بعيدا عن هوليوود: المخرج اليوناني «يورغس لانثيموس»
بدأ اسم المخرج اليوناني «يورغس لانثيموس» في اللمعان مؤخرا خصوصا بعد فيلمه «The Lobster»، ورغم أنه لم يتجاوز عقده الرابع بعد، ولكنه صنع العديد من الأفلام ذات الأفكار المميزة، والتي يجمع بينها الكثير من العوامل المشتركة. بدأ يورغس مسيرته بفيلمين مجهولين، ثم توقف فترة إلى أن ظهر بثلاثة أفلام مميزة يمكن من خلالها رؤية فلسفة لانثيموس وأسلوبه في بناء قصته وعرضه البصري.
مخرج الأفكار الفريدة
أكثر ما يميز أفلام يورغوس لانثيموس الأفكار الفريدة، من اللحظة الأولى تدرك أنك تشاهد فيلما قصته مختلفة عن السائد، وتعتمد على فكرة غير تقليدية. التصدير في الأعلى خير مثال، فهذه الفقرة هي استهلال لفيلم «Dogtooth»، وهو أول فيلم ألقى الضوء على موهبة لانثيموس كمخرج وكاتب واعد، والذي أنتجه عام 2009.وتدور قصته حول رجل يحبس أولاده منذ ميلادهم في بيته الكبير الواسع، ويقنعهم أن هذا هو العالم، وأن العالم الخارجي خال من البشر ولا يعيش فيه سوى الوحوش الكاسرة. الأب يلقن أولاده المعرفة الكاذبة ويتحكم في اللغة والحقائق كما يريد، فيعلمهم أن البندقية طائر أبيض جميل وأن الملح يسمى تليفون، والقطة وحش كاسر يمكن أن يقتل أي شخص.أما في فيلمه «Alps» وتدور قصته حول مجموعة سرية من أشخاص مختلفي المهن والأعمار، يقدمون عرضا بأن ينتحلون شخصية المتوفى في أي أسرة مقابل أجر رمزي. هكذا تجد الأم التي فقدت ابنتها أن هناك فتاة في نفس المرحلة العمرية ونفس الهوايات يمكن أن تحل محلها، وتستطيع تعلم الأشياء التي كانت تفعلها ابنتها المتوفاة.
أما فيلمه الأخير «The Lobster» فهو ينتمي لأفلام الديستيوبيا، وتدور الأحداث في مدينة يُفرض على كل مواطن فيها أن يحب شخصا آخر ويرتبط به. ومن ينفصل عن حبيبه يتم إيداعه في فندق لمدة 45 يوما مع آخرين غير مرتبطين. وإذا نجح في الارتباط يخرج من الفندق مع شريكه، ومن يفشل يتم تحويله لحيوان يختاره بنفسه.البناء الدرامي لأفلام لانثيموس هو بناء تقليدي، حيث تسير القصة في خط مستقيم، فتبدأ الأحداث بهدوء ثم تتصاعد إلى أن تتعقد المسألة ونصل للنهاية بعدها. وهذا هو المسار السائد في أغلب الأفلام الدرامية. ولكن بالإضافة لتميز لانثيموس في اختيار فكرة فيلم غير مألوفة وذكية للغاية، فهو أيضا يصمم مشاهده بأفكار ذكية للغاية، وهذا ما يجعل الفيلم سلسلة من المشاهد غير المتوقعة بأفكار ذكية. وهذا يعطي أفلامه طابعا خاصا، حيث يظن المشاهد أنه أمام بناء غير تقليدي للأحداث. مثال على ذلك مشهد الانتحار في فيلم «The Lobster» حيث يوجه بطل الفيلم فوهة المسدس ناحية رأسه، وفي نفس الوقت، يأتي شخص من جماعة الوحيدين بمسدس من الخلف لكي يقتله. وعندما يدرك أن هناك من يريد قتله يفزع ويقاوم ويتمسك بالحياة رغم أنه كان على بعد ثوانٍ من إنهاء حياته بنفسه. ومشهد (الفتاة بلا قلب) الذي يدرك أنها تختبره بتصنع الموت، فيتركها تموت أمامه في حمام السباحة ليثبت لها أنه مثلها لا قلب له، لكي تتزوجه.
