رحلة أفوقاي: مسلم في أوروبا القرون الوسطى
شهاب الدين الحجري أفوقاي في وصفه لمدينة أمستردام الهولندية – 1611م
كان شهاب الدين الحجري قد أتم مهمته في فرنسا على أكمل وجه حين تمكن من إعادة حقوق المورسكيين المسلوبة، فانطلق قافلًا من بوردو إلى باريس ومن باريس إلى ميناء هارف المطل على بحر المانش، وكانت البعثة المغربية المورسكية هذه قد قررت ألا تعود إلى المغرب بواسطة السفن الفرنسية مخافة أن تنهبهم كما نهبت إخوانهم من قبل حين نزحوا من الأندلس، لذا كان القرار هو التوجه شمالًا نحو هولندا أو ما يُسميه أفوقاي بلاد (فلَنضس)؛ وذلك للعلاقات الدبلوماسية والسياسية القوية التي كانت تجمعهم مع المسلمين في المغرب حينذاك.
ما رآه في هولندا
انطلقت سفينة الركب المغربي المورسكي صوب هولندا، وبعد عدة أيام رست السفينة في مدينة أمستردام أو «مسترضام» كما يُسميها أفوقاي، وهي مدينة فائقة الجمال والبهجة كما رآها المورسكي؛ يقول: «رأيتُ العجبَ في حُسن بُنياتها، ونقائها، وكثرة مخلوقاتها، كاد أن تكون في العمارة مثل مدينة بريش (باريس) بفرنجة. ولم تكن في الدنيا مدينة بكثرة السفن مثلها … وأما الديار، كل واحدة مرسومة ومزوقة من أعلاها إلى أسفلها بالألوان العجيبة، ولن تُشبه واحدة أخرى في صنع رقمها، والأزقة كلها بالأحجار المنبتة». وهذا الرقْم، وتلك البهجة والألوان لعل أمستردام لا تزال عليها حتى يومنا هذا بعد أكثر من أربعة قرون على زيارة أفوقاي الأندلسي!
ومن أمستردام انطلق الركب إلى مدينة ليدن أو «ليدا» كما يُسميها أفوقاي، وفيها التقى بعدد من المستشرقين، وكان النشاط الاستشراقي في ذلك العام 1611م قد بدأ يخطو خطواته الأولى نحو التعرف على الآداب والمعارف العربية، ومن ليدن اتجه الوفد إلى عاصمة هولندا آنذاك، ومستقر وجود أمير هولندا وحكومته وهي مدينة لاهاي أو «الهَايَة» كما يقول أفوقاي.
هناك كان من حسن حظ أفوقاي، وربما كان من سابق تخطيط له، قد التقى بسفير هولندا لدى البلاط المغربي، وكان أفوقاي قد أسدى لذلك السفير معروفًا حين توسط للإفراج عنه، وإعادته إلى بلده مكرمًا لأحداث سابقة متعلقة بالنزاع على العرش السعدي في المغرب، وانخراط هذا السفير لطرف دون آخر.
لذا كانت هذه العلاقة الطيبة، والدالّة السابقة سببًا من أسباب تيسير مهمة الوفد المغربي، فقد تمكن أفوقاي من مقابلة أمير هولندا، الذي حاول أن يستغل وجود هذا الوفد المغربي في عقد حلف عسكري لمهاجمة الأراضي الإسبانية؛ ذلك أن ملك إسبانيا فيليب الثالث ومن قبله فيليب الثاني ومن قبلهم شارل الخامس قد احتلوا هولندا منذ القرن السادس عشر الميلادي بسبب الخلافات الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت. لقد كان الملوك الإسبان يرون في أنفسهم حماة للكاثوليكية في أوروبا الغربية، ولهذا النشاط في الدفاع عن تلك العقيدة، فقد وهبتهم البابوية زعامة الدولة الرومانية المقدسة في كل إيطاليا وبعض ألمانيا والأراضي الهولندية، لكن المناطق الشمالية من هولندا – والأراضي المنخفضة حينذاك كانت تجمع هولندا وبلجيكا اليوم – كانت قد اعتنقت أفكار المصلحين المسيحيين من أمثال مارتن لوثر (ت 1546م) وجون كالفين ( ت1564م)، وهي أفكار معارضة للمفاهيم الكاثوليكية، الأمر الذي جرّ عليهم وبال الحروب الدينية التي استمرت لعقود من الزمن تكللت في نهاية المطاف إلى ترسيخ وجود البروتستانت والاعتراف بهم كقوة دينية وسياسية لا يُستهان بها.
لقد أراد أمير هولندا أن يمرغ أنف الإسبان الذين أذاقوا الهولنديين ويلات الحروب لعقود من الزمن، فضلاً عن تضييقهم على الأساطيل الهولندية في البحار والمحيطات، وهو حلف أراد أن يوسعه ذلك الأمير ليشمل الدولة العثمانية والدولة السعدية في المغرب، وقد حمل أفوقاي رسالة الملك الهولندي إلى ملك السعديين في المغرب، بعدما طلب منه أن يتوسط لإخراج المرأتين التركيتين اللتين كانتا قد أُسرتا في فرنسا لعقود طويلة، وهو ما تم بالفعل حيث عادتا إلى إسطنبول سالمتين بعد سنين طويلة من الإقامة في فرنسا.
