفال جلبه وغوغاء في ذهابهم ورجوعهم في الأسواق»[5].
وبحجة التنظيم، أنشأ الباشا في 8 ذي الحجة 1252هـ/1835م «ديوان عمومي للأوقاف» لمنع أغراض الواقفين الفاسدة بزعمه، وسرعان ما أبطل هذا الديوان وألغاه بالكلية وسيطر على الأوقاف بصورة رسمية سنة 1837م وذلك بحسب ما تذكره «هيئة الأوقاف المصرية» على موقعها [6].
وسار أولاد محمد علي وأحفاده على سياسته في التعامل مع الأوقاف، حتى إن الشيخ محمد عبده يقرر بعد ذلك بسنوات قليلة، أن ما أبقاه محمد علي من أوقاف الأزهر والأوقاف الأخرى لا يساوي جزءًا من الألف من إيرادها، وأنه أخذ من أوقاف الجامع الأزهر ما لو بقي إلى اليوم (في عهد الشيخ محمد عبده) لكان إيراده لا يقلّ عن نصف مليون جنيه في السنة – بحسب قيمة الجنيه الكبيرة آنذاك – وقرر له بدل ذلك ما يساوي أربعة آلاف جنيه في السنة فقط [7]!
وظل التعامل مع الأوقاف الأهلية طبقا لما قعّده محمد علي، لكن القضاء النهائي على دور الأوقاف الأهلية كان في قانون إلغاء الأوقاف الأهلية في سبتمبر 1952م عقب ما سُمي بثورة يولية بشهرين فقط، وأدى هذا القانون الذي نصّ على «إنهاء كل وقف لا يكون مصرفه في الحال خالصا لجهة من جهات البر» وكان تسويغ إلغاء الأوقاف الأهلية كاشفًا عن أن الأوقاف قد تعطّلت عن أداء خدمة البر وتداول الأموال، وهذا مسوّغ صحيح حقًا، خصوصا في ظل ثورة قانون الإصلاح الزراعي، والتوجه صوب زيادة الملكية الزراعية، لكن بدلاً من إصلاح الأوقاف وإزالة غبار سوء الاستخدام والإدارة والتلاعب، كان الإلغاء هو الحل المريح في نظري؛ لأن سيطرة الدولة على أراضي الأوقاف الأهلية لم يُسهم في تحسين الإنتاج الزراعي والخيري بل على العكس.
وقد تتابع ظهور القوانين المنظّمة للأوقاف، حتى قانون سنة 1971م المعمول به إلى الآن، حيث أدى هذا القانون إلى أن آل جزء كبير للغاية من الأراضي الوقفية إلى الهيئة العامة للاستصلاح الزراعي، والجزء المتبقي من الأوقاف سيطرت عليه وزارة الأوقاف، وكلاهما جزء من الحكومة/السلطة، وصار ريع الأوقاف يُنفق بضوابط وقوانين وشروط ومراقبة الدولة/السلطة، مما يعني مزيدًا من سيطرة الدولة على المجتمع خلافًا لتاريخ وظيفة الأوقاف في الحضارة الإسلامية التي كانت بمنأىً عن سؤال السلطة وتوجهاتها، مما كان له أكبر الأثر على إحياء المجتمعات المدنية الإسلامية كما رأينا في مقالنا السابق.
وقد كانت المحاولة الجادة لإعادة إحياء النظام الوقفي بصورته الحضارية التاريخية في دستور 2012م الذي نصّ على «أن تلتزم الدولة بإحياء الوقف الخيري وتُشجّعه، ويُنظّم القانون الوقف». لكن في دستور 2013م تم إلغاء كل المواد المتعلقة بالأوقاف الأهلية دون تبرير أو تعليق[8]، لكن التسويغ مفهوم، والسبب معلوم من تاريخ تعامل سلطة الدولة الحديثة مع الأوقاف منذ محمد علي باشا وإلى الآن، إنه ببساطة يعني: إحكام قبضة السلطة على المجتمع!
- الجويني: غياث الأمم في إلتياث الظلم ص23. تحقيق عبد العظيم الديب، مكتبة إمام الحرمين، الطبعة الثانية ، 1401م.
- القلقشندي: صبح الأعشى في صناعة الإنشا 12/441، دار الكتب العلمية – بيروت.
- المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك 1/23 دار الكتب العلمية – بيروت، 1997م.
- خالد فهمي: كل رجال الباشا، ترجمة شريف يونس ص46، دار الشروق – القاهرة.
- الجبرتي: عجائب الآثار في التراجم والأخبار 3/478، دار الجيل – بيروت.
- انظر: http://www.hyatelawqaf-eg.org/z-s-v/index.php?page=1
- مذكرات الإمام محمد عبده ص44، تقديم وتعليق طاهر الطناحي، دار الهلال – القاهرة
- مقارنة بين دستور 2012 ومسودة تعديلات لجنة الـ10 لدستور 2013، موقع الهيئة العامة للاستعلامات.