السلطة في سينما لانثيموس
قبل بداية أحداث فيلم «Dogtooth»، عرضت ثلاثة أشكال فيزيائية؛ الأول يمثل خطا مستقيما، والثاني موجتين تسيران في نفس الاتجاه، والثالث الموجتان تتلاقيان. تلك الأشكال يرمز بها لانثيموس لمراحل الفيلم. ولكنها تصلح أن تكون في بداية كل أفلامه الشهيرة.مقاومة السلطة والهيمنة هي الموضوع الدائم في أفلام لانثيموس. وتتعدد أشكال السلطة ونطاقها من فيلم لآخر؛ ففي فيلم «Dogtooth» كان مصدر السلطة هو الأب الذي يهيمن على حياة أبنائه، وفي «Alps» كان قائد المجموعة الذي يرى أنهم أشخاص عظماء، وللحفاظ على تلك العظمة يجب أن يهيمن على جميع أفعال العاملين في المجموعة ومن يخطئ يُعاقب، سواء عقاب جسدي أو معنوي. أما في فيلم «The Lobster» فمصدر السلطة هم مسئولو المدينة الذين يحولون من لا يحب لحيوانات ويحبسونهم قبلها بأيام لإعطائهم الفرصة للارتباط، في خلال هذه الأيام يتم السيطرة على أفعالهم وتلقينهم بعض القيم عن ضرورة الحب واللافردانية. وعلى جانب آخر، قائدة جماعة الوحيدين المناهضة لهذه القيم والذين يبشرون بضرورة الوحدة وعدم الارتباط، وهي تتحكم في حياتهم بشكل كامل، وتقتل من يقع في الحب. وهذه المرحلة يمكن أن نطلق عليها مرحلة الخط المستقيم، حيث لا مقاومة للسلطة المفروضة.يؤمن لانثيموس بحتمية المقاومة فهو لا يستغرق كثيرا في رصد حالة الاستسلام للهيمنة والسلطة كما يفعل كثير من المخرجين. ولكنه يبدأ أفلامه بظهور الشخصية المقاومة التي تطرح التساؤلات، فالابنة الكبرى في فيلم «Dogtooth» تبدأ في طرح المزيد من الأسئلة عما يحدث خارج بيتها. وتسأل: «متي سأتمكن من رؤية العالم الخارجي؟»، فيجيبها والدها: «عندما يسقط نابك». وفي «The Lobster» يختار «ديفيد» أن يتحول للسلطعون في حالة فشله ليعيش أكبر وقت ممكن، ثم يتحايل على أغلب النساء لإيقاعهم في حبه، وعندما تكشفه (المرأة التي بلا قلب) يحولها لحيوان ويهرب من مكان احتجازه. ثم ينضم للوحيدين ويقاوم قيمهم ويبادر بحب أحدهم.في جميع أفلام لانثيموس النهاية مفتوحة، ولكنها ليست مفتوحة بشكل كامل، فهو يترك لك احتمالين لا ثالث لهما لتختار الذي يناسب تحليلك للطبيعة البشرية، إما التحرر الكامل من السلطة، أو الوقوع النهائي في سجنها. وهذه رؤية معاصرة ومغايرة عن الشائع، فالمقاومة نجاحها ليس حتميا، وحتى في حالة نجاحها فلن تتم سوى بتقديم تضحية كبيرة.
الصورة عند لانثيموس
انتقل لانثيموس من الإنتاج اليوناني المستقل إلى الإنتاج البريطاني، مما أدى إلى رفع ميزانية أفلامه، فتكاليف إنتاج«The Lobster» بلغت 4 ملايين دولار، وسمحت هذه الميزانية في زيادة عدد الممثلين الرئيسيين، ووجود كومبارس بعد أن كان لا يعتمد عليهم، وأصبح يصور مشاهد خارجية في الغابات والشوارع والمولات، وكانت ميزانية أفلامه السابقة لا تسمح إلا بتصوير بعض المشاهد الخارجية القليلة جدا، والتصوير أصبح بكاميرات عالية الجودة وليست الكاميرات الرقمية الضعيفة التي كان يستخدمها، وأصبحت أفلامه ناطقة بالإنجليزية. ربما لا تحتسب هذه التغيرات كتغيرات جوهرية، ولكن من التغيرات الجوهرية عدم تصوير مشاهد جنسية وعري صريحة، فقد كانت المشاهد الجنسية أداة بصرية رئيسية في أفلامه السابقة، وكذلك تقليل العنف المبالغ فيه، لاعتبارات تجارية وتسويقية.ولكن بقيت بعض الأدوات البصرية التي لم تتغير؛ منها عدم اعتماده على الإضاءة السينمائية (كشافات الإضاءة السينمائية الضخمة)، فأغلب المشاهد سواء الداخلية أو الخارجية معتمدة على مصادر الضوء الطبيعية بدرجة كبيرة، سواء ضوء النهار في الخارجي أو اللمبات والفوانيس العادية في المشاهد الداخلية. وهذا يعطي طبيعة باردة أفلامه، فالإضاءة الطبيعية لا تعطي ألوانا حيوية في الصورة كما تفعل كشافات الإضاءة السينمائية. وما زال يعتمد على طريقة التمثيل المميكنة، فحركة وكلام الممثلين في أفلام لانثيموس تعطيك شعورا بأنهم آلات متحركة. وكذلك اعتماده على مقاطع موسيقية وأغانٍ كلاسيكية شهيرة وليست أصلية.هذا العام يتعاون لانثيموس مع الممثلة «نيكول كيدمان» والممثل «كولن فيرل» في فيلم يحمل عنوان «قتل الغزلان المقدسة»، ويشارك الفيلم في المسابقة الرسمية لمهرجان «كان» هذا العام، وذلك يعطي مؤشرات إيجابية عن جودة الفيلم.
بعيدًا عن هوليوود
«بعيدًا عن هوليوود» هي سلسلة من المقالات نتناول فيها السينما العالمية غير الأمريكية، نركز فيها على العناصر الفنية المختلفة التي تميز صناعة السينما خارج أستوديوهات هوليوود العملاقة، نتناول فيها حالات فنية متفردة، وتجارب إخراجية وثقافية مغايرة.