مناظرات أفوقاي الدينية
لعل أبرز ما يُلاحظه القارئ لرحلة أفوقاي إلى فرنسا وهولندا، ذلك الشغف بالمناظرات الدينية، والمعارف الثقافية بينه وبين القساوسة والأحبار والمستشرقين، وهي مناظرات تنم عن ثقافة أصيلة، وفهم ثاقب، ورؤية مميزة قادرة على الرد والإجابة بل والإفحام في بعض الأحيان.
يرى بعض الدارسين الغربيين لرحلة أفوقاي تلك الردود الجريئة، والمدح في الذات والدين كنوع من أنواع الغرور والتيه، لكني أراها ثقافة راسخة يستحقها هذا الرجل عن جدارة بدليل إيراده هذه المطارحات دون قدرة الخصم على الرد أو المنافحة. هو لا يرد الشبهات عن دينه رد العاجز المتململ، ولا يقذف الخصم بشهاب بارد لا قدرة له على الإفحام.
في فرنسا جالس أفوقاي عائلة أرستقراطية؛ فالابن قاضٍ والأخ قاضٍ وزوج البنت الموكل بالمظلمة الأندلسية في فرنسا قاضٍ، وحماته امرأة على قدر كبير من المال والثقافة، فهي امرأة إقطاعية صاحبة بلد في فرنسا، قصرها مليء بالخدم والحشم، يستقبلون أفوقاي على العشاء، وفي أثناء طعامهم يتناولون الحديث عن الإسلام والمسيحية، عن الصيام في المسيحية والإسلام، ثم عن مسألة شرب الخمر. لقد سألوا شهاب الدين قائلين له: ما السبب حتى منعكم نبيكم الخمر؟، قلتُ: منعه الله تعالى لأن أفضل ما تكرّم به على بني آدم هو العقل، والذي يُزيله هو الخمر وهو أقبح المسائل كلها.
قال: حتى عندنا هو ممنوع أن يشرب الإنسان منه حتى يسكر. قلتُ: ظهر لي أنه ممنوع لكم في الإنجيل ولا انتبهتم له. قالوا: في أي موضع؟، قلتُ: في الدعاء الذي أمركم به سيدنا عيسى عليه السلام أن تدعو به، وأوله: أبونا الذي في السماء إلى أن تقولوا: ولا تدعنا نقع عند فتنة النفس. قالوا: عندنا هذا. قلتُ: هل يجوز أن تأخذ الفتنة بيدك وتطلب أن لا يدعك تقع عندها؟؛ لأنك إذا زدت من الخمر قليلًا عن العادة يذهب بالعقل، وإذا ذهب وقعت في الفتن، مع طلبك الله أن لا يدعك تقع. قال: نحن نتحفظ في شربنا حتى لا يذهب العقل. قلتُ لهم: عندي أن من هو مثلكم قضاة وعلماء ومن أكابر الناس، أن الإنصاف للحق موجود عندكم، والبعد عن الكذب والباطل وإلى هذا، تحلفون بدينكم أنكم ما زدتم قط من شُرب الخمر حتى ذهب بالعقل؟، وتكلموا بينهم وضحكوا جميعًا، وبضحكهم اعترفوا بما رأوا من نفوسهم مرارًا من الوقوع في الفتنة بكثرة الشرب.
في مدينة أولونا الفرنسية قابل أفوقاي عددًا من النساء المثقفات، ودخلت إحداهن معه في مناظرة حامية الوطيس، فقد كانت على كراهية شديدة للمسلمين قبل اللقاء. قالت له: كيف بكم لم تعرفوا الله؟، قلتُ لها: المسلمون يعرفون الله خير منكم. قالت: خير منا، قلتُ لها: نعم، قالت لي: بمَ تثبت ذلك؟، فنظرت إليها، ورأيتُ تحت إبطها كتابًا كما هي من عادة بنات التجار والأكابر من الفرنج، كل واحدة تحمل كتابًا، مثل تهليل، وفي كل واحد خمسة أدعية أو سور التي هي فرض على كل بالغ حفظها. قلتُ لها: البرهان بما قلتِ في كتابك الذي عندك، فأخذت الكتاب ووضعته بين يدي على المائدة، وقالت: ها هو الكتاب، قلت لها: انظري العشرة أوامر الربانية، ففتشت في الكتاب وقالت: ها هي، قلتُ لها: اقرئي الأمر الأول من العشرة في دين الله. فقرأت، وقالت: الأمر الأول: قال الله: لا تعمل صورًا ولا تعبدها، اعبد الله وحده.
