أفسرالدين: هل تحُول العلمانية بين الإسلام والديموقراطية؟
في العقود الأخيرة من القرن العشرين، نوقش باستمرار، الإسلام و‘‘تعارضه مع الديمقراطية’’ أو افتقاره إليها، في محافل علمية ومن خلال الإعلام التقليدي (كالفنّ والدراما والسينما). فالانتعاش الديني الواضح في بقاع عديدة من العالم الإسلامي في ضوء شرارة الثورة الإسلامية في إيران سنة 1979م قد نحا لأن يؤكد لكثيرين في الغرب أن الإسلام والديمقراطية ليس مقدرا لهما التلاقي للأبد.
إن الفهم الشائع للديمقراطية في الغرب كان (ولا يزال) قائما على أنها تعتمد بشكل حتمي على العلمانية؛ فعدم القدرة على العلمنة ‘‘فشل’’ معزوٌّ بشكل روتيني إلى إسلام يتجسد لتفسير تعارض جوهري بين الديمقراطية والإسلام. فالأنثربولوجي الاجتماعي إرنست جلنر Ernest Gellner، على سبيل المثال، اعتبر الإٍسلام مقاومةً استثنائية للعلمنة بما أن الدين وفق آرائه نظام متزمت وثابت لحياة عاجزة عن التأقلم مع مجتمع حديث وعلماني وبالتالي فالدين في رأيه مقاومة أصيلة للمقرطة (التحول إلى النظام الديمقراطي).
الفيلسوف الفرنسي/الجزائري جاك دريدا صور الإسلام ‘‘نقيضا للديمقراطية’’ لأن، استنادًا له، الديمقراطية حالة أوروبية تنتمي إلى التقليد الإغرو-مسيحي وحده. بعد الحادي عشر من سبتمبر، حصدت تلك الآراء رواجا أكثر في دوائر التأثير كالدلائل التنبؤية على الصدام المحتوم بين غرب ديمقراطي حديث وعالم إسلامي ميؤوس منه و‘‘ظلامي’’ متحجر.
هذا الرأي المستحكم قد تم تحديه من قبل تحليلات هي أشد دقة وحنكة نظريا كما يظهر في أعمال ألفريد ستيبان Alfred Stepan، ومؤخرّا أكثر في أعمال الإيراني نادر هاشمي والنيجيري أحمد كورو، على سبيل المثال. تشير تلك الأعمال بحقٍّ إلى أن العلمانية بما تعنيه من فصل صارم بين الدولة والدين ليست شرطا مسبقًا ضروريا للديمقراطية. فالعلمانية تتعايش بشكل مشترك مع أنظمة استبدادية في بقاع عديدة من العالم كما هو الحال في أوزبكستان وكازاخستان، بينما هنالك ديمقراطيات غربية قد أسست أديانا رسمية كما في إنجلترا (الأنجليكية) والدنمارك (اللوثرية)، وكما في أماكن أخرى.
من الأجدى تفسير الاتجاهات السياسية بمتغيراتها الاقتصادية والسوسيو-سياسية ضمن سياقات محددة ثقافيا على أن تفسر من خلال تصريحات لاتاريخية عن ماهيات دينية أو ثقافية. كما يلحظ بوضوح نادر هاشمي،‘‘إن التقاليد الدينية لم تولد بفهم ديمقراطي أصيل أو علماني للسياسات’’ وبأن هكذا ‘‘أفكار يجب أن تُشكل اجتماعيا’’.
واقع الأمر؛ أثبتت الإحصائيات والاستطلاعات في دول ذات أغلبية مسلمة عدة بشكل متكرر أن الشعوب الإسلامية ترغب في أن يكون لديها حكومات تمثيلية وخاضعة للمساءلة -وهو أقصى فهم أساسي للديمقراطية- وتعتبر تلك الشعوب العملية الديمقراطية، كالانتخابات، الميكانيزمية الأصحّ لتأسيس هكذا حكومات.
