بعيدًا عن التخيلات الزائفة: لنلقِ نظرة على الاقتصاد الإيراني
خلال السنوات الأخيرة، لا تكاد المظاهرات الإيرانية تهدأ إلا لتتجدد مرة أخرى.
في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، أعلنت إيران عن نيتها بخفض الدعم عن الوقود ورفع سعر البنزين بنسبة 50%، وذلك بعد يومين فقط من إعلان الرئيس الإيراني «حسن روحاني» عن ما تواجهه إيران من عجز وصل إلى حوالي ثلثي الميزانية السنوية البالغة 45 مليار دولار .
فخرجت المظاهرات تجوب الشوارع الإيرانية في 100 مدينة احتجاجًا ورفضًا لذلك القرار.
بيد أن تلك الاحتجاجات لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة في ظل العقوبات الأمريكية التي لا تنال من اقتصاد إيران فحسب، بل وتعتصر شرايين حياة المواطن الإيراني كذلك.
تقلبات النفط الإيراني
خلال العشر سنوات الأخيرة، تعرض الاقتصاد الإيراني لتقلبات كبيرة في إنتاج وتصدير النفط، والذي يعد القطاع الأهم في إيران، إذ تمتلك إيران رابع أكبر احتياطي من النفط في العالم، ويساهم النفط بحوالي 40% من صادراتها وصرفها الأجنبي.
ففي الفترة بين عامي 2008-2010، كانت إيران تصدر نحو 2.2 مليون برميل يوميًا، ثم تراجع الرقم نتيجة الحظر الذي فرضته الولايات المتحدة عليه إلى مقدار 1.2 مليون برميل خلال عام 2012 -2015.
لكن، وبعد الاتفاق النووي عام 2015، عاد ميزان الإنتاج للارتفاع ليصل إلى 4 ملايين برميل يوميًا، ونما الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 12.3%. لكن ذلك لم يدم سوى عامين، إذ تراجع النمو مرة أخرى إلى 3.7% في عام 2017 عندما انخفض الإنتاج إلى مستوى مليوني برميل إثر إعادة ترامب للعقوبات.
حال الاقتصاد الإيراني مقارنة بأهم اقتصادات الشرق الأوسط
وبالرغم من ذلك، فإنه على مستوى الاقتصاد الكلي أبدى الاقتصاد الإيراني قدرًا من المناعة والمقاومة خلال السنوت الماضية. يتضح الأمر عند مقارنة الاقتصاد الإيراني باقتصادات مشابهة كبيرة وهامة في الشرق الأوسط، كاقتصاد مصر والسعودية وتركيا، لنجد الآتي:
1. خلال العشر سنوات الأخيرة، ارتفع الناتج المحلي الإجمالي، مقيمًا بالقدرة الشرائية، في إيران من 1203 مليار في 2008 ليصبح 1600 مليار دولار في 2018 خلف كل من السعودية: 1858 مليار دولار، وتركيا: 2300 مليار دولار، ولكن متقدمة على الناتج المحلي الإجمالي المصري البالغ 1220 مليار دولار في 2018.
2. خلال نفس الفترة، ورغم تراجع الصادرت النفطية، فإن نسبة صادرات السلع والخدمات إلى الناتج الإجمالي لم تشهد سوى انخفاض طفيف من 26.5% إلى 24.9% في عام 2017/2018، وفقًا لآخر إحصائيات البنك الدولي.
في حين انخفضت نسبة الصادرات المصرية في ذات الفترة بنحو 14.5% لتبلغ 18.5% في عام 2018، كما تراجعت صادارات السلع والخدمات السعودية بمقدار النصف تقريبًا لتبلغ 39.6% في 2018، بينما ارتفعت نسبة الصادرات التركية من 22.8% في 2008 إلى 29.6% في 2018.
3. أما فيما يتعلق بنسبة الفقر في تلك البلدان (نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر القومي)، فقد بلغت نسبة الفقراء في إيران 12% وفقًا لآخر إحصاء في 2016، رغم الزيادة الأكيدة في هذه النسبة منذ ذلك الحين.
تقترب تلك النسبة في إيران من نسبة الفقر في تركيا البالغة 13% في 2017. بينما تظل أفضل بكثير من نسبة الفقر في مصر التي بلغت 32.5% في عام 2017 وفقًا للأرقام الرسمية للجهاز المركزي للتعبئة.
4. أما بخصوص معدلات البطالة، نجد أن معدلات البطالة في إيران ومصر وتركيا كانت متماثلة. ففي عام 2008، بلغ معدل البطالة في كل منهم نحو 10%، ليشهد ذلك المعدل ارتفاعًا بنفس النسبة تقريبا، ويبلغ حوالي 13% في البلدان الثلاثة في 2018.
آثار عقوبات ترامب على الاقتصاد الإيراني
في عام 2018، فرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عقوبات جديدة بعد انسحابه من الاتفاق النووي، كانت هي الأكثر إيلامًا والأشد تأثيرًا على جميع قطاعات الاقتصاد الإيراني تقريبًا وخاصة قطاع الطاقة.
تسببت العقوبات الجديدة في تجفيف الاستثمارات الأجنبية وضرب صادرات النفط وتقليص الناتج المحلي الإجمالي لإيران بنسبة 3.9% في عام 2018، وفقًا لتقديرات صندوق النقد الدولي.
وفي ظل حالة عدم اليقين الاقتصادي الذي يعايشه الاقتصاد الإيراني، أدت سياسة «أقصى ضغط» التي تنتهجها واشنطن ضد إيران إلى تقليص قيمة الريال الإيراني، فبلغ سعر الصرف الرسمي للريال 42 ألف ريال مقابل الدولار الأمريكي، بينما وصلت قيمته في السوق السوداء حوالي 115 ألف ريال للدولار الواحد.