ولما أن قرأته قلت لها: المسلمون ما يعملون صورًا ولا يعبدونها ويتحفظون من ذلك حتى إن النساء اللاتي ترقَمن لم تصورن في رقمها أبدًا شيئًا له روح، وكذلك الرسّامون الذين يرسمون ويزوقون ديار الملوك والجوامع ولم يصوروا أبدًا شيئًا فيه روح. قالت: ليس عبادتنا للأصنام لذاتها، وإنما ذلك للمشبّه به. قلتُ لها: كان لي كلام أقوله لك في الشبيه والمشبه، ولكن أتركه لنحرك لمسألة أخرى لن تجدي لها جوابًا، قالت ماذا هي؟، قلت لها: الأمر الرباني بالنص قال: لا تعملوا صورًا ولا تعبدوها، قالت: نعم، قلتُ لها: تعملون أصنامًا أم لا؟، فكان لها إنصاف للحق وعقل، ونظرت النساء، وقالت لهن بلسانهن: غلَبني وما وجدتُ بما نُجاوبه. فنظرتُ إليها ونزل بها فرح وانشراح، كأن زال من قلبها غشاء. وهناك عشرات الأمثلة الأخرى التي أوردها في الشهاب في رحلته.
في أسباب خروج المورسكيين من الأندلس
إن أبرز ما نراه في هذه الرحلة المغامرة من المغرب إلى فرنسا ثم إلى هولندا، تلك الروح المورسكية الوقّادة التي لا تنفك عن أفوقاي، هو مورسكي معتز بثقافته وهويته وتاريخه. لم يأت إلى فرنسا لمجرد السفارة الدبلوماسية لإعادة منهوبات مسروقة، لقد جاء إيمانًا بأهمية القضية المورسكية، فهو تارة يدعو لسلطان العثمانيين بالنصر والتوفيق على القوى الأوربية المناوئة لعل الله أن يوفقه لإعادة الأندلس إلى أرض المسلمين، وتارة يدعو لأي سلطان من سلاطين المسلمين يفتح الله على يديه هذه المهمة.
يرى أفوقاي – وهو الشاهد والمعاصر لطرد المورسكيين من الأندلس – سبب الطرد يعود إلى:
- الزيادة السكانية الكبيرة للمورسكيين في مقابلة ضعف الزيادة السكانية للإسبان النصارى؛ بسبب الحروب والعزوف عن الزواج للرهبنة وغيرها.
- السبب الثاني هو إمكانية التحالف الهولندي الإنجليزي العثماني المغربي ضد إسبانيا الكاثوليكية، وخطورة ذلك في ظل وجود مئات الآلاف من المورسكيين الذين سيكونون إن تم هذا التحالف طعنة في خاصرة المملكة الإسبانية. ويأتي أفوقاي بنص رسالة ملك إسبانيا فيليب الثالث إلى أمير مقاطعة بلنسية (فالنسيا) -وكان قد ترجمها إلى السلطان المغربي مولاي زيدان- مترجمة في كتاب رحلته هذه، يشرح فيها الملك الإسباني الأسباب التي دعته إلى قرار الطرد، وهو نص في غاية الأهمية لا تزال تتكئ عليه الدراسات المورسكية حتى يومنا هذا.
ولعل هذين السببين يكشفان لنا عن ثقافة أفوقاي، وإلمامه بالأوضاع السياسية في عصره، وهو إلمام أفادنا كل الإفادة بلا شك. وبهذا المقال نكون قد ختمنا حديثنا عن المورسكيين وأوضاعهم قُبيل وأثناء وبعد قرار الطرد في العام 1609م، من خلال تجربة أفوقاي شهاب الدين أحمد بن القاسم الحجري (ت بعد 1051هـ)، وهي تجربة تحمل من المعاناة والألم والمغامرة والثقافة وحوار الحضارات ثراءً وتنوعًا، تكفي لسلاسل أخرى مثل هذه السلسلة. ويبقى أن نشير أن كتاب «ناصر الدين على القوم الكافرين» أو «رحلة الشهاب إلى أرض الأحباب» المعروف برحلة أفوقاي قد أعاد نشره منذ شهور قليلة في مدريد العلامة قاسم السامرائي، وكم كان بودي أن أقف على هذه النشرة الجديدة التي تبدو أفضل من نشرة الدكتور رزوق وفي كلٍّ خير، ولعل ذلك يكون قريبًا إن شاء الله. نفع الله بالرجلين، ورحم الله كل مورسكي طُرد من وطنه!.
- 1- رحلة أفوقاي الأندلسي، تحقيق محمد رزوق، دار السويدي للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى – أبو ظبي، 2004م.
- 2- كليا سارنلي تشركو: "الحجري في فرنسا"، تعريب عبد الجليل التميمي، ضمن أعمال المؤتمر الثالث للدراسات الموريسكية حول تطبيق الموريسكيين الأندلسيين للشعائر الإسلامية، إشراف عبد الجليل التميمي -–زغوان، تونس 1991م.
- 3- هولندا والعالم العربي منذ القرون الوسطى وحتى القرن العشرين، تحرير نيقولاس فان دام وآخرين، تعريب أسعد جابر، منشورات وزارة الخارجية الهولندية – لاهاي.
- 4- عبد الله عبد الرازق وشوقي الجمل: تاريخ أوربا، المكتب المصري لتوزيع المطبوعات – القاهرة، 2000م.