دراسة غالوب Gallup البحثية المكثفة التي أجريت ما بين عامي 2001 و2007 في أكثر من 35 بلدًا مسلمًا أو ذات غالبية سكانية مسلمة (بزعم أن الدراسة استطلعت آراء عينة تمثل أكثر من 90% من مجموع السكان المسلمين في العالم) قد أثبتت بشكل قاطع أن الديمقراطية النظام المفضل لتشكيل الحكومات لديهم. إن خيبة الأمل بسياسة الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط وحملتها لـ‘‘توطيد’’ ديمقراطيات تحت غطاء الغزو العسكري للعراق، على سبيل المثال، لم يخمد رغبة تلك الشعوب لانتخاب حكوماتها التمثيلية التي تخصها بواسطة انتخابات منصفة وشفافة.
في الوقت ذاته، أغلبيات مسلمة كبرى، بذكورها وإناثها، تريد للشريعة، أن تكون على الأقل مصدر تشريع في بلدانها، برؤيتهم ألا انفصال بين المبادئ الديمقراطية والمعتقدات الدينية. في عدد من البلدان ذات الغالبية المسلمة، كان التفضيل أقوى، في الأردن، على سبيل المثال، 54% من الرجال و55% من النساء يريدون أن تكون الشريعة مصدر التشريع الوحيد. من الطريف، أنه من منظور مقارن، أنبأ استطلاع لغالوب سنة 2006 عما نسبته 46% من الأمريكيين الذين يقولون بأنهم يريدون أن يكون الكتاب المقدس مصدرا للتشريع.
تعزز هذه المكتشفات دراسات سابقة أجراها روبرت إنجلهارت Robert Inglehart وبيبا نوريس Pippa Norris، والتي سمحت لهما بالاستنتاج أن الشعوب الإسلامية بشكل عام كانت تميل لأن تكون أشد دعمًا للديمقراطية من شعوب غير إسلامية حول العالم، موفرة بذلك ثقلا في مواجهة فرضية ‘‘صدام الحضارات’’. دراسة هامة نشرها مارك تسلر Mark Tessler وأماني جمال سنة 2008 قد أكدت بشكل مشابه على وجود دليل قوي على دعم واسع الانتشار للديمقراطية في دول عربية محورية، حيث أُجري الاستطلاع.
إن هكذا حقائق وأرقام تجعل الحقيقة السياسية بالغة التعقيد بدون شك، وبالكادّ أن تكون ظاهرة عالمية متجانسة. إن تفريغ الدين من المجال العام بوصفه شرطا لازما لديمقراطية وظيفية أسطورة حديثة روج لها محاربون فكريون معينون في الغرب، عادةً في مزاج جدلي لتحضير مغايرَة عما يبدو لهم مجتمعات منقوعة بالدّين في العالم الإسلامي.
وبطبيعة الحال، فقد استولى رجعيون دينيون على هذه الفذلكة في عدد من الدول ذات الأغلبية المسلمة لتقويض الديمقراطية بوصفها مفهوما إلحاديا، وهو استجلاب له أن يدمر نسيج المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة. إذ سيبدو ألا وضعية تتناغم مع الطموحات الفعلية والواقعيات المعاشة للناس العاديين حول العالم.
صنع ديمقراطية وفق الشروط الإسلامية
إن الديمقراطية معراةً حتى النخاع كمفهوم-نظام لحكومة تعكس إرادة الشعب وتعد نفسها قابلة للمساءلة من قبلهم. وبناءا على ذلك، فإنه ليس مفهومًا غريبا عن الوسط الإسلامي المتنوّع.
إن المصطلح -مجردا من معناه- قد يعامل بشيء من الريبة، بالنظر إلى ارتباطه بما يعتبر على نطاق واسع جزءا من هجوم ثقافي وسياسي غربي غير أخلاقي على عالم غير غربي. في الآونة الأخيرة، زجّت المحاولة المسعورة لفرض‘‘الديمقراطية’’ بقوة السلاح في العراق وفي أماكن أخرى تحت مظلة الاحتلال العسكري الغربي بهذا المصطلح في سياق سلبي. وفي معارضة واعية نشر الإسلاميون المتشددون بلا هوادة فكرة أن الديمقراطية-المتوحلة في حقيبة غربية ثقافية وسياسية ما فتئ الغرب يحملها-معيبةٌ مفاهيميا ومناقضة لقيم إسلامية؛ بينما شيد بعض المثقفين الإسلاميين حجة معاكسة، مستمدين نقاشاتهم من الفكر والتاريخ الفكري الإسلاميين.