الأمر الذي تسبب في إحداث تعطيلات في التجارة الخارجية لإيران ورفع التضخم السنوي في مايو/آيار 2019 إلى 52%. إضافة إلى ذلك، انخفضت صادرات النفط من 2.5 مليون برميل يوميًا بعد رفع العقوبات في عام 2016 إلى 400 ألف برميل يوميًا.
دفعت العقوبات الأمريكية معظم الشركات الأجنبية للتوقف عن التجارة مع إيران، وحتى أكبر المشترين – الصين والهند – الذين أعلنا رفضهما الالتزام بالعقوبات، فقد خفضا وارداتهما من إيران بنسبة 39% و 47% على التوالي، الأمر الذي تسبب في خسائر بلغت أكثر من 10 مليارات دولار في الإيرادات الإيرانية.
ووفقًا لبيانات الحسابات القومية التي نشرها المركز الإحصائي الإيراني، فإنه في العام الإيراني (21 مارس/ آذار 2018-21 مارس/ آذار 2019) انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4.9% بعد عامين من النمو القوي في أعقاب الاتفاق النووي في يوليو/تموز 2015. ذلك التراجع كان مدفوعًا بانخفاض قطاع النفط بنسبة 14%، يليه قطاع التصنيع بنسبة 6.5% وقطاع الصناعة المعتمد على واردات قطع الغيار والبناء بنسبة 4.5%.
خنق المواطن الإيراني
انتفض الشعب الإيراني لقرار الزيادة في سعر البنزين، لانعكاسه المباشر على حياتهم. فبالرغم من كون سعر البنزين في إيران لا يزال من بين أقل الأسعار في العالم وأكثرها دعمًا، إلا أن ذلك الارتفاع الشديد والمفاجئ أصاب المواطنين بالذهول.
فالزيادة تعني أن السائقين ومالكي السيارات مضطرين لدفع 15 ألف ريال لكل لتر من الغاز لأول 60 لترًا كل شهر، ودفع 30 ألف ريال لكل لتر إضافي كل شهر بينما كان سعر لتر البنزين 10 آلاف ريال في السابق.
تمكنت العقوبات الأمريكية من خنق الشعب الإيراني، إذ تسببت في نقص السلع المستوردة، والمنتجات المصنعة من مواد خام مستوردة من الخارج، كالأدوية وحفاضات الأطفال.
ليس ذلك فحسب، بل امتد الغلاء ليشمل السلع الأساسية المنتجة محليًا. فخلال العام الماضي، ارتفعت تكلفة اللحوم الحمراء والدواجن بنسبة 57%، والحليب والجبن والبيض بنسبة 37% والخضروات بنسبة 47% وفقًا للمركز الإحصائي الإيراني. ذلك الارتفاع في الأسعار خلق زحامًا وطوابير طويلة أمام محلات البقالة المدعومة من الحكومة.
ورغم محاولات الحكومة لتخفيض أسعار اللحوم عبر حظر تصدير المواشي إلى الخارج، إلا أن بعض المزارعين الإيرانيين يلجأون لبيع اللحوم إلى الدول المجاورة سرًا للحصول على العملات الأجنبية الصعبة.
الأسوأ من ذلك كان تأثير العقوبات على القطاع الصحي، قيدت العقوبات قدرة المستشفيات الإيرانية على شراء الأدوية الأساسية والمعدات الطبية من خارج إيران، ونتيجة لذلك لم يعد يحصل الإيرانيون على حقهم الكامل في العلاج والوصول إلى الأدوية الأساسية، وهو ما بات يهدد صحة ملايين الإيرانيين، وفقًا لتقرير منظمة هيومن رايتس ووتش.
إلى أين سيتجه الاقتصاد الإيراني في 2020؟
توقع صندوق النقد الدولي أن ينكمش الاقتصاد الإيراني في 2020 بنسبة 9.5% مقابل توقعاته السابقة بانخفاض قدره 6%. ووفقًا لذلك التوقع، فسيكون أداء الاقتصاد في هذا العام هو الأسوأ منذ عام 1984 إبان الحرب مع العراق.
في حين أشار تقرير اقتصادي صادر عن البنك الدولي، إلى أن العامين المقبلين سيشهدان معدل تضخم أعلى من 20%، الأمر الذي سينعكس سلبيًا على معدلات الفقر، نظرًا لزيادة تكاليف المعيشة واستمرار تآكل القيمة الحقيقية للريال الإيراني.
لكن ما يزيد وضع المواطنين صعوبة هو محدودية الآليات التي تمكن الحكومة من مساعدة الفقراء والتعامل مع الصدمات الاجتماعية والاقتصادية التي يواجهونها. فكلما كان الإنفاق بنحو أكبر على تدابير الحماية الاجتماعية، كلما توسع العجز المالي في ظل تلقي الحكومة عائدات منخفضة من النفط.
إجمالاً، لم تكن العقوبات الأمريكية عقابًا للحكومة الإيرانية فحسب بل والشعب الإيراني كذلك. فإلى جانب ما أحدثته تلك العقوبات من انكماش على مستوى الاقتصاد الكلي للدولة، فإن العقوبات تضغط أيضًا على المواطنين وتهدد أساسيات حياتهم وصحتهم، أملاً في أن يدفع ذلك الإيرانيين إلى الإطاحة بحكومتهم المناوئة لأمريكا.