في عمل بالغ الأهمية، يحدد خالد أبو الفضل عدة سمات للفكر السياسي الإسلامي التقليدي وأخلاقياته بناءا على القرآن الكريم، والتي تفضي إلى استحداث أشكال عصرية من المشاركة للحكومة: ككرامة الإنسان ووصايته على الأرض، ومحاسبةٌ هي مرتبطة بقوة بالتزام أساسي بالعدالة والرحمة، وتركيز على صنع القرار بالاستشارة وسيادة القانون.
قبل كل شيء، فإن مبدأ الشورى مؤيد في القرآن الكريم بوصفه أساسا لصنع قرار جماعي ومسيّرا لشؤون الناس، وهو الأمر الذي يفهم بشكل عام -من قبل أطياف واسعة من الإسلاميين بليبرالييهم ومتشدديهم- على أنه يوفر التأريض المفاهيمي للحكم الاستشاري وصنع القرار الجماعي. وبينما سيرفض الإسلاميون المتشددون نموذجيا أي تداخل بين أشكال الحكم الديمقراطية والمشورية سيعتبر ليبراليوهم أنها نقطة تلاقٍ.
مع ذلك؛ فإن هذا المفهوم المحوري قد يفسَّر، إذ يسجل التاريخ ديمومة صلاحية هذا المصطلح بين أوساط المسلمين، على الأقل كمثال يُتَطلَّعُ إليه، مع أن الحكم بالوراثة كان قد وضع في وقت باكر جدا وسرعان ما أصبح الحالة الدائمة.
إن هذه المفاهيم القرآنية الواسعة التي هي في ذاتها غير سياسية كليا قد جرى توظيفها في المجال العام، تحديدا في الفترة الحديثة، حيث نتائجها ملحوظة سياسيا وإداريا. وعليه؛ فإن فكرة أن هكذا مبادئ توفر حافزًا لتشكيل أنماط ديمقراطية للحكومة اليوم يظلُّ موضوعا ذا جدل واسع. إن معظم المفكرين المتشددين في الفكر الإسلامي و/أو الفكر السياسي المقارن اليوم، سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين، لا يرون أي موانع دينية أو فكرية خطيرة من حكومات ديمقراطية تتسلم زمام الأمور في مجتمعات ذات أغلبية مسلمة. بل إنهم عوض ذلك؛ تساءلوا لماذا برغم رغبة شعبية عارمة لحكومات تمثيلية في هكذا مجتمعات والميل الجوهري ضمن تقاليدهم الدينية والسياسية لدعم هكذا حكومات، لماذا ظلَّ موجودا ما يطلق عليه عادة ‘‘عجز في الديمقراطية’’ ضمن أوساطهم، بالأخص في العالم العربي.
ركزت ردود جرى تقصيها بشق الأنفس على عوامل بنيوية وثقافية- على سبيل المثال، الاقتصادات الريعية (الاقتصادات التي تعتمد على مصدر دخل رئيسي وواحد) في بعض البلدان العربية الثرية التي تسمح لعائدات النفط التي أنشئت لأن تعود في المقام الأول لنخب ضيقة، بالإضافة إلى المنظمات القبلية والاجتماعية التي تعزز ثقافة الاستبداد. خارج العالم العربي، ثمة ديمقراطيات وظيفية طويلة المدى في تركيا وبنغلاديش وإندونيسيا وماليزيا. وثمة حكومات ديمقراطية أخرى حديثة العهد في كل من باكستان وفلسطين لها أن تتحدى أنماطًا مسبقة خاطئة أخرى عن الربط بين الثقافة الإسلامية والحكومات التمثيلية.
تثبت هذه الوقائع على الأرض بوضوح أنه عند مناقشة حلول لمسألة عجز الديمقراطية في أجزاء من العالم الإسلامي، ‘‘فالإسلام -الذي يتم استدعاؤه بوصفه جوهرًا متجسدا في تلك الجدليات- ليس جزءا من المشكلة.